رامبو... الانقلاب الأكبر على الشعر الفرنسي

سيرة جديدة تجاوزت الألف ومائتي صفحة من القطع الكبير

آرثر رامبو
آرثر رامبو
TT

رامبو... الانقلاب الأكبر على الشعر الفرنسي

آرثر رامبو
آرثر رامبو

استمتعت كثيراً هذا الصيف بقراءة سيرة رامبو التي كتبها الباحث جان جاك لوفرير. وهي أضخم سيرة ظهرت عن هذا الشاعر حتى الآن، إذ تجاوزت الألف ومائتي صفحة من القطع الكبير! ومنذ البداية يحق للمرء أن يتساءل: هل بقي شيء لم نكتشفه بعد عن رامبو؟ ألا تكفي مئات الكتب التي ظهرت عنه في مختلف اللغات من فرنسية وإنجليزية خصوصاً؟ ثم كيف يمكن لشاعر لم يمارس كتابة الشعر أكثر من أربع أو خمس سنوات على أكثر تقدير (بين السادسة عشرة والعشرين) أن يشغل العالم كله إلى مثل هذا الحد؟ كيف لشاعر يمكن حصر قصائده في ديوان صغير الحجم أن يبقى حاضراً بكل هذه القوة إلى يومنا هذا؟ ما هو سر هذا اللغز المحيّر؟ يقول المؤلف على صفحة الغلاف الأخير للكتاب: ولد آرثر رامبو في مدينة «شارلفيل» في شمال فرنسا عام 1854، ومات في مارسيليا عام 1891 عن عمر لا يتجاوز السابعة والثلاثين عاماً. وكل أعماله الشعرية تنحصر في مائة صفحة، على الأكثر. ولكن على الرغم من مرور أكثر من قرن على موته فإن قصائده لا تزال تمارس قدرة انفعالية هائلة على القراء، ولا تزال تحتفظ بحداثة حقيقية وكأنها كتبت البارحة. إن أعماله الشعرية تقع خارج كل أدب معروف وربما تعلو على كل أدب ممكن، كما قال الناقد فيليكس فينيون عام 1886 عن «الإشراقات». ولكن فيرلين يعتقد أن هذا الكلام ينطبق على كل أشعار رامبو وليس فقط على الإشراقات. إنه شعر يقع خارج كل شعر، شعر خالص يعلو على الشعر... انتهى كلام الناقد جان جاك لوفرير.

