«رواية ما بعد - الاستعمار العربية»... مواجهة التذبذب الملتبس

الموسوي يحفر في مستويات السرد وخطاباته في قراءة لـ60 عملاً

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

«رواية ما بعد - الاستعمار العربية»... مواجهة التذبذب الملتبس

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

صدر كتاب الدكتور محسن جاسم الموسوي عن رواية ما بعد الاستعمار العربية، أولاً بالإنجليزية عن دار «برل» الهولندية سنة 2002، وصدرت طبعته الثانية سنة 2005، وصدرت ترجمة له بالعربية السنة الماضية عن مشروع «كلمة للترجمة - مركز أبوظبي للغة العربية» بترجمة د. موسى الحالول، ومن المقرر أن تصدر طبعة ثالثة له.

الكتاب يقع في 10 فصول بعد «العتبات التمهيدية»، حيث يركز الفصل الأول على قضايا ما بعد الاستعمار في الرواية العربية. بينما يهتم الثاني بشهرزاد في عصرنا: تطور الرواية العربية الحديثة. ويتلمس الفصل الثالث: مواجهة التذبذب الملتبس: أوجه التعاطي السياسي - الاجتماعي. في حين يركز الفصل الرابع على العرب والغرب: السرديات المضادة والمواجهات السردية. ويأتي الفصل الخامس معنياً بالمرأة: المرأة عربياً. أما السادس فهو انشغال تام بأصوات معارضة: مارقون ومتمردون وقديسون. ويعنى الفصل السابع بسردية المكان. ويستكمل الفصل الثامن: الزمن في السرد. أما الفصل التاسع فهو يدور في محور «التجاذب الثقافي وتعريف الذات في الماورائية العربية». ويخصص الفصل العاشر لعطايا شهرزاد: استراتيجيات محفوظ السردية في «ليالي ألف ليلة وليلة».

هومي بابا

يأتي الكتاب الجديد مستكملاً دراسات د. الموسوي الصادرة باللغتين العربية والإنجليزية، التي أثارت اهتماماً كبيراً في الأوساط الأكاديمية الأجنبية والعربية، وكذلك بين الجمهور العربي. ولكنه يفترق عن أربعة من كتبه في الرواية العربية، آخرها «انفراط العقد المقدس: الرواية العربية بعد نجيب محفوظ»، إذ يعنى بــ«الوعي الناشئ في السرد كما هو متجذر في المعرفة الحديثة التي توصف عادة بأنها ما بعد - الاستعمار»، كما يقول المؤلف. ومن خلال قراءة واسعة لما لا يقل عن 60 رواية، يقدم المؤلف رؤيته للحياة والثقافة في العالم العربي. والكتاب، مع ذلك، ليس مسحاً لخريطة الكتابة، بل تحليل سردي يتقصى قضايا الطبقة والجُنوسة والعرْق والوعي الثقافي الاجتماعي. وإذ يعكف المؤلف على موضوعات الهوية في ثنايا هذه الأمور، فإنه لا يستبعد التحليل السردي العميق لمسألة التعددية الصوتية، وتفاوت النبرة في الخطابات المعنية بالسرديات الأكبر، شأن الخطاب الوطني، أو المنبهرة بالآخر، أي الذات الاستعمارية. إن الممتع في هذه المحاججة أنها ترى في أغلب هذه الخطابات انبهاراً تاماً بالذات الاستعمارية، وتلمساً للذوبان فيها. ولهذا السبب، ينتقد المؤلف التماهيات المختلفة التي تتسلل في السرد والتي يلتقطها الروائي بوعي أو من دونه «لأن الكتابة تتشكل في داخل لوحة ثقافية تنتهك ذهن الكاتب بهذا الشكل أو ذاك».

