أرض غودو

الماضي لا يزال حيّاً بالنّسبة إلينا ولن ينتهي قَطُّ

زقورة عقرقوف قرب بغداد
زقورة عقرقوف قرب بغداد
TT

أرض غودو

زقورة عقرقوف قرب بغداد
زقورة عقرقوف قرب بغداد

يفرض القدر على بعض الشّعوب أن تعيش في عالم مقفل وبلا مخرج، ويظهر على الجميع عندها توقٌ إلى العيش في الماضي، لأنّه من المستحيل البقاء في القاع إلى الأبد. وعندما يكثر السّؤال وينعدم الجواب، لا يقدر غير الفنّ على تقديم الحلول. كلّ طَلَلٍ هو عمل فنّي لا يُملّ ولا تنفدُ طاقة الحياة فيه لأنّه حُمِّلَ بكلّ شذى الأيّام الغابرة، ويُعجب المرء به، ويتأمّله مثل أثَر مقدّس مصون في خزنة زجاجيّة. إنّ من يحاول العيش في ذكرى الأمس البعيد يفكّر في أمرين؛ الرّغبة في العزلة عن الحاضر، والتوق إلى التواصل مع الأسلاف، كما أنّ المستقبل لم يعد مغناطيسيّاً وجاذباً. بهذه الصّورة عبّر فلوبير عن انتقامه من العالم الذي كان يعيش فيه بكتابة رواية «صالامبو» وأقرّ بذلك بشكل عفويّ: «قليلون هم من سيكتشفون إلى أي حدّ ينبغي على المرء أن يكون حزيناً حتى يتكبّد عناء إحياء قرطاجة».

أوّل مرّة وقعت عيناي فيها على البحر كانت في «باكو»، وكان يفصله عنّي شارع عريض وشاطئٌ لم أتبيّنْه، ثم اتّجهتُ إليه وكان البرْجُ الشّهير باسم (قلعة الفتاة) يقع في طريقي، فاتّجهتُ بعيني بلهفة واحدة، نحو البرج وإلى جهة البحر، وصار منذ تلك السّاعة عندي مشهد الماضي معادلاً في موضوعه وفي شكله لرؤية البحر. سرتُ على الشّاطئ نحو نصف ساعة، عدتُ بعدها متعجّلاً لفحص القلعة شبراً شبراً، وكان الدّليل السياحي يشرح لي تفاصيلَ عن التاريخ وعن البناء والهندسة والحبّ والقهر والنصر في أنحاء البناء، وكذلك الهزيمة. وفي نهاية الزيارة كان عقلي ممتلئاً بأرقام السنين وبأسماء رجالات التاريخ، إلى أن تبخّر من مسام بدني كلّ ما رغبتُ فيه من حجارة البناء، ومن عطرها والحياة فيها، فرميتُ بنفسي نحو شاطئ البحر ثانية، وكنتُ أسير وأسير محاولاً نفض ما علق بي من مادّة مسمومة بعلم التاريخ الذي يكاد يتشابه في جميع جهات الأرض. ثم صار هذا الأمر من عوائدي التي لا أقبل بديلَها مهما كان السبب، كلما وجدتُ الحياة القديمة في طريقي صددتُ عن أي شيء تقوله كتب التاريخ، لأن ما أبتغيه هو الماضي وليس رجاله الذين صنعوا الحروب والهزائم والانتصارات الزّائفة.

تمثال الحجَر يبقى بعد زوال المدينة الحجر، ودليل السياحة في المكان القديم لا يقدّم للّزائر معلومة مفيدة، لأنّه يكْشط السّحر والفنّ عن الأثر القديم ويعيده إلى الواقع الحاضر، بينما يودّ بعضُنا أن يضحّي بسنينه على أن يحتويه دفء الماضي ورائحته، فتتغيّر عندها حياته وهو يتأمّل الحجارة خاشعاً. لقد احتوت أيّامه على أيّام وسنين وعقود جديدة، وهي وظيفة الفنّ الرئيسيّة؛ توسيع الحياة في جميع الجهات، عن طريق استرجاع واستحضار تجارب عاشها ناسٌ غيرنا، وانتقلت إلينا عن طريق سحر الفنّ، وهذا شرح لما تُدعى نظرية ادّخار الطاقة، أي نقلها من الماضي إلى أيامنا. دليل السياحة يشبه بحيرة سوداء تطمس فيها أقدامنا، تلوّثها بمعنى ما من آثار الحاضر، فتَعوق سيرَنا في الطّريق إلى اكتشاف الفنّ في التاريخ القديم وتاريخنا، والأمر هنا يشبه الفرق بين قراءة رواية «صالامبو»، أو كتاب علمي في التاريخ عن تلك الحقبة من الزمن.

