«موسم أصيلة الثقافي الدولي» يناقش تحولات المعنى في الفن المغربي المعاصر

وسط قلق متصاعد بخصوص أوضاع الممارسة الفنية

«موسم أصيلة الثقافي الدولي» يناقش تحولات المعنى في الفن المغربي المعاصر
TT

«موسم أصيلة الثقافي الدولي» يناقش تحولات المعنى في الفن المغربي المعاصر

«موسم أصيلة الثقافي الدولي» يناقش تحولات المعنى في الفن المغربي المعاصر

تناولت ندوة «الفن المغربي المعاصر والسؤال الثقافي» التي تواصلت أخيراً على مدى يومين، ضمن فعاليات موسم أصيلة الثقافي الدولي الـ44، في دورته الصيفية، واختتمت أشغالها، السبت، واقع الممارسة الفنية المغربية، بما تطرحه من أسئلة على علاقة بتحولات المعنى والقيمة.

يمكن القول إن الورقة التي قدم بها شرف الدين ماجدولين، الناقد وأستاذ التعليم العالي بالمعهد الوطني للفنون الجميلة بتطوان، للندوة، وضعت المتدخلين في خضم الأسئلة الحارقة لمقاربة الموضوع، بحديثها عن أسس العطب التي أفضت إلى عدم القدرة لدى الأغلبية على امتلاك وعي ثقافي يسند المهارة والإنجاز التشكيليين، فضلاً عن مفارقة اتساع قاعدة الممارسة الفنية بالمغرب، مقابل بروز تدريجي لفنانين بـ«ملامح عجز فكري» متفاوت، قد ينحصر في مظهر أول في الاتكال على المهارة والمعرفة الفنية، وقد يمتد إلى الاكتفاء بتفاصيل سطحية من تاريخ الفن، لتبرير الاختيار والسعي إلى تفسير العمل البصري.

وتحدث ماجدولين عن إمكانية ربط «الإعاقة الفكرية» بالمشهد الثقافي، وما تخلله في مرحلة ما بعد سبعينات القرن الماضي من تفتت طاغٍ، أفضى إلى «انعزالية ملحوظة لمبدعي الأجناس التعبيرية المختلفة بعضهم عن بعض».

وانطلقت الندوة، الجمعة، بمشاركة كل من: محمد بن عيسى، رئيس بلدية أصيلة وأمين عام مؤسسة منتدى أصيلة، وشرف الدين ماجدولين، ومحمد نور الدين أفاية، الباحث ومدير المعهد الأكاديمي للفنون بأكاديمية المملكة المغربية، وحسان بورقية، الفنان التشكيلي والناقد الفني والمترجم المغربي، ومحمد رشدي، الفنان التشكيلي والناقد الفني ومنظم المعارض، ومحمد الشيكر، الناقد الفني وأستاذ التعليم العالي بجامعة محمد الخامس بالرباط. بينما شارك في الجلسة الثانية، السبت، والتي سيرها أفاية، كل من: حسن الشاعر، الفنان التشكيلي المغربي، وعزيزة العراقي، منظمة معارض ومديرة رواق بطنجة، وعبد الله الشيخ، الناقد الفني، ويوسف وهبون، الفنان التشكيلي وأستاذ التعليم العالي بجامعة محمد الخامس بالرباط.

واستحضر المتدخلون في جلسة الافتتاح الأدوار التي لعبتها مواسم أصيلة على مستوى الفن المغربي المعاصر، على اعتبار أن الفن التشكيلي مثل الهاجس الأساسي الذي نبع منه الموسم، بشكل منح أصيلة لقب «مدينة الفنون»، وأكسبها مشروعية على مستوى ما يطرح اليوم من أسئلة.

