أسد وغزال!

قصة قصيرة جداً

أسد وغزال!
TT

أسد وغزال!

أسد وغزال!

دخل الطفل ذو السنوات الخمس الحجرة، وجلس قريباً من جدته على أريكة قديمة حال لونها. كانت الجدة في أسوأ حال، تنهض بين لحظة وأخرى تنقّط الماء في فم زوجها. تدهورت صحته فجأة خلال أيام قليلة، كان مسجى على سريره يُحتضر ميؤوساً منه، كما قال الأطباء، واستجابوا لطلب العائلة أن يلفظ أنفاسه الأخيرة في بيته. كان العجوز في لهاث متقطع كأنه يصعد جبلاً. ندّت عنه حشرجة طويلة. أخذ الطفل يضحك لها. نظرت الجدة إليه وقطّبت وجهها وزمّت شفتيها بملامح مَن يطلب الصمت والهدوء، لكنّ الطفل ذا الوجه الجميل ازداد ضحكه فرحاً:

ـ جدو يريد نلعب!

كادت الجدة تضحك أيضاً! ضمّت الطفل إلى صدرها وهمست له أن يسكت:

ـ جدو مريض، تعبان!

كان الجد يلاعبه، يقضي معه أسعد أوقاته، كما يقول، بلعبة يتقمص فيها هيئة الأسد في الغابة، وإطلاق زئيره من وراء ستارة في جانب من حديقة البيت الصغيرة، ويترك حفيده الصغير الذي يقوم بدور الغزال يتغلب عليه، فيطرحه أرضاً، اعترضت عليه الجدة مرة:

ـ أنت تخيف الطفل!

رد مبتسماً بحزن:

ــ لا، أنا أعلّمه كيف ينتصر على الأقوياء الذين تكاثروا في هذا الزمن!

ندّت حشرجة أخرى عن العجوز، كانت طويلة وعميقة، تبعها أنْ مال رأسه جانباً مُحدثاً دوياً خافتاً كأنه يسقط في بئر عميقة. وقلب العجوز الحزينة المهدمة؛ قال لها إنها الأخيرة حتماً!

لكنّ الطفل راح في ضحك متواصل، ويثب قائلاً:

ـ جدو أسد قوي!

لم تتجه الجدة إلى زوجها، عرفت أنه أسلم الروح، كانت بخبرة من رأى كثيرين يموتون أمامها بينهم أبناء لها، وهي من أطبقت أجفانهم! تلقّت نهايته المنتظرة بقلب مهيأ لها. اتجهت إلى ابنتها، أُم الطفل التي كانت في المطبخ منشغلة بإعداد طعام الغداء:

ــ أبوكِ أسلم الروح، تعالي أخرجي طفلك!

دخلت المرأتان، كان الطفل لا يزال يضحك مقلداً حشرجة الجد، زئير الأسد، فاستقبلهما متقافزاً، كأنه يشكو لهما:

ـ جدو نام، أريد نلعب أسد وغزال!

رأى أمه تجهش بالبكاء، فخرج راكضاً من الحجرة!


مقالات ذات صلة

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
كتب فرويد

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية

د. ماهر شفيق فريد
كتب ناثان هيل

«الرفاهية»... تشريح للمجتمع الأميركي في زمن الرقميات

فلنفرض أن روميو وجولييت تزوَّجا، بعد مرور عشرين سنة سنكتشف أن روميو ليس أباً مثالياً لأبنائه، وأن جولييت تشعر بالملل في حياتها وفي عملها.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

صدر حديثاً عن دار نوفل - هاشيت أنطوان كتاب «دليل الإنسايية» للكاتبة والمخرجة الآيسلندية رند غنستاينردوتر، وذلك ضمن سلسلة «إشراقات».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون «شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

عن دار «بيت الياسمين» للنشر بالقاهرة، صدرتْ المجموعة القصصية «شجرة الصفصاف» للكاتب محمد المليجي، التي تتناول عدداً من الموضوعات المتنوعة مثل علاقة الأب بأبنائه