إدوارد سعيد

ويتعمق الكتاب في قراءة مستويات السرد، وخطاباته، وبضمنها «القص الميتا ورائي»، أو التحتي، وكذلك المحاكاة والهزل والمفارقة والسخرية والمزاوجة والهجاء. ويتخذ من إميل حبيبي في «الوقائع الغريبة...» عتبة للمناقشة هنا، أو هناك. ومن خلال ذلك، يدرس الكتاب المزاوجة المثمرة ما بين خطاب ما بعد الاستعمار وخطاب ما وراء الحداثة باعتبارها مزاوجة مبررة إذا ما عرف ما بعد الحداثي حدود الإفادة منها، ومن ثم المزج ما بين المأساوي والكوميدي في تناول واقع محير.

يهتم الكتاب أيضاً بما يسميه «الجسد السياسي»، بما يتجاوز نشأته مصطلحاً عند ميشيل فوكو، بحيث يركز على التشعبات في الممارسات والرموز، ومالها من تأثير في تكوينات الجنس والعرق والطبقة وتشكيل الهوية. ويرى المؤلف أن الروايات توظّفُ السُّبل وعمليات الترميز ليلائم اهتماماتها، ولهذا لابد من التنقيب في «البنى الأجناسية والخطابية التي تجعل المعنى ممكناً».

ويستخلص الكتاب عند هذه النقطة أن «سبل السرد وسائط بيد الأقوياء والضعفاء على حد سواء، على كل مستوى من مستويات الإمبراطورية والأمة والدولة والطبقة والمجتمع والأفراد». وعلى الرغم من الغزارة التي تميزه، فإن كتاب «رواية ما بعد - الاستعمار»، يتجنب التحقيب أو ذلك التصنيف السهل للروايات، بل يتخذ من «الإشارة المجازية» للإطار الشهرزادي مدخلاً إلى تنوع الأساليب والمداخل وبلوغ الديناميات التاريخية لحركية المجتمعات. ويمكن أن تعيد استعارة التسمية المجازية لشهرزاد في ذهن القارئ كتاب المؤلف الصادر سنة 1993 عن دار الآداب: «ثارات شهرزاد: فن السرد العربي الحديث». وهو يريد بذلك أن يلفت الانتباه إلى ما بعد - حداثية تجاور بشدة وبتداخل عميق خطاب ما بعد الاستعمار لدرجة العبث به في أحيان عديدة، وهو ما دعا المؤلف إلى مساءلة «التذبذب الملتبس» الذي ظهر في كتابات بعض دعاة خطاب ما بعد الاستعمار مثل هومي بابا وسلمان رشدي. لكنه يتفق أن بعض الأساليب المواربة التي احتضنها ما بعد - الحداثي مفيدة في أحيان لكشف الهيمنة والقمع وتوجيه الانتباه إلى التشظي والتلغيز (للتعبير عن مخاوف الحب وخيبة الأمل) في ظروف صعبة ما بين الحروب والعلاقات المادية والاجتماعية المرتبكة.

أنور عبد الملك

الكتاب في توسعه وتدقيقه في القضايا الصغيرة والكبيرة، والشخصي والعام، والمأساوي والساخر، يفند ضمناً تلك التعميمات الساذجة والكتابات الممعنة في «تبعية أسلوبية» لمنهج ما. إنه يرى أن هذه الكتابات تنطلق من خضوع معلن أو موارب للسرديات الكبرى، سواء اتخذت هذه المركزية الأوربية منطلقاً أو احتفت بطابع إسلاموي أو قومجي. ولهذا السبب يحظى «اليومي» باهتمامات الرواية، كما يظهرها الكتاب، إذ إن الاحتفاء بالحياة اليومية، بمشكلاتها وجزئياتها يتسلل في ثنايا المرويات ويقدم لنا حياة هي ما يتشكل منها خطاب ما بعد - الاستعمار الخارج على هيمنة الخطابات الكبرى غير القابلة للمساءلة والنقاش.

