هل يزأر الليث في الوعر وليس له فريسة؟

عُثر على تمثاله في موقع الأخدود على ضفاف وادي نجران

رأس أسد برونزي من نجران محفوظ في المتحف الوطني بالرياض
رأس أسد برونزي من نجران محفوظ في المتحف الوطني بالرياض
TT

هل يزأر الليث في الوعر وليس له فريسة؟

رأس أسد برونزي من نجران محفوظ في المتحف الوطني بالرياض
رأس أسد برونزي من نجران محفوظ في المتحف الوطني بالرياض

يتجلّى الأسد في مجموعة من الصور المنحوتة تعود إلى مواقع أثرية عدة في المملكة العربية السعودية، ويبرز في هذا الميدان رأس ليث مزمجر من البرونز، عُثر عليه منذ ما يقارب القرن من الزمن في نجران، نُشرت صورته للمرة الأولى في المجلة الفصلية الخاصة بالمتحف البريطاني في 1936، مع دراسة تحمل توقيع العالم البريطاني سيدني سميث.

وصل هذا الأسد البرونزي يومها إلى لندن من طريق المستعرب البريطاني جون فيلبي، ضابط الاستخبارات في مكتب المستعمرات الذي كان أوّل أوروبي قطع صحراء الربع الخالي من شرقها إلى غربها، ولقّب بالشيخ عبد الله. بحسب ما جاء في دراسة سيدني سميث، عُثر على هذا التمثال في موقع الأخدود، على ضفاف وادي نجران، ودخل مجموعة الأمير سعود بن عبد العزيز يوم كان وليّا للعهد في المملكة، ونُقل لفترة وجيزة إلى لندن لدراسته، بطلب مباشر من جون فيلبي. دخل رأس أسد نجران إلى لندن، ومعه طرف قائمة برونزية ذات ثلاثة مخالب، وقاعدة برونزية على شكل ميزاب تحمل نقشاً بخط المسند الجنوبي، وقيل إن هذه القائمة وهذا الميزاب يعودان إلى الموقع الذي خرج منه رأس الأسد.

في عرضه المختصر لهذه اللقى، رأى العالم المتخصص في الدراسات الآشورية سيدني سميث أن رأس الليث يحمل أثر الفن اليوناني الكلاسيكي، غير أنّه يتميّز بطابع شرقي محلّي لا لبس فيه، وهو في الأصل جزء من تمثال ضاع جسده، وبقي منه طرف قائمة من قوائمه، وهو من نتاج منتصف القرن الميلادي الأول كما يُستدلّ من خصائص أسلوبه الفنّي. توقّف الباحث أمام عيني الليث الفارغتين، وقال إنهما كانتا في الأصل مرصّعتين بأحجار لمّاعة على الأرجح، كما توقّف أمام سباله الناتئ، أي شاربه الذي يعلو شفته العليا، ورأى أنه منفّذ بمتانة قلّ نظيرها، ممّا يجعل هذا الرأس أثراً فريداً من نوعه في هذا الميدان. من جهة أخرى، نقل سيدني سميث عن الكاهن المستعرب غونزاغ ريكمن قراءته للنص المنقوش على ميزاب، وتبيّن أن هذا النقش يشير إلى إهداء قدّم إلى «ذو السماوي»، «مع بواكير الغلال»، واتّضح أن هذا الميزاب كان في الغالب قاعدة لتمثال الأسد.

دخل أسد نجران في الظل بعد صدور هذه المقالة التعريفية، وعاد إلى الظهور في كتاب علمي فهرسي يعرّف بنتاج قطع البرونز في الجزيرة العربية، صدر باللغة الإيطالية في روما عام 2007. أعدّت هذا الكتاب العلمي الباحثة اليمنية عزة علي عقيل والباحثة الإيطالية سابينا أنطونيوني، وحضر فيه أسد الأخدود في تعريف مختصر من بضعة أسطر، وقيل في هذا التعريف إنه يعود إلى «مجموعة خاصة» فحسب. دخل هذا الأسد بعد فترة وجيزة المتحف الوطني في الرياض، ثمّ جال العالم ضمن معرض «طرق التجارة القديمة» الذي انطلق في باريس، صيف 2010، وعُرف بشكل واسع منذ ذلك التاريخ. عُرض هذا الرأس مع المخلب والميزاب اللذين خرجا من موقعه الأصلي، ورأى أهل الاختصاص أنه من نتاج القرن الميلادي الثاني، بخلاف التأريخ الذي اقترحه سيدني سميث في دراسته الأوّلية.