كما لو أنّ للأحجار ذاكرة تحفظ الأحداث والأسماء، ولساناً ينطق وعيناً ترى وقلباً يخفق، والأرض التي تضمّ هذه الحجارة تختلف عن غيرها بالتأكيد. بهذه الصورة يخضع المكان القديم إلى ما يمكن أن ندعوه قانون الشعريّة، الذي يمنحه دثاراً حيّاً يملأ عين ساكنه دهشة، ويجعل ترابه يختلف ولون الماء الجاري، حتى الهواء كأنه مصنوع من مادة أكثر عذوبة. المكان بلا تاريخ شعري ليس مكاناً، بل هو قفْرٌ لا حياة فيه، ولا جماد، ويسري الأمر نفسه على المدينة التي نزورها وتلك التي نتخذها مثوى، بينما نجد المهندسين يصممون مدناً غريبة ويشقّون شوارعَ عريضة لا أوّل لها ولا آخر. لكنك تهجرها حتماً، ويقودك سيرك الحثيث إلى حيث تقع البلدة القديمة والسوق القديمة والناس العتيقون كأنهم أشباح تعيش في الماضي. هنا تنزلق بصمات الخلائق من على جدران المباني وسقوفها، وفيها كذلك مسحة من مشاعرهم، يذوبون فيها وتتعتّق مثل النبيذ بهم، ولا يسكن هذا الجزء من المدينة غودو وإخوانه، فهؤلاء يطلبون المدينة الحديثة، المتاهة الفارغة الصامتة، الخالية من أي نور للروح، محتَمين بأسوارها الزجاجيّة، منطوين على أسرارهم، ناطقين بلا شيء غير الكوابيس ورافضين أي فكرة للخلاص. هل يشبه هؤلاء قوم يأجوج ومأجوج، الذين حبسهم الإسكندر ذو القرنين ببناء سدّ منيع حولهم؟

ميلان كونديرا

يتجدّد في العاصمة بغداد في هذه السنين كل شيء، لكن نفسي بقيت مشدودة إلى الشّوارع القديمة والمقاهي القديمة والمطاعم. ليس في الأمر نوستالجيا مريضة تعشق كلّ ما في الماضي وتفضّله على الحاضر، لكنها رؤية شعريّة للوجود. اليوم ينتهي، الغد ينتهي لأنّه غير كائن، وحده الأمس لا ينتهي لأنّنا نعيشه في خيالنا، وكذلك في الواقع. الماضي مكتملٌ إذن ولهذا فهو من أعمال الفنّ، كما أن لفظة «الآن» غير حقيقيّة، لأنّ زمنها يمتدّ آلاف السّنين إلى الوراء، وبهذا يكون الماضي لا يزال حيّاً بالنّسبة إلينا، ولن ينتهي قَطُّ. عندما نقترب من المبنى القديم فإننا نعيش زمننا زائداً عقوداً تبلغ العشرات صارت ودَرَست، ولم تَمُت. يقول ميلان كونديرا: «إننا نعيش في الحاضر مغمَضي العيون ولن يمكننا أن نفهم ما نقع فيه من خيارات إلا عند انقضاء الحاضر، أي حينما يصبح ماضياً». الميّت هو الحاضر لأنه لا وجود له، ولأنه بلا خبرة مثل فرْخ غادر بيضَته في الحال، فلا يستطيع العيش وحده، وإن حاول جاهداً صارت عيشته من طينٍ غودويّ قاتم...