الكتاب ليس مسحاً لخريطة الكتابة، بل تحليل سردي يتقصى قضايا الطبقة والجُنوسة والعرْق والوعي الثقافي الاجتماعي

يقول المؤلف: «إن تركيزي ينصب على الميل السردي الذي يُسائل التقاليد الكتابية الأصولية والتقليدية والاستعمار، وإن هذا الميل السردي... يرمي أساساً إلى الهدم ونزع الغموض، فهو يجعل القضايا إشكالية بدلاً من الاستسلام للملازمة المعتادة». ومثل هذا المدخل الذي يميز كتابة الموسوي النقدية يعني في النهاية استبطان النصوص وقراءة مستويات تعدديتها، والتنقيب في سبل الإشارة والتلميح والإحالة الواعية وغيرها. ومن هنا، يمكن القول إن هذا الكتاب هو بحث خلاق، بمعنى أن الفعل النقدي فيه، الذي لا يهجر الرصانة العلمية، هو مجموعة حفريات في السرديات قلما نجدها عند دارس آخر، إن المزاوجات الثرية بين النقد، بصفته ممارسة في الابتكار والخلق، وبين التدقيق المعرفي، تجعل هذا الكتاب ذا أهمية كبيرة ليس في ميدان قراءة الرواية العربية، حضورها وانتشارها وتاريخها وسعة أفقها، وإنما أيضاً في ميدان معرفة الثقافة العربية. إن النصوص، كما يناقش الموسوي، تتوالد عن أخرى، وفي غيرها لنكون كقراء أمام خريطة مفعمة بالفعل والثراء والإحاطة والتعمق في خريطة المجتمعات العربية وأساليب تعبيرها عن ذواتها أفراداً وجماعات.

إن ترجمة الكتاب عن «دار كلمة» يُعد منجزاً مهماً، وذلك لأن القارئ العربي لم يصافح هذه النظرية واشتباكها بالحداثي وما بعده إلاّ من خلال ترجمة بعض النصوص بقلم هومي بابا وسبيفاك. وكان إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق» سنة 1978 سباقاً في التقاط هذا النبض وطرحه أمام الأكاديميات أيام تخلخل البناء البيروقراطي والفوقي. وكما أشار المؤلف من قبل في مراجعة نظرية نشرتها مجلة «مداخلات» التي رأس تحريرها روبرت يونغ، إلى أن «الاستشراق»، وقبله مقالة أنور عبد الملك «الاستشراق في أزمة» كانا يشكلان عتبة مهمة لما تبناه خطاب ما بعد - الاستعمار وهو يهضم كتابات فرانسيس فانون المبكرة.

يقول المؤلف: «إن الغوص في هذه القضايا ليس رحلة في الزمان أو الأمكنة الغربية، بل انكباب مجزٍ يتخلل قضايا الهوية عموماً». والهوية، كما يراها، هي التي تخص الخاص جداً، كما ترتقي إلى العام عندما تتكاتف الهموم والاعتبارات في جزئيات السرد ووحداته.

*أستاذة في جامعة روتكرز - الولايات المتحدة الأميركية


مقالات ذات صلة

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

ثقافة وفنون «شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

عن دار «بيت الياسمين» للنشر بالقاهرة، صدرتْ المجموعة القصصية «شجرة الصفصاف» للكاتب محمد المليجي، التي تتناول عدداً من الموضوعات المتنوعة مثل علاقة الأب بأبنائه

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق المعرض يتضمّن برنامجاً ثقافياً متنوعاً يهدف إلى تشجيع القراءة والإبداع (واس)

انطلاق «معرض جازان للكتاب» فبراير المقبل

يسعى «معرض جازان للكتاب» خلال الفترة بين 11 و17 فبراير 2025 إلى إبراز الإرث الثقافي الغني للمنطقة.