طول هذا الرأس البرونزي 32 سنتيمتراً، وعرضه 25 سنتيمتراً، ويمثّل أسداً يفتح شدقه إلى أقصى حدّ ويُظهِر أنيابه، وكأنه يزأر ويزمجر. أنفه عريض وبارز، ويتميّز بفتحتيه الكبيرتين المصوغتين بأسلوب واقعي. سالبه منقوش بدقة، ويتكوّن من أربع خصال أفقية متوازية، يعلوها شارب خامس طرفاه مقوّسان نحو الأعلى. عيناه لوزتان مجوّفتان فارغتان، يحدّ كل منهما إطار هدبي ناتئ. يعلو هاتين العينين حاجبان عريضان لكل منهما طرفان مقوّسان نحو الأعلى، وفقاً للأسلوب المتبع في نحت الشارب الأعلى. الأذنان دائريتان وكل منهما محدّدة بإطار ناتئ. الفم منفّذ برهافة بالغة، ويتمثّل بشدق عريض يكشف عن أسنان مرصوفة، مع نابين مسنّنين في الفكّ الأعلى، ونابين مشابهين في الفكّ الأوسط. تحيط بهذا الرأس المزمجر لبدة مكونة من خصال شعر متوازية، مع لحية تشكّل عقداً حول الذقن المنحنية البيضاوية.

يبدو أسد نجران فريداً من نوعه وسط ما وصلنا من آثار شمال الجزيرة العربية، غير أنه يشابه في تأليفه كما في أسلوبه أسوداً برونزية خرجت من جنوب الجزيرة، ومنها رأس أسد برونزي من مجموعة ثري هندي من وجهاء عدن يُدعى كايكي مونشرجي، ذكره العلامة الإيطالي كارلو كونتي روسيني ووصفه في مقالة علمية نُشرت في 1927، وثمة رأس مشابه محفوظ في متحف صنعاء الوطني، مصدره شبوة القديمة، وتمثال صغير محفوظ في متحف بينون يمثّل أسداً يقف على قوائمه الأربع. من هنا، يمكن القول بأن أسد الأخدود ينتمي إلى مجموعة من الآثار التي تشهد للتواصل الفني بين ضفتي الجزيرة في القرون الميلادية الأولى.

خارج هذه المقاربات الفنية، يبرز أسد نجران المزمجر ويتوهّج بقوّة، معيداً إلى الذاكرة ما قيل قديماً في وصف الليث. جاء في سفر عاموس: «هل يزمجر الأسد في الوعر وليس له فريسة؟ هل يعطي شبل الأسد زئيره من خدره إن لم يخطف؟» (3: 4)، «الأسد قد زمجر، فمن لا يخاف؟ السيد الرب قد تكلم، فمن لا يتنبأ؟» (3: 8). وجاء في سفر الأمثال: «كزمجرة الأسد حنق الملك، وكالطل على العشب رضوانه» (19: 12)، «رعب الملك كزمجرة الأسد. الذي يغيظه يخطئ إلى نفسه».

وقيل في «لسان العرب»: « زَأَرَ الأَسد، بالفتح، يَزْئِرُ ويَزْأَرُ زَأْراً وزَئِيَراً، صاح وغضب، وزَأَرَ الفحلُ زَأْراً وزَئِيراً، ردّد صوته في جوفه ثم مَدَّه. ويُقال أيضاً زَئِر الأَسد، بالكسر، يَزْأَرُ فهو زَئِرٌ، قال الشاعر: ما مُخْدِرٌ حَرِبٌ مُسْتَأْسِدٌ أَسِدٌ/ ضُبارِمٌ خادِرٌ ذو صَوْلَةٍ زَئِرُ؟».


