كونديرا لم يكتب رواية مهمة بعد سقوط جدار برلين

رحل عن عالم لم يعد يحتمل

كونديرا لم يكتب رواية مهمة بعد سقوط جدار برلين
TT

كونديرا لم يكتب رواية مهمة بعد سقوط جدار برلين

كونديرا لم يكتب رواية مهمة بعد سقوط جدار برلين

في الحادي عشر من يوليو (تموز) 2023، توفي الروائي الكبير ميلان كونديرا عن سن تناهز 94 عاماً. وأخال أنه رحل غير آسف عن هذا العالم الغارق في الأزمات والحروب، وفي فضوى عارمة تهدد الحضارة الغربية، وأسسها ومبادئها وأنوراها التي عكستها جل رواياته، ومقالاته النقدية والفكرية التي تعكس ثقافته الفلسفية العميقة.

خلال السنوات الأخيرة كف ميلان كونديرا بعد أن شَغَلَ أحباء الرواية في جميع أنحاء العالم خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، عن الكلام وعن الكتابة. لذلك لم نعد نسمع عنه شيئاً تقريباً. ولعلّ الشيخوخة فَعَلتْ فعْلها، أو لعله فضّل أن يخلد إلى الصمت مثلما يفعل الحكماء عند اقتراب أجلهم.

وعلى أي حال، يمكن أن نقول إن ميلان كونديرا لم يصدر أي رواية مُهمّة بعد سقوط جدار برلين وانهيار الكتلة الاشتراكية بزعامة ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي. وقد يعود ذلك إلى أنه ركز كل مواضيع جلّ رواياته على فضح وإدانة الحقبة الشيوعية، ورموزها. فلما انتفت تلك الحقبة، لم يعد يملك ما يثير الاهتمام. وحتى الروايات التي كتبها بلغة موليير لم تتخلص من تبعات الحقبة الستالينية. كما أن كبار النقاد الفرنسيين لم يعيروها اهتماماً كبيراً. بل إن الكاتب بيار أسولين كتب يقول بأن هذه الروايات تقدم الدليل على أن كونديرا أصبح «يكتب ويفكر سيّئًا».

لكن علينا أن نقرّ بأن كونديرا أنجز خلال العقود الثلاثة الأخيرة دراسات رائعة عن فن الرواية أصدرها في ثلاث كتب هي: «فن الرواية»، و«الوصايا المغدورة»، و«الستار». وهذه الكتب النظرية التي خصصها كونديرا لإبراز خفايا فن الرواية الأوروبية منذ الفرنسي رابليه والأسباني سارفانتس وحتى بروست وجميس جويس وموزيل وغومبروفيتش وفرانز كافكا، وهرمان بروخ، لم تؤكد فقط معرفته العميقة بأعمال هؤلاء، بل أظهرت اطلاعه الواسع على الموسيقى، وعلى الفلسفة، وعلى التاريخ الأوروبي في مراحله المختلفة. وفي هذه الكتب النظرية، حدد ميلان كونديرا مفهومه للرواية قائلاً: «الرواية تعلمنا أن نفهم حقائق الآخرين، والطبيعة المحدودة لحقيقتنا. وهي تعلمنا أن نفهم العالم كما لو أنه سؤال مُتعدد الأوجه. لهذا السبب كانت الرواية ولا تزال، معادية للآيديولوجيا، إذ إن الآيديولوجيا تقدم إلينا العالم من خلال وجهة نظر حقيقة واحدة. وهي تمثله لنا كما لو أنه تجسيد لهذه الحقيقة».

ويواصل كونديرا حديثه عن الرواية قائلاً: «إذا ما رفضت الرواية التقيّد بالآيديولوجيا السياسية في عصرنا، والمساهمة في التبسيطات الآيديولوجية التي باتت مبتذلة وثقيلة، فإن هذا لا يعني موقفاً حيادياً من جانبها، وإنما هو تحد إذ إن الرواية تُسْقط نظام القيم المتعارف عليه، والأسس الجاهزة، وتقوّضُ الأفكار السائدة».