«الشرق الأوسط» (جيزان)
يوميات الشرق الأمير فيصل بن سلمان يستقبل الأمير خالد بن طلال والدكتور يزيد الحميدان بحضور أعضاء مجلس الأمناء (واس)

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

قرَّر مجلس أمناء مكتبة الملك فهد الوطنية تعيين الدكتور يزيد الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية خلفاً للأمير خالد بن طلال بن بدر الذي انتهى تكليفه.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

مرَّت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الصعد، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)

دلايات ودبابيس جنائزية من الإمارات

قطعتان من رأس الخيمة تقابلهما قطعة من أبوظبي وأخرى من الشارقة
قطعتان من رأس الخيمة تقابلهما قطعة من أبوظبي وأخرى من الشارقة
TT

دلايات ودبابيس جنائزية من الإمارات

قطعتان من رأس الخيمة تقابلهما قطعة من أبوظبي وأخرى من الشارقة
قطعتان من رأس الخيمة تقابلهما قطعة من أبوظبي وأخرى من الشارقة

كشفت أعمال التنقيب في الإمارات العربية المتحدة عن سلسلة كبيرة من المدافن الأثرية حوت كثيراً من الحلي والمجوهرات المصوغة من الذهب والفضة والنحاس والبرونز والرصاص. تبرز في هذا الحقل مجموعة ذات أشكال حيوانية، صُنعت من سبيكة الإلكتروم المكونة من الذهب والفضة، على شكل دلايات أو دبابيس من نوع «البروش»، رافقت أصحابها الراقدين في مثواهم الأخير.

تعود هذه الحلي إلى الألفية الثانية قبل الميلاد، وتشهد لتقليد فنّي محلّي خاص، يتجلّى في تكوين أشكالها المجسّمة كما في صياغتها المتقنة.

أشهرها قطعة من محفوظات متحف رأس الخيمة الوطني، مصدرها مقبرة تقع في منطقة ضاية، شمال مدينة الرمس التي تشكل في زمننا المفتاح الشمالي لإمارة رأس الخيمة. كشفت عن هذه المقبرة بعثة ألمانية خلال السنوات الأخيرة من ثمانينات الماضي، وتبيّن أنها مقبرة يبلغ طولها 9 أمتار، وعرضها 4.4 أمتار، وقيل يومها إنها أكبر المقابر التي تمّ الكشف عنها في رأس الخيمة، وتعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد، وقد فقدت كثيراً من مكونات أثاثها بسبب تعرّضها لأعمال السرقة والنهب، واستخدام جزء كبير من مساحتها كمأوى للأغنام. حوى هذا المدفن مجموعة من القطع الفخارية والأواني الناعمة، إلى جانب مجموعة من الأدوات المعدنية، ومجموعة من الحلي المتعدّدة الأنواع. وضمّت هذه المجموعة من الحلي قطعاً بدا أنها دلايات تجمع بين الذهب والفضة والكهرمان، صيغت على شكل مجسّمات حيوانية تبعاً لنسق واحد وجامع.

أجمل هذه الدلايات وأكملها، دلاية هي كذلك أشهرها، وقد احتلّت صورتها غلاف كتاب خاص بآثار دولة الإمارات العربية، نشره المؤرخ محمد عبد النعيم في عام 1999 ضمن سلسة «آثار ما قبل التاريخ وفجره في شبه الجزيرة العربية». يبلغ طول هذه القطعة 5 سنتيمترات، وعرضها 11 سنتيمتراً، وتمثّل حيوانين من فصيلة الكلبيّات، يصعب تحديد جنسهما بدقة. صيغ هذان الحيوانان في قالب تحويري زخرفي صرف؛ حيث ظهرا متواجهين وملتصقين بشكل معاكس، أي الظهر مقابل الظهر، مع 6 قوائم منتصبة، مرصوفة عمودياً بشكل تعادلي متجانس. يشكّل جسدا هذين الحيوانين مساحة أفقية واحدة تزينها 4 كتل بيضاوية ناتئة. تعلو هذه المساحة الأفقية شبكة من الأسنان المرصوفة كأسنان المشط، ويتوسط هذه الشبكة ذيلا الحيوانين الملتفّين على شكل دائرتين لولبيتين مرتفعتين نحو الأعلى.

