الروائي العراقي عبد الستار البيضاني أحد الأسماء الروائية التي تحظى بحضور واضح في المشهد الأدبي العراقي، له عدد من الأعمال الروائية المهمة، التي نال أحدها، وهو «دفوف رابعة العدوية»، مؤخراً جائزة الإبداع، وهي الجائزة الأدبية الأبرز في العراق.
له عدة مجموعات قصصية، منذ بدأ الكتابة عام 1977 منها: «أصوات عالية 1983»، و«الثنائيات 1993»، و«مآتم تنكرية 2000»، و«تحت خط الحب 2011»، وأصدر عدد من الروايات هي: «عطش على ضفاف الدانوب 2001»، و«لجوء عاطفي 2004»، و«لن يأتي الصباح هذه الليلة 2022»، وله: «الزاوية والمنظور- حوارات في القصة 2002»، و«المسلات- نصوص سردية 2016».
هنا حوار معه...
* وفق التجييل الأدبي في العراق فأنت تنتمي لجيل الثمانينات، الذي تزامن ظهوره مع الحرب العراقية-الإيرانية. ما أثر هذا الجيل على المشهد الروائي والقصصي في العراق، وهل ترى أن الرواية العراقية شهدت انطلاقتها الجديدة في تلك الحقبة؟
- مع تحفظي على التحقيب الزمني للأجيال، كونه محاولة تبناها جيل الستينات لتمييز أنفسهم عن جيل الرواد، لكني سأستعمل هذه المصطلحات إجرائياً. لقد وُلد هذا الجيل في ظروف ومناخات ثقافية محلية وعربية وعالمية فرضت على نتاجاته ورؤاه سمات مغايرة عن سمات الأجيال السابقة خصوصاً جيل الستينات الذي كان مهيمناً على المشهد الثقافي مدعوماً بمجموعة من النقاد الذي تبنوا رؤاه ونتاجاته، وهي رؤى غلب عليها الطابع الفكري أكثر من الطابع الفني حيث عدّوا نتاجاته رد فعل على نكسة العرب في هزيمة يونيو (حزيران) 1967. وقد تأثرت فنياً بالتيارات الوجودية والعبثية، ولعلك تذكر تأثيرات سارتر وكولن ولسن في تلك الفترة. وحاول جيلنا أن يخرج من هذه التأثيرات بما فيها التأثيرات الآيديولوجية التي حاولت السلطات فرضها آنذاك سواء بالتبني المؤسساتي أو بالتنظير مثل إطلاق تسميات «جيل ما بعد النكسة»، أو «جيل الواقعية النضالية» وغيرها من التسميات التي كانت تُطلق مثل الفقاعات. ولعل من محاسن الصدف أن تشهد بداياتنا في الخروج من تأثيرات جيل الستينات، هو موجة الترجمات الكبيرة لأدباء أميركا اللاتينية واليابان، التي أعادتنا إلى الواقع بالتقاط سحره وإعادة إنتاجه على طريقة الواقعية السحرية وليس الواقعية الكربونية لجيل الخمسينيات، وفعلا كانت بدايات أغلبنا متأثرة بهذه الموجة قبل أن تجتاحنا الحرب وهيمنة السلطة على النتاج الثقافي لجعله في خدمة المعركة، أي إن القصة والرواية سيقتا إلى التجنيد الإجباري مثلما جنّدونا في جبهات الحرب، ففقدت نتاجات جيلنا ممن كتب للحرب من الجانب الفني إلى الجانب التعبوي، أي إن الأدب كان في خدمة إعلام المعركة وكانت تقام مسابقات نصف سنوية للقصة والرواية تطبع كميات كبيرة جداً من المجاميع والقصص الخاصة بالمعركة، وفعلاً الرواية العراقية شهدت انطلاقة كبيرة في تلك الفترة ولكن بمواصفات تعبوية وليست فنية، لذلك لا تجد لها أثراً الآن.
* الرواية العراقية بشكل عام، لم تنل حظها من التناول النقدي، هذا إذا سلمنا بأن الحركة النقدية في العراق في الأصل قاصرة عن معاينة النتاج الإبداعي!
- أنا أرى عكس ذلك، يكاد المشهد النقدي يكرس كل مشاغله للرواية، ونظرة سريعة إلى الصحف اليومية والمجلات الدورية العامة والمتخصصة تؤكد كلامي –وهنا أتحدث عن العقدين الأخيرين تحديداً- لكن ما نوع هذا النقد؟ هنا هو السؤال. يمكن تحديد نوعين من هذا النقد: النوع الأول نقد انطباعي هو أقرب إلى عروض الكتب والمقالات النقدية منه إلى الدراسات النقدية، أسهمت في انتشاره كثرة الصحف وقلة المجلات المتخصصة التي تعطي مساحات مناسبة لنشر الدراسات، والنوع الثاني هو الدراسات الأكاديمية الجامعية (الماجستير والدكتوراه) التي انتشرت في العراق بشكل لافت –ربما لكثرة الجامعات والكليات- حنى لا يكاد يخلو يوم من نشر خبر عن مناقشة رسالة ماجستير أو أطروحة دكتوراه عن الرواية، وهو أيضاً في الغالب دراسات لأعمال كتاب يختارهم المشرف الأكاديمي من دون معايير واضحة، وكلا النوعين، الصحافي والأكاديمي، لم يقدم لنا دراسات وتحليلات لظواهر فنية أو فكرية في النتاج الروائي، لذلك لو أنك قرأت الآن جميع الدراسات والمقالات لن تخرج بصورة واضحة عن المشهد الروائي في العراق كما سبق أن قدّمه عبد القادر حسن أمين وعلي جواد الطاهر وعبد الإله أحمد ونجم عبد الله كاظم وغيرهم من الأكاديميين في عقود الستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات. لذلك أستطيع القول إن نقد الرواية موجود بشكل مناسب لكنه غير مؤثر، باستثناء عدد قليل من النقاد والدراسات.