وعلينا أن نشير إلى أن نجم ميلان كونديرا في مجال الرواية بدأ يسطع على المستوى العالمي بعد أن أصدر ثلاث روايات يدين فيها حياة أبناء وطنه في ظل الاستبداد والطغيان الشيوعي. وهذه الروايات هي «المزحة»، و«غراميات مضحكة»، و«الحياة في مكان آخر» التي أحرزت على جائزة «ميديسيس» الفرنسية المرموقة وذلك عام 1973. وعن هذه الرواية كتب يقول: «لقد اخترت العنوان من بيت لرامبو. (والحياة في مكان آخر) كان طلبة ثورة ربيع 68 قد كتبوها على حيطان باريس كواحد من الشعارات التي رفعوها في تلك الفترة. و(الحياة في مكان آخر) هي وهم من الأوهام الأبدية للشبيبة، ولأولئك الذين لم يتمكنوا من تجاوز الحدود الفاصلة بين سن الشباب وسن الكهولة. وهي تعبير عن الرغبة الجامحة في الدخول إلى مملكة الحياة الحقيقية. ومثل هذه الرغبة تتطلب أفعالاً من قبل الشبان الثوريين، ومن قبل الشعراء الشبان». ويواصل كونديرا حديثه عن روايته المذكورة قائلاً: «قبل أن أكتب هذه الرواية، قرأت الكثير من سير الشعراء. وجميعها كانت تكشف بشكل جلي عن غياب الأب القوي. لذا يمكن القول إن الشاعر يخرج من بيوت النساء. وهناك أمهات يُفرطن في حماية شاعرهن الشاب مثل والدة ألكسندر بلوك، أو ريلكه، أو أوسكار وايلد، أو والدة الشاعر التشيكي الثوري فولكر الذي كانت سيرته عوناً مهماً لي أثناء كتابة روايتي. وهناك أمهات باردات لكنهن ليس أقل حرصاً على حماية أبنائهن الشعراء من الأمهات اللاتي ذكرت. عندئذ ابتكرت هذا التعريف للشاعر: إنه شاب تقوده أمه. وهو يعرض نفسه على العالم الذي لا يعرف كيف يدخله».

وفي منفاه الفرنسي أصدر ميلان كونديرا روايتين حققتا له شهرة عالمية واسعة وهما: «كتاب الضحك والنسيان»، و«الكائن الذي لا تحتمل خفته». وتقوم أغلب الروايات المذكورة على كلمات أساسية مثل الجهل، والنسيان، والضحك، والخلود، والدوار... كما تقوم على الجمع بين الأحداث والأفكار والتأملات الميتافيزيقية والفلسفية العميقة. ويعني ذلك أن كونديرا تمرد على الأشكال المتعارف عليها، والسائدة في الرواية الأوروبية ليبتكر شكلاً جديداً مستوحى من روائيين سبقوه أمثال ديدرو، وفلوبير، وكافكا، وموزيل، وهرمان بروخ، وغومبروفيتش.

وفي الروايات التي كتبها في منفاه الفرنسي، يحضر المنفى بكل تجلياته ومعانيه الفلسفية العميقة. ففي «كائن لا تحتمل خفته»، هو يكتب: «الذي يعيش خارج بلده، يمشي في فضاء فارغ فوق الأرض تحت شبكة الحماية التي تمدها إلى كل كائن بشري، البلاد التي هي بلاده، حيث عائلته، وزملاؤه، وأصدقاؤه، وحيث يمكن أن يُفْهَمَ من دون أيّ مشقة في لغاته التي يعرفها منذ طفولته». وعندما يصل إلى البلد المُضيف، يشعر المهاجر بحنين جارف إلى وطنه لأنه خرج من حضن اللغة الأم ليجد نفسه في عالم غريب شبيه بالفراغ، بل بالعدم. وهذا الحنين حسب كونديرا «لا يوقظ ذكريات، بل هو يكتفي بنفسه، وبالمشاعر والأحاسيس التي يثيرها، غارقاً في آلامه وأوجاعه». وفي روايات المنفى، تجسد الشخصيات التي ابتكرها كونديرا خصوصيّات أولئك الذين فروا من الأنظمة الشمولية، وليس أوضاع المهاجرين الذين أجبرتهم ظروف اقتصادية أو تاريخية على ترك بلدانهم للعيش في بلدان آمن وغنية.