علاقة أصيلة بالفن التشكيلي كانت حاضرة في كلمة بن عيسى الذي تذكر رفيقه الفنان الراحل محمد المليحي، ورغبتهما في إخراج مدينة أصيلة مما كانت تعانيه من إهمال؛ فتحدث عن اختيار «تحسيس ناس أصيلة بأهمية مدينتهم من خلال الصباغة على الجداريات». وأضاف: «لم يكن عملنا مفهوماً في زمن الحرب الباردة وصراعات السبعينات الصعبة في المغرب. من لم يكونوا يعرفوننا كانوا يناهضوننا على أساس أننا نسعى لصباغة الجداريات التي يسكنها الضعفاء والفقراء... لقد كانت مبادرتنا تروم إثارة انتباه المسؤولين إلى وضعية المدينة. كانت هناك جرأة وروح مغامرة لاستضافة أسماء معروفة، من قيمة ليوبولد سيدار سنغور. ثم انتبهت الدولة إلى ما تحتاجه المدينة من متطلبات أساسية».

أدوار مواسم أصيلة وما حملته من جديد وإضافة، كانت حاضرة في كلمة أفاية الذي قال إن «تجربة أصيلة تجربة أصيلة»، مشدداً على أن موسمها «مختبر ثقافي استثنائي في تاريخ المغرب»، مثمناً «ما تتميز به نخبة المدينة من إرادة المعرفة ومن خيال ومن مبادرات، وفي طليعتهم محمد بن عيسى؛ حيث احتضنت وتناولت وواجهت كل الأسئلة التي شغلت النخبة المغربية المعاصرة في علاقتها بذاتها، وبالممارسات الثقافية والفنية، وبالقضايا الكبرى التي تشغل الإنسان بعامة، تحركها إرادة واضحة في الارتقاء في مختلف أوجه قضايا الثقافة العصرية».

ورأى أفاية معاينات بخصوص المشهد الفني المغربي المعاصر، أن مؤشرات عديدة تؤكد أن التحولات التي شهدها المجتمع المغربي في العقود الأربعة الأخيرة جعلت «صورة المثقف والفنان والنخب الكلاسيكية تهتز وتتراجع بالتدريج»، تعود لجملة أسباب، لخصها في تسعة: أولها «ضعف ذاتي داخل النخبة ناجم عن سياقات تشكلها»، وثانيها «تغير بنية النخبة الثقافية المغربية ووظائفها بسبب التحولات الكبرى التي طرأت في بنية المجتمع، بسبب إدماج المجتمع القسري والسريع في عالم الاستهلاك المادي، بكل ما يفترض ذلك من قيم لا تساعده على الاجتهاد والإبداع والتميز»، وثالثها «بروز نخب جديدة تتميز بالبراغماتية والنفعية الآنية، مرتبطة بالرأسمال الاقتصادي بدلاً من الرأسمال الرمزي»، ورابعها «الاستبطان المنقوص والمزيف لقيم الحداثة، وما ترتب عنه من نزاعات وصراعات بين المثقفين والفنانين، وعجزهم عن المساهمة في خلق تيار عام مقتنع بقيم الاعتراف والإبداع والاختلاف»، وخامسها «تراجع الجامعة وتدهور جودة التكوينات»، وسادسها «ظهور نخب دينية وسياسية وإعلامية تطغى عليها النزعات المصلحية، تشتغل تحت الطلب، ولا تكثرت كثيراً لبناء قيم المواطنة والمبادرة، أو إلى أخلاقيات التفكير النقدي والمناقشة»، وسابعها «تنامي الوسائط الجديدة في الإعلام، ودورها في ظهور فاعلين افتراضيين ومؤثرين بكل الصفات وأنماط الخطاب؛ حيث تحولت الأمية عندنا من أمية بسبب الجهل بالقراءة إلى أمية قراءة الأحداث السريعة السطحية دون إعمال العقل»، وثامنها «تعميم ما ينعت بالتفاهة في وسائط الإعلام والتواصل في المجتمع، والاحتفال بقصص نجاح في الرياضة وفي الغناء وغيرها من المجالات التي تجلب الأنظار والمشاهدات أكثر من أي متخصص في الإبداع والمعرفة»، وتاسعها «ازدهار ميولات التهافت على الحقول الإبداعية، كما على الكتابة عنها».