ثمّة نظريّة أميركيّة في فنّ العمارة تقول إن كلَّ جديد قبيحٌ حتماً، والمبنى الذي عمره نصف قرن وأكثر يكون باهي الصورة وإن كان دكّاناً مهجوراً في سوق الخردة. الجديد والمشغول بالمال الجديد، في أي مكان في الدنيا، ولأنه من صنع بني البشر، فهو مكانٌ عدمٌ يعيش فيه غودو وإخوانه، بينما مرّت على القديم يد الزمان - أي رسمته فرشاة لا تُقلّد ولا يكون لها بديل، ولهذا السبب تحرص الأمم المتحضّرة على الطريق القديم وغباره، وعلى الساحة القديمة تتردّد فيها أبواق القرون الغابرة، وعلى روح المباني بكلّ صورة، فلا يبدّل القائمون على فنّ العمارة ملّيمتراً من هذه التحف الأسطوريّة ثمناً بأعلى برج في مدينة جديدة تتآخى فيها الحداثة مع التطوّر.

صموئيل بيكيت

قرأ يحيى حقّي مسرحيّة «في انتظار غودو» لصموئيل بيكيت مرات ولم يفهم، وأُصيب يوماً بحمّى شديدة وأتى على الكتاب بلهفة وأدرك معناه. سأتوقّف قليلاً مع هذه السخونة التي ألمّت بكاتبنا لأن عدم الكشف عنها ربما يصيب كلَّ ما قلته بالعطب. عندما يفقد المكان شعريَّته يتردّى ناسُه في صراع وجودي مع تناقضات لا تُحصى تزخر بها أرضُهم، كأنهم شخصيّات انفلتت من مسرحيّة بيكيت الشهيرة، دون هويّة واسم ووجه. في أرض غودو ثمة عدمية لا نهائيّة تتشرّب فيها الأشياء، وتسبب حمّى تلسع الجلد، وتهبط شيئاً فشيئاً إلى العظام، وهي ليست عرضاً من مرض بل هي جواب عن سؤال يبقى معلّقاً دون حلّ: كيف يمكن العيش في لا مُستقرّ؟ شعرية المكان إذن هي تعريف جديد للوطن، وحيثما عثرتَ على أرض فيها شعر فهي أرضك...

للكاتبة الأميركية ماري ليرنر قصة عنوانها «نفوس صغيرة» تصف فيها برجاً «أشبه بكتلة من التراب لأنه مبنيّ من الطابوق المفخور بالشمس الذي يثير سُمْكُه الدهشة، وبين كل 3 أو 4 أقدام طبقة من القصب. وأكثر ما لفت انتباهنا هي الطّراوة الغريبة للقصب، كأنه وُضِعَ قبل بضع سنوات فقط، مع أن أفضل الروايات تؤكد أنه بُنِي قبل أكثر من 4 آلاف سنة». شاهدتُ مثل هذا النوع من القصب في جدران زقورة عقرقوف، في المدينة التي تقع قرب بغداد، وكانت عاصمة للكيشيين في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وتلمّستْ يداي طراوتَه، وكان يبدو أكثر حقيقيّة من النّبات الحيّ. إن (عصب) الحياة في تلك الأزمان يشبه هذا القصب الذي لم يَمُت، لكنه تحمّل بحيوات مضاعفة عبر قرون من السنين، وصار كأنه خالد بهذه الواسطة.

ثمّة نظريّة أميركيّة في فنّ العمارة تقول إن كلَّ جديد قبيحٌ حتماً والمبنى الذي عمره نصف قرن وأكثر يكون باهيَ الصورة وإن كان دكّاناً مهجوراً في سوق الخردة

أختم الكلام بمشهد من حياة أغاثا كريستي مع زوجها عالِم الآثار ماكس مالوان، وكان يعمل في أحد التلال غرب نهر الفرات، وطلب منها أن تختار ثوباً ترتديه في ذلك اليوم، وكي يصفه لزوجته فإنه اختار استعارة من صميم عمله، فجاء وصفه آثاريّاً: «البسي تلك السترة الضاربة إلى الخضرة التي تحمل نقشاً معينيّاً على شكل تلّ (خلف)». قاطعته زوجته قائلة: «أتمنى عليك ألّا تستخدم لغة الحفريّات في وصف ثيابي». لقد اختار عالم الآثار في ساعة أن ينظر إلى الماضي بعين أديب شاعر، وهذا ما أرتئيه وأفضّله في كلّ مرة أقتربُ فيها من المبنى الجديد والقديم والأقدم. تمثال الحجر يبقى، والمدينة القديمة ليست سوى تمثالٍ كلّها من حجر، وإلّا ما سكنتها الأشباحُ وغيرُ الفانين من بني البشر.