يتكرّر هذا الشكل في قطعة أخرى من مقبرة ضاية وصلت بشكل مجتزأ للأسف. يحضر الحيوانان في تكوين مماثل، غير أن بدنيهما يبدوان هنا منفصلين بشكل جلي، وتأخذ شبكة الأسنان المرصوفة تشكيلاً مغايراً، مع بروز الدائرتين اللولبيتين المتقابلتين في وسطها. حافظ أحد الحيوانين على رأسه وطرف قائمتين من قوائمه، وفقد الآخر الجزء الأكبر من بدنه. ويبدو هذا الرأس أشبه برأس ذئب يفتح شدقي فمه، كاشفاً عن نابين من أنيابه. تُمثّل هذه القطعة شكلاً من أشكال متنوعة تظهر في كل حلية من هذه الحلي التي تتبع نسقاً جامعاً. خرجت بعضها من مقابر تقع ضمن أراضي تتبع اليوم إمارة رأس الخيمة، وخرج البعض الآخر من مقابر تقع خارج هذه الإمارة، ومنها مقبرة على الحدود الشرقية لواحة القَطَارَة، في مدينة العين التابعة لإمارة أبوظبي.

كشفت أعمال التنقيب في هذه المقبرة عن مجموعة كبيرة من الأسلحة، ومجموعات من الأواني الحجرية والفخارية، دخل القسم الأكبر منها متحف العين. إلى جانب هذه القطع المتنوعة، تحضر مجموعة من الحلي والمجوهرات، منها بضع دلايات تشهد لشيوع هذا الطراز المحلي في هذه الناحية من الجزيرة العربية.

حافظت إحدى دلايات واحة القَطَارَة على تكوينها بشكل شبه كامل، واللافت أن هذا التكوين يماثل بشكل كبير تكوين دلاية ضاية الذائعة الصيت. يلتصق الحيوانان، وتبدو مساحة بدنيهما المتشابكين واحدة. في المقابل، تبدو ملامح رأسيهما أكثر وضوحاً، وتوحي بأنها تجمع بين الذئب والنسر، مما يعطي هذا الحيوان طابعاً خرافياً. يظهر هذا الرأس كذلك في قطعة معروضة في مركز مليحة للآثار، مصدرها مقبرة تقع في جبل البُحَيْص المجاور لبلدة المدام في المنطقة الوسطى من إمارة الشارقة. وفقاً للتقليد السائد، تمثل هذه الدلاية حيوانين مقرنين، يقفان في اتجاه معاكس، ظهراً إلى ظهر، مع ذنَبين ملتفين إلى الأعلى في الوسط. ضاع أحد هذين الحيوانين المقرنين بشكل كامل، وبقي الآخر، وتكشف صياغته عن دقة كبيرة في تجسيم مفاصل البدن وفقاً لبناء تشريحي متماسك.

يصعب تحديد وظيفة هذه الحلي بدقة، والأكيد أنها جنائزية، كما يشير حضورها في المقابر بشكل دائم. تعود هذه المقابر إلى عصر أطلق عليه البحاثة اسم عصر وادي سوق، نسبة إلى موقع أثري كُشف عنه بين مدينة العين وخليج عُمان. أظهرت دراسة هذا الموقع تحوّلاً كبيراً في طرق الاستيطان المتبعة في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، خلال الفترة الممتدة من 2000 إلى 1600 قبل الميلاد، كما أظهرت تحوّلاً في النسق والطرز الفنية. وظهرت ملامح هذه التحولات في مواقع أخرى متعدّدة من الإمارات.

تشكل الحلي ذات الرؤوس الحيوانية علامة من علامات هذا التحوّل الفني الذي تعددت صوره وأشكاله في ذلك العصر. تحمل هذه الحلي كما يبدو أثر وادي السند، غير أنها تتميز بطابع محلي خاص، ويتجلَّى هذا الطابع الخاص في تجسيمها المتقن، كما في صياغتها المرهفة.