* قرأت في مجلة «الفيصل» السعودية دراسة مطوَّلة عن روايتك الأخيرة «لن يأتي الصباح هذه الليلة»، حيث وصفت الدراسة الراوية بـ«الأدب المضموم»... ليتك تحدثنا عن خصوصية هذه التجربة ومصطلح (الأدب المضموم).
- هذه دراسة كتبها الناقد الدكتور حمزة عليوي وقد استعمل هذا المصطلح «الأدب المضموم» أو «أدب الأدراج»، كما في بعض البلدان التي عانت من الأنظمة الشمولية والديكتاتورية التي قيّدت النتاج الأدبي بشروطها، وقد وجد الدكتور عليوي روايتي «لن يأتي الصباح هذه الليلة» التي صدرت العام الماضي عن وزارة الثقافة العراقية، تنضوي تحت هذا المصطلح لكونها كُتبت في زمن النظام السابق، وقد كتبتها في عام 1993 ولم يطّلع عليها غير الناقد الراحل الدكتور عبد الإله أحمد، المعروف بقسوة أحكامه، ومن ثم اطّلع عليها بعد سنوات الشاعر الراحل يوسف الصائغ الذي كتب لي على أثرها رسالة خاصة نشرتُها على ظهر غلاف الرواية بخطه. هذه الخصوصية الأولى للرواية، الخصوصية الثانية أنني كتبتها بكامل حريتي من دون أن أضع اعتباراً للرقيب، لأنني ببساطة لم أفكر في نشرها، فقد حاولت أن أجعل منها شهادة حية عما جرى في حرب الخليج الثانية، خصوصاً وقت انسحاب الجيش العراقي من الكويت الذي وصفته من خلال جريح يرصد أهوال الحرب، وهو رصد ميداني حقيقي من دون أي مواجهات سياسية، وبعد نشرها فوجئ الكثير بتفاصيل هذه الأهوال التي أخفاها الأدب التعبوي والشعارات السياسية. وعرفت الآن أن الدكتور حمزة عليوي مطّلع على هذه التفاصيل من أستاذه د. عبد الإله أحمد قبل الاحتلال، وأنه حمل رسالة بهذا الخصوص من د. عبد الإله إلى الناقد المصري جابر عصفور في أثناء زيارة عليوي للقاهرة.
* أرى أنك لم تحسن توقيت إصدار هذه الرواية التي صدرت في نفس وقت صدور روايتك (دفوف رابعة العدوية)؟
- معك حق تماماً، والأمر غير مقصود، فقد كان يفترض أن تصدر رواية «لن يأتي الصباح هذه الليلة» في عام 2021، و«دفوف رابعة العدوية» في عام 2022، لكنّ تأخُّر إصدار الأولى جعلها تزحف على وقت صدور الثانية، والأمر كله كان بيد الناشرين ولم أستطع تغييره.
* أين تكمن خصوصية رواية «دفوف رابعة العدوية»؟
- تسير الرواية على محورين؛ الأول فكريّ صوفيّ يرى أن الإحساس بالجمال الروحي والبصري والحسي هو إحدى طرق الوصول إلى الله. والآخر تاريخي غير خاضع لاشتراطات الزمن، يمتد من سنوات العقوبات الاقتصادية على العراق وأثرها في تهشيم بنية المجتمع وانهيار الطبقة الوسطى نزولاً إلى تأسيس البصرة القديم على يد عتبة بن غزوان والتأسيس الحديث بظهور ميناء المعقل. وأعتقد أن الجانب الفني المتميز في الرواية هو أنني استطعت نسج خيوط هذه «الأزمان» في نسيج واحد رغم تباين أطوالها، ونسّاج القماش يعرف صعوبة أن تُستعمل خيوط بأطوال مختلفة في النسج، إذ من خلال هذا النسج جعلت هذين المحورين يلتقيان في مناطق حيوية من المتن السردي.
القصة والرواية في العراق سيقتا إلى التجنيد الإجباري مثلما جنّدونا في جبهات الحرب
* قرأتُ أكثر من دراسة نقدية وجدتْ في الرواية كشوفات جديدة عن الغناء والموسيقى في البصرة، هل خططت لهذه الكشوفات إنْ صح وجودها، وكيف؟
- الروائي مثل الأركيولوجي، يحدد مساحة التنقيب لغرض معين لكن حسب أدواته تظهر له اكتشافات جديدة لا تنتمي لهدف التنقيب لكنها لا تقل أهمية عن هدف التنقيب فتضيف له منجزاً آخر، لذلك يمكنني القول إن رواية «دفوف رابعة العدوية» رواية طبقات سواء في تناولها المجتمع النسوي البغدادي من خلال إقامة «القبولات» في بيوتات بغداد العريقة في الأفراح والأحزان والتي لم يتم تناولها من قبل، أم في المجتمع البصري من خلال فرق الخشابة، وارتباط غناء الخشابة في حياة البصريين، فقد أكدت الرواية أن جذور غناء الخشابة جذور دينية وحاولت ربطها بدلالة المكان بالمتعبدة الصوفية البصرية رابعة العدوية، وهذه من كشوفات وتفسيرات الرواية، لأن صورة رابعة العدوية لدى أغلب الجمهور العربي ترتبط بصورة الممثلة نبيلة عبيد من خلال فيلمها الشهير الذي مثّلت فيه شخصية رابعة العدوية، الرواية حاولت أن تعزل هذه الشخصية عن الفيلم.