مقالات ذات صلة

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

ثقافة وفنون هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

رغم أن الأكراد هم أكبر مجموعة عرقية تعيش في محيط عربي نابض بالثقافة، وتشترك معه في الدين والتاريخ والجغرافيا، فإن التبادل الثقافي بين الجانبين ظلَّ محدوداً.

ميرزا الخويلدي (الدمام)
ثقافة وفنون «ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت المجموعة القصصية «ثلاث نساء في غرفة ضيقة» للكاتبة هناء متولي، التي تضم 22 نصاً يهيمن عليها الحضور الأنثوي في فضاءات واقعية.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

عن دار «ديوان للنشر» بالقاهرة، صدر حديثاً العمل الشِّعري السابع للشَّاعر المصري عماد فؤاد تحت عنوان «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة».

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

في غضون خمسين عاماً من الاستقلال، شيّدت أميركا رؤيتين متناقضتين: النشوة، والحلم الأميركي.

أليكسس كو (نيويورك)
كتب هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

في كتابها الجديد «عزف على أوتار مدينة»، تعود الكاتبة اللبنانية- الإيطالية هدى سويد إلى واحدة من أكثر المراحل قسوة في تاريخ لبنان.

«الشرق الأوسط» (بيروت)

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هيثم حسين
هيثم حسين
TT

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هيثم حسين
هيثم حسين

رغم أن الأكراد هم أكبر مجموعة عرقية تعيش في محيط عربي نابض بالثقافة، وتشترك معه في الدين والتاريخ والجغرافيا، فإن التفاعل والتبادل الثقافي بين الجانبين ظلَّ محدوداً، ومسكوناً بهاجس الهويات ونزاعاتها.

ومع أن الكُرد شعبٌ يسكن مناطق متفرقة في عدة دول، فإنهم حافظوا على تراثهم الأدبي عبر القرون، وعلى لغتهم التي يتحدث بها أكثر من 30 مليون شخص. وتمتلك هذه اللغة تاريخاً أدبياً غنياً، وتُعد جسراً طبيعياً بين الثقافات في المنطقة.

لقد طُرحت مشاريع عدة لتقريب الثقافتين العربية والكردية؛ لكنها أُجهضت، فقد عملت السياسة كعنصر تخريب للتواصل الثقافي؛ بل أسهمت مشاريع التهميش من جانب والانغلاق من جانب آخر في توسيع الشقة حتى بين أبناء البلد الواحد.

إدراكاً لهذا الواقع المؤسف، أخذت دار «رامينا» التي يديرها الكاتب والروائي الكردي السوري، المقيم في بريطانيا، هيثم حسين، على عاتقها إصدار أو ترجمة عدد من الكتب الكردية إلى اللغة العربية، أو ترجمة الكتب العربية إلى الكردية، في مسعى يهدف «لبناء الجسور بين شعوب المنطقة، وبناء قيم التسامح ونبذ الكراهية والتطرف والعنف، في سياق أدبي إنساني رحب»، كما تقول الدار في نشرة التعريف عن نفسها، على الموقع الإلكتروني. وتضيف أنها تركز «على ثقافات الأقليات والمجتمعات المهمشة في جميع أنحاء العالم، وذلك ضمن الفضاء الثقافي والحضاري والإنساني الأرحب».

الترجمة كجسر للتواصل

يقول صاحب الدار لـ«الشرق الأوسط»: إن هذا المشروع يستهدف إنشاء منطقة تواصل حقيقي: «نحن نريد للقارئ الكردي أن يجد في العربية امتداداً له، وللقارئ العربي أن يرى في الكردية مرآة تعكس جزءاً من روحه. إن تجربة دار النشر (رامينا) هي محاولة لاستعادة ما فقدته الجغرافيا من قدرة على جمع البشر. لقد بدأتُ في تأسيس الدار حين شعرت بأن العلاقة بين العربية والكردية تحتاج إلى عناية تُنقذها من التباعد التاريخي، وبأن الأدب قادر على أداء هذا الدور إذا أُتيح للنصوص أن تنتقل بحرية بين الضفتين».