ولأن الفنان يبقى الأقرب إلى تناول ما يحيط بسؤال الممارسة، فقد رأى بورقية أن يتحدث عن شجرة أنساب الفنان من الفلاسفة والأدباء؛ مشيراً إلى أن الفن هو الذي كان يولد المفاهيم، ويقدم لنا رؤية للحياة وللعوالم المشتركة داخل اللوحة. وقال إن الحديث عن لوحة واحدة يجرنا -بالضرورة- إلى الحديث عن تاريخ الفن بشكل عام، وأننا لكي نؤثر في الجمهور، يستحيل أن نقدم عملاً عن أنفسنا، كصورة تتكرر باستمرار، من دون أن نصدم هذا الجمهور بالإتيان بشيء جديد وغريب. ورأى أن الفنان، حين يتحكم في تقنية أو يصل إلى نهاية تجربة، عليه أن يهجرها، ليذهب بحثاً عما يجهله.

بقية المداخلات قاربت سؤال الندوة من خلفيات متعددة؛ حيث ناقشت الكيفية التي يمكن بها لأثر أو عمل فني أن ينجز في علاقة بأعمال سابقة. كما تطرقت إلى وضعية المشهد الفني المغربي، من جهة البحث الأكاديمي والنقد الفني، مع الإشارة إلى أن سؤال الثقافة يهم المجتمع، ويحدد الهوية، وأن ثقافة مجتمع ما هي ما يشكل هويته وخصوصيته.

انشغالات الجيل الجديد من الفنانين المغاربة كانت حاضرة، أيضاً، من خلال المعاينة التي قدمتها عزيزة العراقي بحديثها عن معاناة ومشكلات وصعوبات تواجههم، طارحة سؤال إن كان الأمر يتعلق بمشكل في التكوين أم بمشكل ذاتي يتعلق باستعجال بناء مسار الفن وفرض الحضور والذات؛ مع تشديدها على ضرورة أن يكون الفن محركاً اجتماعياً وثقافياً وليس اقتصادياً فقط.

على مدى مداخلات المشاركين، لوحظ منسوب متصاعد من القلق، بخصوص أوضاع الممارسة الفنية، مع محاولات ربط متكررة لسؤال الندوة بسؤال قدرة الفنان على الإقناع المعنوي، مع تكرر جملة من التوصيفات «الحارقة»، من قبيل «وهم الوصاية» الذي يمارسه البعض، بشكل يجعل الهامش مصيراً لكثيرين؛ مع التشديد على أن المشكل -كما جاء في مداخلة الشيخ- ليس في الإبداع الفني؛ بل في التداول، وبالتالي ضرورة عدم تحميل المبدع ما لا يطاق.



ضياء العزاوي: أي مادة تصلح أن تكون مختبراً للمغامرة والاختلاف

ضياء العزاوي: أي مادة تصلح أن تكون مختبراً للمغامرة والاختلاف
TT

ضياء العزاوي: أي مادة تصلح أن تكون مختبراً للمغامرة والاختلاف

ضياء العزاوي: أي مادة تصلح أن تكون مختبراً للمغامرة والاختلاف

يتمتع الفنان التشكيلي العراقي ضياء العزاوي، بحضور بارز في المشهد التشكيلي، ليس العراقي فحسب بل العالمي، ونيله قبل أيام الدكتوراه الفخرية من جامعة كوفنتري في بريطانيا، دليل على هذا الحضور.

تخرج العزاوي في كلية الآداب –قسم الآثار- عام 1962، ثم نال شهادة دبلوم رسم من معهد الفنون الجميلة عام 1964. وهو من الأعضاء المؤسسين لجماعة الرؤية الجديدة وعضو جمعية التشكيليين العراقيين ونقابة الفنانين. وهو يعيش في منفاه الاختياري في بريطانيا منذ أكثر من ثلاثين عاماً.