مقالات ذات صلة

علماء يفجّرون صدمة: حجر المذبح الضخم نُقل من أسكوتلندا إلى ستونهنج

يوميات الشرق أصلُه ظلَّ لغزاً (إ.ب.أ)

علماء يفجّرون صدمة: حجر المذبح الضخم نُقل من أسكوتلندا إلى ستونهنج

أظهرت معطيات جديدة أنّ حجر المذبح الذي يزن 6 أطنان، الواقع في قلب ستونهنج، جاء من أقصى شمال أسكوتلندا، وليس من جنوب غربي ويلز، كما اعتُقد.

«الشرق الأوسط» (لندن)
العالم رئيس بلدية مدينة ناغازاكي اليابانية شيرو سوزوكي يتحدث إلى وسائل الإعلام في مبنى البلدية في ناغازاكي في 8 أغسطس 2024 قبل يوم واحد من إحياء الذكرى التاسعة والسبعين للقصف الذري للمدينة (أ.ف.ب)

سفراء مجموعة السبع يمتنعون عن حضور ذكرى قصف ناغازاكي لعدم دعوة إسرائيل

قال شيرو سوزوكي رئيس بلدية ناغازاكي اليابانية، إنه متمسك بقراره عدم دعوة السفير الإسرائيلي لحضور فعالية مقررة غداً (الجمعة) لإحياء ذكرى القصف النووي على المدينة

«الشرق الأوسط» (ناغازاكي (اليابان))
يوميات الشرق وجه «مومياء المرأة الصارخة» التي اكتشفت عام 1935 في الدير البحري بالقرب من الأقصر ويرجع تاريخها لنحو 1500 قبل الميلاد خلال فترة المملكة الحديثة في مصر القديمة تظهر بالمتحف المصري في القاهرة - 18 يناير 2023 (رويترز)

تفاصيل جديدة عن حياة وموت «المومياء الصارخة» في مصر

رجّح علماء آثار أن مومياء امرأة مصرية دُفنت منذ نحو 3500 عام، وتبدو على وجهها علامات صراخ، «ماتت وهي تتألّم».

شادي عبد الساتر (بيروت)
يوميات الشرق تجربة استثنائية يجدها الزائر في جناح وزارة الثقافة بمنطقة «سيتي ووك» بجدة (الشرق الأوسط)

«عام الإبل»... مبادرة سعودية تعزز القيم الثقافية الفريدة لأبناء الجزيرة العربية

تحتفي السعودية في كل عام بعنصر مميز من العناصر الثقافية وتعرّف بقيمته ودلالته عبر مبادرات وبرامج متنوعة.

إبراهيم القرشي (جدة)
يوميات الشرق شكلت القرى التراثية مرتكزاً سياحياً في عسير التي تحتضن أكثر من 4275 قرية تراثية (واس) play-circle 02:08

4 آلاف قرية تاريخية في عسير تعكس التراث الثقافي والإنساني للمرتفعات السعودية

أكثر من 4 آلاف قرية تاريخية ما زالت قائمة بمنطقة عسير منذ مئات السنين، وربما أبعد، من ذلك تتفاوت في أحجامها ونمطها العمراني وتتفق على ما تعكسه من إرث إنساني.

عمر البدوي (أبها)

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

محمود الرحبي
محمود الرحبي
TT

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

محمود الرحبي
محمود الرحبي

يعد الكاتب محمود الرحبي أحد أبرز الأصوات في خريطة السرد بسلطنة عمان. وعلى الرغم من أن بعض رواياته لا تتجاوز 60 صفحة، فهو يراهن «على التكثيف والشحنة الجمالية وجذب القارئ ليكون فاعلاً في النص»، كما يقول. من أعماله الروائية والقصصية «المموِّه» و«صرخة مونش» و«أرجوحة فوق زمنين» و«حديقة السهو»، ووصلت روايته «طبول الوادي» إلى القائمة القصيرة لجائزة «كتارا» في دورتها الحالية، هنا حوار معه حول تجربته الأدبية:

* في «طبول الوادي»، تستعيد خصوصية مجتمعات ريفية في قرى عمانية تكاد تبتلعها الجبال، كيف جعلت من الأصوات وسيلةً لرسم ملامح البشر والمكان في النص؟