انطلقت «رامينا» إلى الترجمة بوصفها عملاً يتجاوز التقنية، ولم تبحث عن «نقل الكلمات»، إنما عن نقل التجارب والمخيلات والوجدان، كما يقول مؤسسها. وكانت القفزة الأهم حين عملت -بدعم من مبادرة «ترجم» وبالتعاون مع وكالة «كلمات»- على مشروع ترجمة كتب عدة من الإبداعات السعودية إلى الكردية، وهو حدث يتحقق للمرة الأولى في تاريخ الأدبين العربي والكردي.

لقد قدَّمت «رامينا» للقارئ الكردي نصوصاً عربية خليجية وسورية وعُمانية وبحرينية، مترجمة إلى لغته الأم. وكذلك قدَّمت للقارئ العربي نصوصاً كردية بأصوات متنوعة تمثِّل جغرافيات كردية متعددة، وأعادت فتح نافذة على الأدب السرياني ضمن سلسلة النشر السريانية التي خصصتها لإحياء هذا الإرث الموشَّى بالروحانية والشعر، وهو من أعمق طبقات تاريخ المنطقة، كما أطلقت شراكات ترجمة إلى الإنجليزية، لحاجة الأدب الكردي والعربي إلى هذا الأفق العالمي كي لا يبقى أسير لغته أو مكانه.

من الأعمال التي شكَّلت نقطة تحول في هذا المشروع: سلسلة الإبداعات السعودية المترجمة إلى الكردية؛ وهو مشروع غير مسبوق فتح باباً واسعاً لفهم جديد بين القارئ الكردي والمشهد السعودي، فقد نقلت «رامينا» للقارئ الكردي أعمالاً لأدباء ونقاد سعوديين، منهم: سعد البازعي، ويوسف المحيميد، وأميمة الخميس، وأمل الفاران، وطارق الجارد، وعزيز محمد، وغيرهم.

والثاني، مشروع الترجمات العُمانية والبحرينية، مثل رواية «بدون» ليونس الأخزمي و«الطواف حيث الجمر» لبدرية الشحي؛ و«دخان الورد» لأحمد الحجيري، وهي نصوص أدخلت القارئ الكردي إلى سرديات لم يكن يصل إليها.

والثالث، مشروع الترجمة من الكردية إلى العربية، الذي قدَّم للعربي أصواتاً كردية ذات حساسية عالية، تنقل الهويات المتعددة والمعاناة المتراكمة في كردستان سوريا والعراق وتركيا وإيران؛ حيث تُرجمت إلى العربية عشرات الأعمال الكردية لكُتَّاب كُرد، مثل: عبد القادر سعيد، وسيد أحمد حملاو، وصلاح جلال، وعمر سيد، وكوران صباح... وغيرهم.

وأما الرابع فهو مشروع النشر السرياني، الذي يعيد الاعتبار لطبقة ثقافية مهمَّشة، ولغة أصيلة من تراث منطقتنا، ويمنحها موضعها الطبيعي داخل المشهد الأدبي.

والخامس، إطلاق الترجمات إلى اللغة الإنجليزية.

يقول هيثم حسين إنه «بهذه الحركة المتبادلة، صار مشروع الترجمة في (رامينا) مشروعاً لإعادة النسج بين لغتين، وتأسيس حوار ثقافي طال غيابه».

«نريد للقارئ الكردي أن يجد في العربية امتداداً له وللقارئ العربي أن يرى في الكردية مرآة تعكس جزءاً من روحه»

هيثم حسين

التراث الأدبي المشترك

وردّاً على سؤال لـ«الشرق الأوسط» عما يمكن أن يضيفه هذا المشروع إلى التراث الأدبي المشترك، يقول هيثم حسين إن مشروع التواصل الأدبي الذي تقوم به «رامينا»، يضيف ما يشبه «الخيط المفقود»، فالتراث العربي والكردي والسرياني ظلَّ متجاوراً دون أن يتشابك بما يكفي.

ويضيف: «الآن، حين يقرأ كردي نصاً سعودياً بلُغته، أو يقرأ عربي رواية كردية، أو قارئ إنجليزي عملاً مترجماً من هذه البيئات، تظهر طبقة جديدة من التراث؛ طبقة عابرة للغات والانتماءات، ترى الإنسان قبل كل شيء. نحن لا ندَّعي أننا بصدد صنع أو تصدير تراث بديل، إنما نحاول أن نعيد توزيع الضوء على تراث موجود، ولكنه كان منسياً في الظلال والهوامش».