بمناسبة صدور كتابه «صورة الشعر» التقيناه وكان معه هذا الحوار:

* كتابك «صورة الشعر» يلخص تجربة طويلة لك في مسيرتك الفنية في «رسم» الشعر، ما طبيعة القصائد التي تختارها وتشدك إلى «رسمها»؟

- جئت للشعر من الأسطورة بفعل تأثير الدراسة في قسم الآثار، إذ شكّلت الأسطورة أحد المراجع الأساسية في دراسة مجتمع بلد ما بين النهرين، وكانت ملحمة كلكامش من أساسيات تلك المراجع. ولعلّ طلب الناقد جبرا إبراهيم جبرا أن أرسم مختارات من هذا النص الذي ترجمه عالم الآثار طه باقر لنشره في مجلة «العاملون في النفط»، وكان جبرا رئيس تحريرها، هو الذي أغواني بالذهاب بعيداً حتى عن الجانب الأكاديمي. أيُّ مادة تصلح أن تكون مختبراً للمغامرة والاختلاف عن مشاغل جيلي من الفنانين. بعدها شكّلت نصوص التصوف، لا سيما نصوص الحلاج، ميداناً جديداً أخذني فيما بعد لنص الوائلي عن مقتل الحسين. عبر هذه الأعمال أصبح فن «التخطيط» أحد أهم انشغالاتي واستمر إلى الآن. لعلّ مجموعة المعلقات التي رسمتها في السنوات الأولى من استقراري في لندن شكّلت البداية الجدية للتعامل مع الشعر عبر اطلاعي على المخطوطات الإسلامية التي جعلتني مؤمناً بأهمية مرجعيتها وما يناسب ما أسعى إليه. القصائد التي شدّتني هي تلك التي فيها قدرة على إرباك المخيلة بعيداً عن التفسيرات اللفظية. شخصياً أميل لسماع الشعر لا قراءته، فالسماع ينتسب للموسيقى خصوصاً إذا كان الشاعر مجيداً في قراءته مثل درويش، وأدونيس وقلة آخرين مثلهما. عملية السماع تقودني إلى فعل القراءة، والتركيز على الكلمات، ومن ثم إلى المعنى المحرك للخيال.

* ما الذي دفعك إلى التعاطي مع المنجز الشعري لعدد من كبار الشعراء العرب، بتخطيطات منك... هل كان ذلك استلهاماً لقول الشاعر الروماني هوراس: «إن الشعر صورة ناطقة، والرسم شعر صامت، وهكذا نحن، نبحث في الشعر عن الصورة»؟

- الصورة شيء والمخيلة شيء آخر. للأولى محدودية ترتبط بالنص، والثانية تضاد نغميّ يقترب من الروح التي لا تفصح عن المكنون. بهذا يمكن أن تتحقق القدرة على إنجاز عمل لا يفسر، لكن ينحاز لنبض اللون المتداخل مع الخط ليكوّن عالماً موازياً للنص.

- جيل الستينات كان يهمه عدم القبول بالسائد فنياً، مما أدى إلى انطلاق جماعة الرؤية الجديدة التي بدورها أصدرت بياناً لم يكن مضمونه يخلو من السياسة، مع ارتباطه بالمتغيرات الفنية والثقافية.

* ما الأمور التي جمعت أعضاء الرؤية الجديدة، التي لم يوّحدها أسلوب واحد؛ هل الرغبة في التجديد، أم هي المغايرة؟

- الرغبة في التجديد والاختلاف عمّا هو شائع، ولعلّ تنوع المادة والأسلوب كان سبباً في إغناء التجربة، إذ كان أغلبنا يجمع بين الطباعة والرسم مما وفَّر ظروف عمل سعينا فيها إعطاء كل وسيلة حقها. كنا كحال الجماعات الأخرى مجموعة من الأصدقاء بأعمار متقاربة ودراسة فنية متنوعة ومختلفة، لم ندَّعِ وحدة الأسلوب بقدر ما كان بحثاً مشتركاً قد يقود إلى وحدة ما في الأسلوب بفعل التجربة. ذلك ما أكدناه في مقدمة دليل المعرض عام 1974: «إننا نجد أنفسنا ملزمين بأن يعبِّر كلٌّ منّا عن حقيقته دونما أن تكون هناك معادلات وأرقام محددة تحددنا. إن وجود اللوحة يتحقق بذاتها، وعبر المسافة التشكيلية التي كوَّنها الفنان لنفسه».