- بالنسبة لرواية «طبول الوادي» التي ترشحت أخيراً إلى القائمة القصيرة لجائزة «كتارا» للرواية العربية المنشورة في دورتها الحالية، تعمدت اختيار «وادي السحتن»، المكون من قرى عدة وسط الجبال تمتاز بوفرة في الثمار، حتى سميت بـ«مندوس» عمان. و«المندوس» كلمة شعبية تعني الصندوق الثمين، كما اخترت بالمقابل حياً يُعدُّ في تلك الفترة مثالاً للتمازج وتعدد الألسنة والثقافات والطباع وهو «وادي عدي»، وعبر تفاصيل الأحداث نعرف لماذا اختار بطل الرواية «سالم» الحرية مقابل الجاه ومشيخة القبيلة حتى وإن جاع.

اهتممت بالتفاصيل كمقوم سردي، مثل الطرقات التي كانت في ذاك الزمن متربة وخشنة حتى في أحياء المدينة، والقرى كانت رهيبة وشاقة. أتذكر مثلاً أننا كنا لكي نشق بعض الطرق الصاعدة نضطر إلى وضع الحجارة داخل السيارة وقت الهبوط، حتى تحافظ على توازنها ولا تنزلق من المرتفعات. والأصوات هنا قد توحي بكمية الأغاني التي تشتمل عليها الرواية. هناك أيضاً أناشيد بعضها باللغة السواحلية الزنجبارية، ناهيك عن طبول الجوع التي تعرض لها بطل الرواية «سالم»، وقد اختار الحرية مضحياً بكل شيء وخرج من قريته حافي القدمين حاسر الرأس، وفي ذلك دلالة مقصودة.

* ألن يكون صادماً لبعض القراء التعرف على وجه آخر لـ«دول الخليج» من خلال قرى متقشفة يعاني أبناؤها من مستويات متباينة من الفقر والجوع والحرمان؟

- لا يخلو أي مجتمع من مفارقات، ومن هنا يستثمر الأدب في جانبه السردي هذه المؤونة ويصعّدها إلى مستوى القص. صحيح أن عمان بلد نفطي وعدد سكانه قليل لكنه في النهاية مجتمع متنوع، به طبقات ومستويات، به ثراء فاحش وبه فقر مدقع. ولست في سياق مناقشة الأسباب، إنما يمكن ذكر أمثلة، منذ فترة قريبة مثلاً سمعت عن قريب لي سُرّح من عمله، ولديه أبناء كُثر، التعويض لم يكن يكفيه لإعالة أبنائه، فاضطر إلى السير في الخلاء ليعود من هناك بأشجار يحرقها ليحولها فحماً يبيعه. تحول إلى حطّاب. وهذه الأمور لم نكن نسمع بها إلا في الحكايات.

* في مقابل القرية، تطل المناطق والمدن الأكثر تحضراً، وهى تحتوي، وفق تعبير الراوي، على «الضجيج الذي يُسمع الآن متداخلاً بين العربية والهندية والأفريقية والبلوشية... كيف ترى بعين الروائي هذا «الموزاييك» أو «الفسيفساء» الذي تحمله سلطنة عمان والمجتمع الخليجي عموماً بين طياته؟

- هذا الموزاييك يشكل ثراءً اجتماعياً تنتج عنه تفاعلات يمكن أن يستفيد منها القاص. لو فقط تأملنا تاريخ الأسواق العمانية، لحصلنا على ذخيرة مهمة، ناهيك عن الأغاني، سواء تلك المتعلقة بالأفراح أو حتى الأتراح. المهم هنا هو كيف تعبر عما هو موجود وليس تفصيل ما هو موجود. الكم يعدُّ انحرافاً عن طريق الأدب الذي من سماته البلاغة والاقتصاد. الكاتب الروسي نيقولاي غوغول اختصر في رواية «المعطف» تاريخ الخياطين في روسيا في عمل صغير، كان المعطف هو البطل وليس صاحب المعطف في الحقيقة. لكنه قدم عملاً هائلاً لا يمكن نسيانه. أتذكر حين قرأت «المعطف» أول مرة في التسعينات وكانت منشورةً كاملةً في مجلة «عيون المقالات» بكيتُ بحرقة. ولحظة التأثر الصادقة هذه لا يمكن أن يقدمها لك إلا كاتب عظيم بحجم غوغول.