أما الثيمات التي تتكرر في إصدارات «رامينا»، فهي تكاد تتقاطع حول هوية تبحث عن مكانها في عالم مضطرب: الذاكرة، بصفتها محاولة لمقاومة النسيان. الكتابات السيرية الذاتية والغيرية. المنفى، باعتباره إعادة تكوين للذات. اللغة، بما تحمله من فجيعة وحماية في آن واحد. الهوامش التي تتحول إلى مركز حين يُكتب عنها بصدق. الأمكنة المحروقة والقرى المطموسة والطفولة المهددة بالمحو. وهذه الثيمات امتداد لتجارب الكُتاب أنفسهم: كرداً، وعرباً، وسرياناً، ومهاجرين.

وعن الحركة الأدبية الكردية في سوريا، يقول هيثم حسين: «إن القوة الأدبية الكردية في سوريا نابعة من صدق التجربة وعمق الجرح. هناك كُتَّاب يمتلكون لغة عربية متماسكة، وأخرى كردية راسخة، ما يجعل أصواتهم قادرة على الوصول إلى جمهورَين. من خلال الترجمة والتوزيع في كردستان العراق، ومن خلال النشر في لندن، أصبح لهذه الأصوات مسار يصل بها إلى مَن لم يكن يسمعها. أرى أن هذا الامتداد عابر للحدود، وأن الكتابة الكردية السورية مرشَّحة لأن تكون أحد أهم أصوات الأدب القادم من المنطقة».

ورداً على سؤال بشأن كيفية تقديم التراث الكردي والهوية الكردية للآخرين، قال مؤسس «رامينا»: «إن الدار قدَّمت التراث عبر نصوصه؛ لا عبر خطاب خارجي عنه. فحين يقرأ قارئ عربي أو إنجليزي أو كردي نصاً مترجماً أو أصلياً، يكتشف مفردات الهوية الكردية كما تعيش في الحياة اليومية: في الأغاني، في اللغة، في القرى، في القصص العائلية، وفي تفاصيل الفقد والحنين. بهذا يصبح التراث الكردي جزءاً من المشهد الثقافي العام، لا معزولاً ولا مؤطَّراً. كما أن النصوص الأدبية تثبت العناصر المشتركة بين الثقافات؛ حيث تكشف النصوص أن الألم واحد، والحنين واحد، وأسئلة الإنسان واحدة. وتُظهر أن الاختلافات اللغوية لا تزيل جوهر التجربة الإنسانية؛ بل توسِّعها. حين يتجاور الأدب الكردي والعربي والسرياني والإنجليزي في سلسلة نشر واحدة، تتكوَّن منطقة مشتركة؛ بلا حدود، يتقاطع فيها الإنسان مع الإنسان. وهذا هو جوهر المشروع الذي أردتُ لـ(رامينا) أن تكون منصته».


«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة
TT

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت المجموعة القصصية «ثلاث نساء في غرفة ضيقة» للكاتبة هناء متولي، التي تضم 22 نصاً يهيمن عليها الحضور الأنثوي في فضاءات واقعية تتراوح بين المدينة والقرية على خلفية عوامل من القهر والإحباط التي تجعل من حواء لقمة سائغة في فم وحش الوحدة والعزلة والشجن والحنين.

تعتمد المجموعة تقنيات سردية تستكشف كذلك قضايا الوجود والهوية والاختيارات الصعبة والأحزان العميقة عبر أعمال تمزج بين أشكال مختلفة من السرد مثل السيناريو والمونتاج والفلاش باك والمشهدية البصرية بهدف تسجيل لحظات نسائية خاصة، عبر تجربة أدبية تجمع بين العمق الإنساني والتجريب الفني.

تتنوع النماذج التي تدعو للتأمل في المجموعة القصصية من الخالة التي تجلس وقت الغروب تمضغ التبغ وهى تزعم أن الموتى يبعثون برسائل عبرها كوسيطة، إلى المصابات بالاكتئاب السريري، وليس انتهاء بالأديبة الشابة التي تواجه أديباً شهيراً اعتاد السخرية من الكتابات النسوية.