الشيء الطريف الذي نكتشفه في هذه السيرة الجديدة هو أن رسالة رامبو المشهورة باسم «رسالة الرائي» كانت قد بيعت مؤخراً للمكتبة الوطنية الفرنسية بمبلغ ثلاثة ملايين فرنك فرنسي!.. وهي لا تتجاوز الثلاث أو أربع صفحات. ومعلوم أنها أصبحت لاحقاً بمثابة النص المؤسس وشبه المقدس للحداثة الشعرية الفرنسية. في الواقع أنها مؤلفة من رسالتين متتاليتين، الأولى موجهة إلى أستاذه جورج إيزامبار، والثانية إلى صديقه بول دومني، ولكنهما تشكلان رسالة واحدة في نهاية المطاف. وفيها يدين الرثاثة الشعرية العتيقة والرومانطيقية الباهتة إن لم نقل المائعة ويقوم بأكبر انقلاب على الشعر الفرنسي. كما أنه يدشن الأدب الجديد ويرسم الخطوط العريضة لشعر المستقبل: أي لشعره هو بالذات. ولكن هل نعلم أن رامبو عندما أرسلها عام 1871 إلى صديقه لم يكن يمتلك ثمن الطابع البريدي لكي يضعه عليها فاضطر هذا الأخير إلى دفعه لكي يستطيع تسلمها؟ والآن تباع بثلاثة ملايين فرنك فرنسي! وهذا يذكرنا بقصة الرسام فان غوخ، الذي تباع لوحاته الآن بمئات الملايين من الدولارات في حين أنه كان يتضوَّر جوعاً عندما كان يرسمها!... مهما يكن من أمر فإن رامبو صفّى حساباته مع معظم الشعراء السابقين أو المعاصرين له في هذه الرسالة الشهيرة ودعا إلى انطلاقة جديدة في الكتابة الشعرية. بل إن هذه الرسالة تشكل قطيعة مطلقة مع الماضي. من هنا يمكن أن نفهم جملته الشهيرة: ينبغي أن نكون حديثين بشكل مطلق. ينبغي أن نقطع مع ماضي الشعر والنثر على حد سواء. ينبغي أن نجرب كتابة لم تُجرب من قبل قط. لم يعرف تاريخ الشعر ثورة راديكالية في مثل هذا الحجم والمستوى، ربما ما عدا لوتريامون، ذلك المجنون الآخر، أكاد أقول ذلك الوحش الآخر للشعر... بل إن رامبو طبق هذه الثورة الراديكالية الجنونية على نفسه عندما دعا صديقه إلى حرق - أو تمزيق - ديوانه الشعري الأول الذي كان مودعاً عنده! ولحسن الحظ فإنه لم يفعل. ولو أنه فعلها لكانت قد حصلت كارثة حقيقية، جريمة! لو أنها فعلها لكنا قد خسرنا بعضاً من أجمل قصائد الشعر الفرنسي في براءاته الأولى. آه من البراءات الأولى! آه من الطراوات الأولى!

لقد دخل الشاعر الهامشي «بول دومني» التاريخ فقط لأنه لم يمزق ديوان رامبو الأول: قصائده الغضة. شكراً له وألف شكر. لقد خلد نفسه في التاريخ لهذا السبب بالذات. كفاه فخراً أنه حافظ عليه أو قل رماه في أحد أدراجه العتيقة دون أن يعرف أهميته... ولكن عندما استشعر الأمر بعد سنوات طويلة وعرف أنه يمتلك كنز الكنوز في بيته راح يساوم عليه مادياً دور النشر لكي يفكّ ديونه... عندئذ كانت شهرة رامبو قد ابتدأت تنبثق وتصعد رويداً رويداً حتى طبقت الآفاق وقضت على كل شهرة أخرى... البعض يعتقد أن مانيفست الشعر الجديد، أي رسالة الرائي، لا ينطبق إلا على «الإشراقات» حيث تحلّل رامبو كلياً من قيود الأوزان والقوافي بل وحتى ما وراء الأوزان والقوافي... توصل إلى الشعر المطلق الذي لا شعر بعده. ولكن ماذا نفعل بـ«فصل في الجحيم»؟ وماذا نفعل بقصائد خارقة مثل «بوهيميتي»، أو «الحانة الخضراء»، أو «أحاسيس»، أو سواها؟ وهي من أوائل ما كتب. فـ«فصل في الجحيم» يمكن اعتباره كقصيدة نثرية أو كقصيدة تفعيلة في بعض الأحيان، أما القصائد الأولى، التي ذكرنا عناوين بعضها فكانت لا تزال تتبع الوزن والقافية تماماً. كانت مخلصة لعمود الشعر الفرنسي. لكن ما أجملها وما أطيبها! سوف أثبت إحداها في آخر هذا المقال. في الواقع أن رامبو، وكما تقول الناقدة سوزان برنار، كان يتحلّل في كل مرحلة من قيود جديدة حتى وصل أخيراً إلى شكل شعري حر تماماً من كل قيود. لقد خلع قيوده وأصفاده كلياً وتحول الشعر لديه إلى هواء منبث، إلى أثير... ولا ريب في أن «الإشراقات» تجسد هذا الشكل الشعري الذي سعى إليه رامبو واعياً أو غير واع منذ البداية. ولكنه لم يستطع أن يتوصل إليه إلا في خاتمة مساره الشعري. وهذا أمر طبيعي: فالانفلات من كل القيود ليس عملية سهلة، ولا يمكن أن يتمّ دفعة واحدة وإنما على مراحل. وشعراء الحداثة العربية ابتدأوا هم أيضاً بكتابة الشعر العمودي الموزون، ثم انتقلوا إلى قصيدة التفعيلة كحل وسط، قبل أن ينتهوا أخيراً إلى قصيدة النثر... وبالتالي فإن التطور الذي مرّ به رامبو يعتبر نموذجاً كلاسيكياً لكل ما حصل بعده.