* جاءت روايتك «المموِّه» قصيرةً إلى حد الصدمة حتى أنها تقع في أقل من 60 صفحة، كيف ترى مسألة «الحجم» وتأثيرها في استقبال وتصنيف الأعمال الأدبية؟

-الحجم عادة ليس مقياساً. رواية «الليالي البيضاء» لدوستويفسكي رواية قصيرة لكن لا تقل أهمية وذكراً عن رواياته الكبيرة. الأهم في هذا السياق هو التأثير. وسواء كُتب على الغلاف رواية أو «نوفيلا»، يظل هذا الأمر يدور في قلة الحجم. ثمة مواضيع من الأفضل تقديمها قصيرة خصوصاً تلك القصص التي تعتمد على اللعب. وحين أقول قصصاً فإنه حتى الرواية كانت تسمى قصة، فالقصة عنصر أساسي في السرد، سواء كان هذا المسرود قصة قصيرة أو رواية.

* هل أردت أن تحرر فكرة السرد الروائي من «المطولات» التي أثقلته مؤخراً أعمال تتجاوز 400 أو 500 صفحة دون دواعٍ فنية؟

- لم أكن أقصد حين كتبت سوى التعبير بأقل الكلمات وأحياناً ألجأ لمجرد الإشارات. حالياً أعكف على نوفيلا بطلها شاب لا يتكلم، انطلاقاً من مقولة لبريخت مفادها أن الذي لا يتكلم لديه كلام كثير ليقوله، وهذا الكثير يعبّر عنه بمختلف حواسه، لا سيما العين وليس فقط الإشارات. قبل أن أكتب رواية «أوراق الغريب» دخلت في دورة للصم مدتها أسبوعان، وذلك لأنه ضمن شخصيات هذه الرواية امرأة خرساء. ورغم أن دورها ثانوي في الرواية، لكن كان من المهم فهم شعورها وطريقة تعبيرها بدقة وإلا أصاب النص نقص مخجل، ليس في عدد الصفحات، وهذا ليس مهماً كثيراً، لكن في الفهم... كيف تكتب عن حالة أو شخصية قبل أن تفهمها؟ هذا أمر في غاية الأهمية حسب وجهة نظري.

* تذهب رواية «المموه» إلى «المسكوت عنه» من خلال تجارة المخدرات وترويجها عبر الحانات... هل تعمدت ذلك وكيف ترى محاذير تناول مناطق شائكة في الرواية الخليجية؟

- طريقة تناولي للمواضيع السردية حذرة جداً، لكنه ذلك النوع من الحذر الذي لا يفرط بصياغة المادة الحكائية بقدر ما يكون في التعالي على مطابقتها حرفياً بالواقع. أستفيد من معطيات الواقع الموجودة والمباشرة لكن في حدود مدى خدمتها للعمل أدبياً. لو كنت أرغب في كتابة موضوع اجتماعي لما التجأت إلى الرواية. كنت سأكتب بحثاً حسب منهج علمي به تفاصيل ومسميات صريحة، لكن كتابة الأدب تتقصد أولاً إمتاع القارئ عبر اللغة والتخييل، ولا يمنع الكاتب أن يستفيد من كل معطيات الواقع وتنوعه طالما أن ما يكتبه يدور في فلك التخيل. وطالما أنه لم يستخدم كتابته لأغراض أخرى مثل تصفية الحسابات مثلاً.