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب
TT

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

عن دار «بيت الياسمين» للنشر بالقاهرة، صدرتْ المجموعة القصصية «شجرة الصفصاف» للكاتب محمد المليجي، التي تتناول عدداً من الموضوعات المتنوعة مثل علاقة الأب بأبنائه، وخصوصية الموروث الشعبي لدى المصريين، لكن المؤلف يتوقف بشكل خاص أمام العلاقة بين الشرق والغرب، ويقدم مقاربة جديدة لتلك العلاقة الملتبسة. ويعتمد المؤلف في تلك المقاربة على التقاط مواقف إنسانية بسيطة من الحياة اليومية لمصريين يعيشون بالولايات المتحدة وسط زحام الحياة اليومية، لكنها تنطوي على مواقف عميقة الدلالة من ناحية أثر الغربة روحياً على الأفراد، وكيف يمكن أن تكون الهجرة ذات أسباب قسرية. هكذا يجد القارئ نفسه يتابع وسط أحداث متلاحقة وإيقاع سريع مأساة تاجر الأقمشة الذي وقع أسيراً لأبنائه في الخارج، كما يجد نفسه فجأة في قلب مدينة كليفلاند بين عتاة المجرمين.

اتسمت قصص المجموعة بسلاسة السرد وبساطة اللغة وإتقان الحبكة المحكمة مع حس إنساني طاغٍ في تصوير الشخصيات، والكشف عن خفاياها النفسية، واحتياجاتها الروحانية العميقة، ليكتشف القارئ في النهاية أن حاجات البشر للحنو والتواصل هى نفسها مهما اختلفت الجغرافيا أو الثقافة.

ومن أجواء المجموعة القصصية نقرأ:

«كان الجو في شوارع مدينة لكنجستون بولاية كنتاكي ممطراً بارداً تهب فيه الرياح، قوية أحياناً ولعوباً أحياناً أخرى، فتعبث بفروع الأشجار الضخمة التي تعرت من أوراقها في فصل الخريف. هذه هي طبيعة الجو في هذه البلاد بنهاية الشتاء، تسمع رعد السحب الغاضبة في السماء وترى البرق يشق ظلمة الليل بلا هوادة، حيث ينسحب هذا الفصل متلكئاً ويعيش الناس تقلبات يومية شديدة يعلن عدم رضاه بالرحيل.

يستقبل الناس الربيع بحفاوة بالغة وهو يتسلل معلناً عن نفسه عبر أزهار اللوزيات وانبثاق الأوراق الخضراء الوليدة على فروع الأشجار الخشبية التي كانت بالأمس جافة جرداء، تحتفل بقدومه أفواج من الطيور المهاجرة وهي تقفز بين الأغصان وتملأ كل صباح بألحانها الشجية. وسط هذا المهرجان السنوي بينما كنت عائداً من عملي بالجامعة حيث تكون حركة السيارات بطيئة نسبياً شاهدت هناك على الرصيف المجاور رجلاً مسناً في عمر والدي له ملامح مصرية صميمة ويرتدي حلة من الصوف الأزرق المقلم ويلف رأسه بقبعة مصرية الهوية (كلبوش) وعلى وجهه نظارة سميكة. كان الرجل يسير بخطوات بطيئة وكأنه لا يريد الوصول، واضعاً يديه خلف ظهره مستغرقاً في التفكير العميق دون أن يهتم بمن حوله. من النادر أن ترى واحداً في هذه المدينة يسير على قدميه هكذا في طريق عام بهذه الطريقة وفي هذا الجو البارد. انحرفت بسيارتي إلى اليمين نحوه وعندما اقتربت منه أبطأت السير وناديته:

- السلام عليكم، تفضل معي يا حاج وسأوصلك إلى أي مكان ترغب.

اقترب الرجل مني أكثر ليدقق في ملامحي وانثنى قليلاً وهو ينظر إليّ وقال:

- أريد الذهاب إلى مصر، تقدر توصلني أم أن المشوار طويل؟».