يلاحظ المؤلف أن النظرية الشعرية الجديدة التي أتى بها رامبو لم تؤثر على شعراء جيله، بل ولم يسمعوا بها على الإطلاق! وهذا شيء لا يكاد يُصدَّق بالنسبة لنا نحن المعاصرين. ولكن أليس الرواد يجيئون دائماً قبل الأوان؟ من عرف أهمية نيتشه في وقته أو هولدرلين أو كافكا أو فان غوخ أو بعض المجانين الآخرين؟ لا أحد تقريباً. ولكن شعراء القرن العشرين راحوا يعدون «رسالة الرائي» بمثابة إنجيل الحداثة الشعرية الفرنسية بل والعالمية. راحوا يتمسكون بها حرفياً. نضرب على ذلك مثلاً: السرياليين.

فرامبو دعا، كما نعلم، إلى خلخلة جميع الحواس، وإلى الانخراط في كل التجارب الحياتية البوهيمية والهيجانية الجنونية قبل كتابة حرف واحد في الشعر. والسرياليون راحوا يطبقون نظريته حرفياً ويمارسون كل أنواع الشذوذ والجنون في شوارع باريس ومقاهيها، وأثاروا عليهم غضب الرأي العام والأخلاق التقليدية المحافظة. وكثيراً ما كسروا الكؤوس والأواني في مقاهي باريس من خلال معارك صاخبة مع بعضهم بعضاً أو مع آخرين. وهي معارك مفتعلة لا هدف لها إلا التخريب والتجريب وانتهاك كل القوانين الاجتماعية للبورجوازية الفرنسية المهذبة أكثر من اللزوم. بل ووصل بهم الأمر إلى حد الدخول على الكاتب الشهير «أناتول فرانس» وهو ميت مسجى في كفنه فصفعوه كفاً أو كفين على كلتا وجنتيه ثم خرجوا أمام ذهول الحاضرين وعدم تصديقهم لما يرون... من يستطع أن يفعل ذلك غير السرياليين؟ ولكن هناك بالطبع جوانب أخرى لهذه الثورة السريالية العظيمة التي حررت الوعي الباطني من كل القيود الدينية القمعية والعادات الاجتماعية الخانقة وجعلته ينفجر انفجاراً. ثم توصلنا أخيراً إلى الكتابة الأوتوماتيكية، أي إلى الحرية الانفلاشية الحرة التي لا حرية بعدها.

رسالة رامبو المشهورة باسم «رسالة الرائي»، التي لا تتجاوز أربع صفحات، بيعت مؤخراً للمكتبة الوطنية الفرنسية بثلاثة ملايين فرنك فرنسي

أحاسيس

في الأمسيات الزرقاء للصيف، سوف أنخرط في الدروب الضيقة،

موخوزاً بسنابل القمح، سوف أدعس الأعشاب الصغيرة:

حالماً، سوف أشعر بطراوتها على قدمي.

وسأترك الريح تبلل شعري العاري.

...

لن أنبس بكلمة، لن أفكر بشيء:

ولكن الحب اللانهائي سوف يصعد في أعماق روحي

وسوف أذهب بعيداً، بعيداً جداً، كبوهيمي،

متغلغلاً في أحشاء الطبيعة، كما لو أني مع امرأة.


مقالات ذات صلة

كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!