وفي خريف عام 2008، نشرت جريدة تشيكية واسعة الانتشار، مقالاً أشارت فيه إلا أنه تم العثور على وثيقة في أرشيف البوليس السياسي في الفترة الشيوعية تثبت أن ميلان كان مُخبراً سرياً. ففي عام 1950، وشى بصديق له كان قد فر من الجيش التشيكوسلوفاكي ليهاجر إلى الغرب. وقد حكم على ذلك الجندي بـ22 سنة سجناً أمضى منها 14 في ظروف شاقة للغاية. غير أن ميلان كونديرا نفى التهمة المذكورة نفياً قاطعاً متلقياً مساندة مطلقة من العديد من الشخصيات السياسية والأدبية من أمثال الرئيس التشيكي فاتيسلاف هافيل، وغابريال غارسيا ماركيز، وكارلوس فيونتاس، وخوان غويتوسولو، وأورهان باموق، وكوتزي، ونادين غوردماير، وسلمان رشدي وآخرين.

ويمكن القول إن كونديرا المتأثر بديدرو إلى درجة أنه يعد هذا الأخير معلماً له، لم يكتف برواية قصص حب رائعة، أو برسم صورة مرعبة عن الأنظمة الشيوعية الشمولية، بل هو تعدى كل ذلك ليساهم بشكل كبير في إحداث «ثورة» في مجال الكتابة الروائية. ورواياته ليست فقط قصصاً، وإنما هي أيضاً تحليل نقدي عميق للتاريخ والمجتمعات، وللنفس البشرية. لذلك وصفت بـ«الروايات الفكرية» تماماً مثلما هو الحال بالنسبة لروايات توماس مان، وهرمان بروخ، وروبرت موزيل. ويقول الكاتب الأمريكي ربشارد باور إنه بعد أن قرأ «كتاب الضحك والنسيان، و«كائن لا تحتمل خفته»، اتخذت الرواية لديه «وجهاً جديداً ومنعرجاً غير مسبوق». ويعود ذلك بحسب رأيه إلى أن كونديرا يحرص في كل أعماله على أن تكون القصص التي يرويها مشفوعة بتأملات فكرية وفلسفية عميقة. وأما الكاتب جوليان ريوس فيرى أن كونديرا يتحاور من خلال رواياته ودراساته النقدية مع سابقيه من الكلاسيكيين والمحدثين على حد السواء. وهو يخرجهم من أماكنهم المعتادة، ومن مخابئهم الأكاديمية لتحديد رؤيتنا للرواية الغربية. لذلك كان كونديرا على حق في استعمال عبارة «الرواية التي تفكر».

في الروايات التي كتبها في منفاه الفرنسي، يحضر المنفى بكل تجلياته ومعانيه الفلسفية العميقة


مقالات ذات صلة

«مشروع 25» وفيلسوف وراء الترمبيّة

كتب روبرت نوزيك

«مشروع 25» وفيلسوف وراء الترمبيّة

لم تعد تصريحات الرئيس الأميركيّ دونالد ترمب ومواقفه تثير القلق الشديد عند نصف مواطنيه أو الحماس الصاخب عند نصفهم الآخر فحسب، بل وتحولت إلى ما يشبه عرضاً يومياً

ندى حطيط
ثقافة وفنون شوقي ضيف

العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

من مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف، فيقع التفنن في شهوات البطن من المأكل والملاذ والمشارب وطيبها.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون ذهبيات ساروق الحديد في إمارة دبي

ذهبيات ساروق الحديد في إمارة دبي

تحوي إمارة دبي مواقع أثرية عدة؛ أبرزها موقع يُعرف باسم ساروق الحديد، يبعد نحو 68 كيلومتراً جنوب شرقي مدينة دبي، ويجاور حدود إمارة أبوظبي.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون Instagram, Facebook and WhatsApp/ /dpa

كيف تقتلنا شبكة الإنترنت؟

قبل أن ينتشر التنوير بمختلف أرجاء أوروبا، ويُلهم أمثال توماس باين وتوماس جيفرسون داخل أميركا في عهد الاستعمار، كان يجري النظر إلى أغلب الناس