تميزت عناوين المجموعة بوقع صادم يعبر عن فداحة ما تتعرض له المرأة في المجتمعات الشرقية، بحسب وجهة نظر المؤلفة، مثل «السقوط في نفق مظلم»، «نزع رحم»، «يوميات امرأة تشرب خل التفاح»، «الناس في بلاد الأفيون»، «البكاء على حافة اليقظة».

ولم يكن قيام هناء متولي بإهداء العمل إلى الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، التي ماتت منتحرة عام 1963 عن 30 عاماً، فعلاً عشوائياً، حيث سبق انتحار الأديبة الشهيرة سنوات طويلة من الاضطرابات النفسية والاكتئاب السريري وهو ما يبدو ملمحاً أساسياً من ملامح المجموعة.

وجاء في الإهداء:

«إلى سيلفيا بلاث... التي عرفتْ جيداً كيف يبدو الألم حين يصبح مألوفاً، أستمعُ إلى صدى كلماتك بين همسات الوحدة وأصوات الكتابة، كأنك تركتِ لي خريطة في دفاترك، تشير إلى تلك الأماكن العميقة داخل النفس حيث تختبئ الظلال خلف الضوء».

ومن أجواء المجموعة القصصية نقرأ:

«شروق خجل للشمس بعد ليلة ممطرة، تهرول سناء في عباءتها الصوفية وشالها القطني الطويل، تقترب من البيت المطل على الترعة وحيداً ورغم أنه قد شُّيد من طوب لبن ومعرش بسقيفة من القش فإنه يشع دفئاً في وجه الزمن. تنادي بصوت مترقب: يا خالة، فتطل عليها المرأة قصيرة القامة ذات الجسد المنكمش بعينين يقظتين لتكرر على مسامعها جملتها المعتادة: لا رسائل لك.

تعاود الهرولة وقد أحكمت الشال حول كتفيها العريضتين وقوست قامتها الطويلة، يهاجمها البرد بقسوة ليزيد جفاف قلبها. تعود سناء إلى بيتها... تتكور في فراشها... تحاذر أن تلمس جسد زوجها السابح في النوم، لئلا توقظه برودتها فينكشف سرها.

في ليلة حناء شقيقتها، ارتدت سناء فستاناً بنفسجياً من القطيفة وحجاباً زهرياً خفيفاً، كانت تعجن الحناء وتراقب الرقص والتصفيق بعينين شاردتين، تفاجئها موجة جديدة من حزن كثيف يتلبس روحها ويقبض على قلبها بقسوة. تهرب وتحبس نفسها في مخزن الغلال لتغرق في بكاء لاينتهي. يرغمها والدها على تناول قطعة صغيرة من حلوى العروس وبمجرد ابتلاعها تتقيأ».


«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد
TT

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

عن دار «ديوان للنشر» بالقاهرة، صدر حديثاً العمل الشِّعري السابع للشَّاعر المصري عماد فؤاد تحت عنوان «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة».

جاء الديوان في 176 صفحة، مقسّمة إلى ثمانية فصول: «ما قبلَ»، ثم: «الصَّوت»، «الصُّورة»، «الرَّائحة»، «اللَّمس»، «الطَّعْم»، و«الألم»، «ما بعدَ».

جاء في كلمة الناشر أن «مُعْجَم الحَواسِّ النَّاقِصَة» يبدأ من لحظة التّأسيس الأسطوريّة الأولى؛ «المُصادفة» التي جعلتْ «الغابة» تلتهم «جَبلاً». كأنّه بالأحرى «سِفر تكوين» مكثَّف لـ«العلائق» بين الذَّكر والأنثى، التي تتجاوز الثنائيّات التقليديّة للقوّة والضعف، منذ بدء الخليقة وحتى يومنا هذا.