* رغم أن «التجريد» كان السمة الأساسية في أعمالك، لكنك انشغلت بالملاحم الاجتماعية والدينية العراقية، وإن كانت بتقنيات أوروبية؟ ما السبب في هذا التحول؟ هل لتأكيد استعاراتك الفنية من التاريخ الوطني والشعبي بالدمج بين التشخيصية والتجريد؟

- اللوحة في الأساس مُنجز غربي له علاقة بالأيقونة الدينية وهي تقنية يستخدمها الفنان الصيني والهندي والياباني إلى جانب الأميركي والفرنسي. الاختلاف هو في القدرة على إخضاع التقنية لتصورات فيها جانب من الفرادة. الفنان الصيني المعاصر مع كل موروثه الفني الهائل وشديد الاختلاف استخدم ما سمّيتها «التقنية الغربية». اختلافه في الموضوعات التي طرحها وعلاقتها المباشرة بهموم مجتمعه وفي إغناء التقنية الغربية بالحرفة التي يجيدها الفن الشعبي الصيني. شخصياً كنت، مثل عديد من رسامي جيلي، مهموماً بالهوية الوطنية التي بدأت مع جماعة بغداد التي دعت إلى فن عراقي، إلا أننا وبالتفاعل مع المستجدات عملنا نحو فن عربي مع التزام أخلاقي بما فرضته الظروف السياسية من مواقف وطنية خصوصاً الموضوع الفلسطيني. وقد تحقق ذلك بإقامة المعارض الشخصية في بلدان عربية خصوصاً بيروت (كاليري وان) والكويت (كاليري سلطان).

* هل ما زال النتاج الإبداعي للفنان العزاوي محملاً بطبيعة جدلية قائمة على البحث عن فن وطني حامل هويته في الوقت الذي يُفترض انتماؤه إلى المعاصرة، أم ثمة دافع أو رؤية مختلفة باتت تؤطر هذا النتاج؟

- بعد كل هذه السنوات في لندن لم تعد المحلية عامل تفاعل مع ثقافة الآخر. كان عليَّ العمل الجدي في تحقيق القدرة على الاختلاف عبر موضوعات لها مرجعية وطنية ذات بعد تاريخي في الحضارات القديمة، قادرة على التفاعل مع المستجدات الفنية، وفي الوقت نفسه توسيع حدود عملي بالذهاب للنحت بوصفه عملاً منفرداً أو فعل إضافةٍ إلى اللوحة، وما ولَّده ذلك من إغناء للمساحة التي أتعامل معها. في السنوات الأخيرة شكَّلت تجربة الحياكة (digital weaving) نافذة جديدة لتحقيق أعمال بفعل مداخلة فن التخطيط مع هذه التقنية الحديثة.

* انعكست صورة المدينة بوصفها موضوعة فنية شديدة الحضور في تجربة الفنان العزاوي، التي اعتمدت، في بُعدها الجمالي، على صورة «بغداد» بصفتها متخيلاً سردياً وصورياً عنها. لقد استلهمت مثل هذه العلاقة، خصوصاً في دفاتر الرسم ولوحاتك الفنية، ما الذي تبقى من هذه المدينة داخلك بعد أن غادرتها منذ خمسة عقود تقريباً؟

- ما زالت مدينة بغداد محرِّضة على الخيال، ليست بوصفها جغرافيا بل بصفتها روحاً تستبطن كل مفردات الحياة. تغيرت المدينة كثيراً كما عكسه عديد من الفيديوهات التي رأيتها، وذهبت أحياؤها القديمة للنسيان والإهمال، وتشكلت خريطة جديدة لما يطلق عليها المكونات، وهو ما رصدته جامعة كولومبيا في نيويورك. ألهمني هذا الرصد بعملين كبيرين تحت عنوان «خريطة بغداد قبل عام 2003 وما بعده». ما قاله الصديق الراحل الشاعر يوسف الصائغ: «أنا لا أنظر من ثقب الباب إلى وطني لكني أنظر من قلب مثقوب» نصٌّ يُلاحقني ويكاد يكون مسطرتي التي لا تحيد أرقامها عن مخيلتي.