فرانك ماكورت
ثقافة وفنون «عملية تجميل»... فانتازيا سردية على وتر الثورة العلمية

«عملية تجميل»... فانتازيا سردية على وتر الثورة العلمية

من خلال رؤية فانتازية تطرح رواية «عملية تجميل» للروائية المصرية زينب عفيفي مفهوم الجمال من خلال لعبة مع الزمن، حيث العُمر يعود أدراجه الأولى، مخالفاً سنن الحياة

منى أبو النصر (القاهرة)

معرض للكتاب وبرنامج ثقافي مصاحب لتدشين «دار الكتب القطرية»

تُقدَّر عدد الكتب التي تضمها «دار الكتب القطرية» بنحو 400 ألف كتاب (قنا)
تُقدَّر عدد الكتب التي تضمها «دار الكتب القطرية» بنحو 400 ألف كتاب (قنا)
TT

معرض للكتاب وبرنامج ثقافي مصاحب لتدشين «دار الكتب القطرية»

تُقدَّر عدد الكتب التي تضمها «دار الكتب القطرية» بنحو 400 ألف كتاب (قنا)
تُقدَّر عدد الكتب التي تضمها «دار الكتب القطرية» بنحو 400 ألف كتاب (قنا)

تنظم دار الكتب القطرية بالتزامن مع تدشينها بحلتها الجديدة، معرضاً للكتاب، وذلك بمشاركة عدد كبير من دور النشر القطرية لعرض أحدث الإصدارات والإبداعات الفكرية والأدبية.

ومساء الاثنين دشن رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية القطري، الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن جاسم آل ثاني دار الكتب القطرية بحلتها الجديدة، وذلك بعد تطويرها وصيانتها بالكامل، بحضور وزير الثقافة الشيخ عبد الرحمن بن حمد آل ثاني، وعدد من المسؤولين.

وتضمن حفل التدشين إقامة معرض «دور النشر القطرية»، إلى جانب معرض داخل المبنى يحتوي على كتب نادرة ومخطوطات، بالإضافة إلى كتب أخرى توثق تاريخ دار الكتب القطرية.

وتعد دار الكتب القطرية أقدم دار كتب وطنية في دول الخليج العربية، وجاء تدشينها بعد انتهاء عملية ترميم شاملة حافظت خلالها الدار على الطابع التاريخي للمبنى مع إضافة تحديثات تكنولوجية؛ ما يعكس الحرص على المحافظة على الإرث الثقافي والمعرفي لدولة قطر.

وبالتزامن مع هذا التدشين، تنظم دار الكتب القطرية معرضاً للكتاب في حديقة «اقرأ» المواجهة للدار حتى 8 مارس (آذار) الحالي، بمشاركة عدد من الناشرين والمكتبات الخاصة.

ويصاحب تدشين الدار بحلتها الجديدة برنامج ثقافي بدأ الثلاثاء ويستمر حتى السبت المقبل، حيث يتضمن مجموعة من الندوات، تتناول مسيرة دار الكتب القطرية على مدى أكثر من نصف قرن، حيث سيتم تدشين كتاب تذكاري عن الدار، بجانب ندوة حول رحلة المكتبة القطرية في الأحساء، علاوة على ندوة أخرى حول دار الكتب القطرية وجهودها في دعم التعليم، بالإضافة إلى ندوة حول قراءة في كتاب «الطرق الحكمية في السياسة الشرعية»، الذي طبع على نفقة الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني.

كما يتضمن البرنامج الثقافي مجموعة من الورش التدريبية، ومنها ورشة في رسم أغلفة الكتب، بجانب تناول أساليب ترميم الكتب والمخطوطات، علاوة على إبراز جماليات الخط العربي.

وقد أطلقت الدار بمناسبة تدشينها بحلتها الجديدة، مسابقة لاختيار أفضل فيديو تعريفي لدار الكتب القطرية وتستمر حتى 8 مارس الحالي، حيث لا بد أن يظهِر الفيديو القصير نبذة عن الدار وخدماتها وتاريخها العريق.

وقدّر مدير دار الكتب القطرية إبراهيم البوهاشم السيد، في تصريح، عدد الكتب التي تضمها الدار بنحو 400 ألف كتاب عدا عن المخطوطات والدوريات، وقال إنه يتم حالياً العمل على ترميم ومعالجة الكتب وتجديد تجليدها، كاشفاً عن أن الدار تسعى للاعتماد على رقمنة مقتنياتها.