بهذا المعنى، فإن «المُعْجَم» الذي يبنيه عماد فؤاد هنا مشدودٌ بين قُطبي الكمال والنُّقصان، المرأة والرّجل، الإيروتيكيّة والصوفيّة، ما قبلَ.. وما بعدَ. لكنّه ليس بسيطاً كما يبدو من الوهلة الأولى، إنّه كون شاسع ومركّب. عالم معقّد تتعدّد أبعاده وتتراكم طبقاته الفلسفيّة والدّينية صفحة بعد صفحة، وقصيدة بعد أخرى... لذلك: تأبى لغة عماد فؤاد الاكتفاء بأداء مهمّتها الرئيسية، فتكون مجرَّد لغة هدفها «الإيصال» فحسب. لا... اللّغة هنا مثل شاعِرها؛ طامعة في أكثر من الممكن، في أكثر حتّى ممّا يستطيع الشِّعر أن يستخرجه من اللّغة نفسها، هذه ليست قصائد عن «الحواسِّ النَّاقصة» كما يدَّعي العنوان، بل قصائد كُتبتْ بـ«الحواسِّ النَّاقصة»، ستجد حروفاً لا تُرى.. بل تُلمَسْ. وكلماتٍ لا تُقال.. بل تُشَمّ. وجُمَلاً لا تُنْطَق.. بل «تُسْتطْعم». وقصائد لا تُقرأ.. بل تخترق اللحم كأسنّة الخناجر.

يعتبر عماد فؤاد أحد شعراء جيل التسعينات المصري، ومن أعماله الشِّعرية: «تقاعد زير نساء عجوز»، و«بكدمة زرقاء من عضَّة النَّدم»، و«حرير»، و«عشر طُرق للتّنكيل بجثَّة» و«أشباحٌ جرّحتها الإضاءة».

ومن كتبه الأخرى، «ذئب ونفرش طريقه بالفخاخ: الإصدار الثاني لأنطولوجيا النّص الشِّعري المصري الجديد»، وكان الإصدار الأول تحت عنوان «رعاة ظلال.. حارسو عزلات أيضاً»، و«على عينك يا تاجر، سوق الأدب العربي في الخارج... هوامش وملاحظات»، كما صدرت له مختارات شعرية بالفرنسية تحت عنوان «حفيف» (Bruissement) عام 2018.

من قصائد «مُعْجَم الحَواسِّ النَّاقِصَة»:

في البدْءِ كانت المُصادفةُ

كأنْ تُمْسِكَ طفلةٌ لاهيةٌ بالجبلِ في يدِهَا اليُمنى، وبالغابةِ في يدِهَا اليُسرى، وتمدَّ ذِراعيْها عن آخرهِمَا ناظرةً إلى أُمِّها في اعتدادٍ. فتنْهَرُها الأمُّ:

لماذا تُباعدين بينهُما؟

وتستغربُ الطِّفلةُ: «هذه صَحْراءُ.. وهذه غابةْ»!

المُصادفةُ وحْدها جعلتْ عينَ الأمِّ تنظرُ إلى الجَبَلِ، فتراهُ وحيداً، لا يُحِدُّهُ شَمالٌ أو جَنوبٌ، تُشرقُ الشَّمسُ فيعرفُ شرْقَهُ مِنْ غَرْبِهِ، لكن لا أحد علَّمَهُ ماذا يفعلُ كي لا يكونَ وحيداً.

علىٰ بُعْدِ نَظَرِه الكلِيْلِ، كان يرى نُقطةً خضراءَ فوقَها سُحُبٌ وأَبْخِرَةٌ وضَبابٌ، حينَ تُمْطرُ يعلوها قوسُ قُزَحٍ لامعٌ، لا تدْخلُ ألوانُهُ في عيْنيْهِ، إلَّا ويَرى دموعَهُ تَسيلُ على صُخُورِه، حتَّى أنَّها سمعتْهُ يتمتمُ مَرَّةً في نومِهِ:

«لو أنَّ جَبلاً.. ائْتَنَسَ بغابةْ»!

في البَدْءِ كانت المُصادفةُ

التي جعلتْ الطِّفلةَ تنظرُ بعيْنَيْها إلى الغابَةِ، فتجدُها مُكْتفيةً بذاتِها، مُدَوَّرةً ومَلْفُوفَةً وعندها ما يكفي مِن المَشاكِلِ والصِّراعاتِ الدَّاخليةِ، تنْهَبُها الحوافرُ والفُكُوكُ

قانونُها القوَّةُ وخَتْمُها الدَّمُ:

«فكيفَ يا ماما تَقْوى الغابةُ على حَمْلِ ظِلِّ جَبَلٍ مثل هذا؟».

لم تُجِبْ الأمُّ

وحدَها الغابةُ كانت تُفكِّرُ:

«نعم؛ ماذا لو أنَّ غابةً..

التهمتْ جَبَلاً؟».