*هل خلفيتك كاتبَ قصة قصيرة جعلتك تنحو إلى التكثيف والإيجاز وقلة عدد الشخصيات في أعمالك الروائية؟

- البداية كانت مع القصة وربما قبل ذلك محاولات شعرية بسيطة تحت تأثير قراءات لقصيدة النثر. بدأت الكتابة القصصية في سن مبكرة، نحو 19 عاماً، لكني لم أنشر مجموعتي القصصية الأولى إلا بعد الثلاثين ثم انتظرت 9 سنوات حتى أصدرت المجموعة القصصية الثانية «بركة النسيان». بعد ذاك توالت المجاميع القصصية، وكان ضمنها مجموعة «ساعة زوال» التي فازت بجائزة وطنية مهمة في مسقط، وهي جائزة السلطان قابوس في دورتها الأولى، بالنسبة للرواية فقد اقتحمت ساحتها بشيء من الحذر، بدأت تدريجياً بنوفيلا «خريطة الحالم» التي صدرت عن «دار الجمل»، ثم «درب المسحورة» التي صدرت عن «دار الانتشار»، بعد ذلك كتبت «فراشات الروحاني» وكانت كبيرة نسبياً ومتعددة الأصوات، كتب عنها الناقد المغربي الراحل إبراهيم الحجري دراسة موسعة نُشرت وقتها في مجلة «نزوى».

* بعد صدور مجموعتك القصصية الأولى «اللون البني» 1998 لماذا انتظرت 10 سنوات كاملة حتى تصدر المجموعة الثانية؟

ربما كنتُ مسكوناً أكثر بالقراءة. ورغم أن «اللون البني» لقيت نجاحاً وكُتب عنها بصورة مفرحة فإنني كنت أكتب أيضاً. أتذكر أن مجموعتي الثانية «بركة النسيان» كتبت الجزء الأوفر منها في دكان والدي بمدينة مطرح. كان معي دفتر أنكب عليه للكتابة وقت الظهيرة غالباً على عتبة الدكان حين يقضي أبي قيلولته في مسجد قريب. أحدهم قال لي لاحقاً إنه كان حين يعود من عمله بالسيارة لا يراني إلا منكباً وكان يستغرب. بعد أن أنهيت دراستي ساعدت والدي في دكانه كما كنت أساعده أثناء الإجازات الدراسية إلى أن وجدت عملاً في وزارة التعليم العالي. لذلك يمكن ملاحظة الكثير من الدكاكين في تلك المجموعة القصصية.

لا يخلو أي مجتمع من مفارقات ومن هنا يستثمر الأدب في جانبه السردي هذه المؤونة ويصعّدها إلى مستوى القص

* حصلت على العديد من الجوائز فضلاً عن الوصول للقوائم القصيرة لجوائز أخرى... كيف تنظر لحضور الجوائز في المشهد الأدبي العربي، وهل تشكل هاجساً ملحاً بالنسبة لك؟

- لم أكتب يوماً لنيل الجوائز، أنا مقتنع أن اللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط، وما عليك سوى العمل. كان أبي (رحمه الله) يقول لي «عليك أن تفتح الدكان صباح أول الناس وتنتظر». وفي هذا دعوة إلى الاستمرارية. بالنسبة للكاتب، عليه أن يقرأ كثيراً وربما أيضاً عليه أن يكتب، أما النشر فيأتي لاحقاً. كذلك الجوائز لا تستجيب بالضرورة لمن يخطط لها.

* أخيراً... ما سر حضور الرواية العمانية بقوة مؤخراً في المشهد الثقافي العربي؟

- ربما بسبب النزوح الجماعي نحو هذا اللون. مرة كتبت مقالاً في موقع «ضفة ثالثة» بعد رحيل عزيزنا القاص والروائي والطبيب عبد العزيز الفارسي، قلت فيه إنه حين كتب أول رواية وصعدت إلى القائمة الطويلة لجائزة «البوكر» في دورتها الأولى حوّل المشهد من كتابة القصة إلى كتابة الرواية في سلطنة عمان، فاتجه معظم من كان يكتب قصة إلى هذا الفضاء الجديد والمغري. هناك من ظل يراوح مزاولاته بين القصة والرواية وعبد العزيز كان واحداً منهم. وبذلك استطاع الكاتب العماني عموماً أن يساهم وينافس في مسابقات ذات طابع تنافسي عربي، كما حدث مع جوخة الحارثي وبشرى خلفان ومحمد اليحيائي وزهران القاسمي وآخرين في مجالات إبداعية مختلفة.