* أنت متابع حصيف لما ينتجه الفنان العراقي، سواء في داخل العراق أو خارجه، هل تعتقد أن طبيعة هذا النتاج قد تضررت مرة بسبب الحصار في تسعينات القرن المنصرم، ومرة ثانية بتداعيات الاحتلال الأميركي للبلد...؟ أقول كيف لهذه التجربة أن تستعيد عافيتها مجدداً، ما الذي يحتاج إليه الفن العراقي؟

- ما حصل للفنان العراقي من أضرار لم يحصل في أي تجربة أخرى. أدى خروج الفنانين المبدعين بفعل الضائقة التي خلقها حصار مجرم إلى تدهور التجربة وذهب عديد من الفنانين في الداخل إلى غواية الشهادة الجامعية وتخلى عن البحث الفني الفعال، إما بفعل الضغط الاقتصادي وإما انحيازاً إلى المباهاة الاجتماعية. لم تعد وزارة الثقافة منشغلة جدياً بتلافي الأضرار التي حدثت في المجموعات الفنية التي تكونت عبر السنوات في متحف الفن الحديث ولا بتطوير رؤيتها عبر أشخاص أكفَاء وخلق فرص لتفاعل الفنانين المحليين مع الخارج عربياً أو عراقياً.

هناك جيل توَّاق للمعرفة لكنَّ وسائط التواصل الاجتماعي وما فيها من نافذة انفتاح مذهلة قد لا تقود إلى الإيجابية، دائماً إزاء هذا الكم من فناني «فيسبوك» المتنوعين بانشغالاتهم المتواضعة والحرص الدائم على نشر صورهم دونما سبب بين الحين والآخر. لقد حقق بعض الأسماء مكانةً في الفن العالمي رغم الازدحامات، إلا أنهم بعيدون عن التأثير بحكم عوامل عديدة قد يكون منها عدم وجود فعاليات ومعارض جادة تحرِّضهم على الحضور والمساهمة كما نجده في بعض الدول العربية كالشارقة ودبي، ومؤخراً في الرياض وجدة.

* أصدرتَ مجلة «ماكو» قبل 5 أعوام وهي تُعنى بالتشكيل العراقي، ما الذي تختلف فيه عن باقي مجلات التشكيل الأخرى؟ ولماذا هذه المجلة؟

- مجلة «ماكو» معنية بشكل أساسي بتوثيق الفن العراقي وستبقى كذلك، لا يهمها الراهن الفني، فله رجاله وأدواته، وهي جهد تعاوني بين عديد من الأصدقاء، تحرص على توثيق التجارب الأساسية التي كوَّنت التاريخ الفني بعيداً عن سياسة التخاصم العربية.

ضمن معرفتي عربياً لا توجد مجلة تشبهها بصيغة تقديم الفنان بتنوع اهتماماته وعرض كل انشغالاته في مجالات إبداعية مختلفة. كما عملت على توفير تجارب جرى نسيانها أو لم تُتَح الفرصة لانتشارها. في العدد الثاني مثلاً من المجلة نُشرت مجلة مكتوبة بخط اليد أصدرتها الفنانة نزيهة سليم مع بعض أصدقائها يعود تاريخها إلى منتصف الأربعينات، وفي عدد آخر نُشرت رسالة من الفنان جميل حمودي في الأربعينات موجَّهة إلى جمعية الفنانين يطرح فيها رؤية متقدمة للفن العراقي. هذا النوع من الكنوز هو الذي يكتب التاريخ الفعلي وليس ما يُنشر في الصحف من عجالات نقدية.