عبد الستار البيضاني: النقد الروائي موجود لكنه غير مؤثر باستثناء القليل

نالت روايته «دفوف رابعة العدوية» جائزة الإبداع

عبد الستار البيضاني: النقد الروائي موجود لكنه غير مؤثر باستثناء القليل
TT

عبد الستار البيضاني: النقد الروائي موجود لكنه غير مؤثر باستثناء القليل

عبد الستار البيضاني: النقد الروائي موجود لكنه غير مؤثر باستثناء القليل

الروائي العراقي عبد الستار البيضاني أحد الأسماء الروائية التي تحظى بحضور واضح في المشهد الأدبي العراقي، له عدد من الأعمال الروائية المهمة، التي نال أحدها، وهو «دفوف رابعة العدوية»، مؤخراً جائزة الإبداع، وهي الجائزة الأدبية الأبرز في العراق.

له عدة مجموعات قصصية، منذ بدأ الكتابة عام 1977 منها: «أصوات عالية 1983»، و«الثنائيات 1993»، و«مآتم تنكرية 2000»، و«تحت خط الحب 2011»، وأصدر عدد من الروايات هي: «عطش على ضفاف الدانوب 2001»، و«لجوء عاطفي 2004»، و«لن يأتي الصباح هذه الليلة 2022»، وله: «الزاوية والمنظور- حوارات في القصة 2002»، و«المسلات- نصوص سردية 2016».

هنا حوار معه...

* وفق التجييل الأدبي في العراق فأنت تنتمي لجيل الثمانينات، الذي تزامن ظهوره مع الحرب العراقية-الإيرانية. ما أثر هذا الجيل على المشهد الروائي والقصصي في العراق، وهل ترى أن الرواية العراقية شهدت انطلاقتها الجديدة في تلك الحقبة؟

- مع تحفظي على التحقيب الزمني للأجيال، كونه محاولة تبناها جيل الستينات لتمييز أنفسهم عن جيل الرواد، لكني سأستعمل هذه المصطلحات إجرائياً. لقد وُلد هذا الجيل في ظروف ومناخات ثقافية محلية وعربية وعالمية فرضت على نتاجاته ورؤاه سمات مغايرة عن سمات الأجيال السابقة خصوصاً جيل الستينات الذي كان مهيمناً على المشهد الثقافي مدعوماً بمجموعة من النقاد الذي تبنوا رؤاه ونتاجاته، وهي رؤى غلب عليها الطابع الفكري أكثر من الطابع الفني حيث عدّوا نتاجاته رد فعل على نكسة العرب في هزيمة يونيو (حزيران) 1967. وقد تأثرت فنياً بالتيارات الوجودية والعبثية، ولعلك تذكر تأثيرات سارتر وكولن ولسن في تلك الفترة. وحاول جيلنا أن يخرج من هذه التأثيرات بما فيها التأثيرات الآيديولوجية التي حاولت السلطات فرضها آنذاك سواء بالتبني المؤسساتي أو بالتنظير مثل إطلاق تسميات «جيل ما بعد النكسة»، أو «جيل الواقعية النضالية» وغيرها من التسميات التي كانت تُطلق مثل الفقاعات. ولعل من محاسن الصدف أن تشهد بداياتنا في الخروج من تأثيرات جيل الستينات، هو موجة الترجمات الكبيرة لأدباء أميركا اللاتينية واليابان، التي أعادتنا إلى الواقع بالتقاط سحره وإعادة إنتاجه على طريقة الواقعية السحرية وليس الواقعية الكربونية لجيل الخمسينيات، وفعلا كانت بدايات أغلبنا متأثرة بهذه الموجة قبل أن تجتاحنا الحرب وهيمنة السلطة على النتاج الثقافي لجعله في خدمة المعركة، أي إن القصة والرواية سيقتا إلى التجنيد الإجباري مثلما جنّدونا في جبهات الحرب، ففقدت نتاجات جيلنا ممن كتب للحرب من الجانب الفني إلى الجانب التعبوي، أي إن الأدب كان في خدمة إعلام المعركة وكانت تقام مسابقات نصف سنوية للقصة والرواية تطبع كميات كبيرة جداً من المجاميع والقصص الخاصة بالمعركة، وفعلاً الرواية العراقية شهدت انطلاقة كبيرة في تلك الفترة ولكن بمواصفات تعبوية وليست فنية، لذلك لا تجد لها أثراً الآن.

* الرواية العراقية بشكل عام، لم تنل حظها من التناول النقدي، هذا إذا سلمنا بأن الحركة النقدية في العراق في الأصل قاصرة عن معاينة النتاج الإبداعي!

- أنا أرى عكس ذلك، يكاد المشهد النقدي يكرس كل مشاغله للرواية، ونظرة سريعة إلى الصحف اليومية والمجلات الدورية العامة والمتخصصة تؤكد كلامي –وهنا أتحدث عن العقدين الأخيرين تحديداً- لكن ما نوع هذا النقد؟ هنا هو السؤال. يمكن تحديد نوعين من هذا النقد: النوع الأول نقد انطباعي هو أقرب إلى عروض الكتب والمقالات النقدية منه إلى الدراسات النقدية، أسهمت في انتشاره كثرة الصحف وقلة المجلات المتخصصة التي تعطي مساحات مناسبة لنشر الدراسات، والنوع الثاني هو الدراسات الأكاديمية الجامعية (الماجستير والدكتوراه) التي انتشرت في العراق بشكل لافت –ربما لكثرة الجامعات والكليات- حنى لا يكاد يخلو يوم من نشر خبر عن مناقشة رسالة ماجستير أو أطروحة دكتوراه عن الرواية، وهو أيضاً في الغالب دراسات لأعمال كتاب يختارهم المشرف الأكاديمي من دون معايير واضحة، وكلا النوعين، الصحافي والأكاديمي، لم يقدم لنا دراسات وتحليلات لظواهر فنية أو فكرية في النتاج الروائي، لذلك لو أنك قرأت الآن جميع الدراسات والمقالات لن تخرج بصورة واضحة عن المشهد الروائي في العراق كما سبق أن قدّمه عبد القادر حسن أمين وعلي جواد الطاهر وعبد الإله أحمد ونجم عبد الله كاظم وغيرهم من الأكاديميين في عقود الستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات. لذلك أستطيع القول إن نقد الرواية موجود بشكل مناسب لكنه غير مؤثر، باستثناء عدد قليل من النقاد والدراسات.

* قرأت في مجلة «الفيصل» السعودية دراسة مطوَّلة عن روايتك الأخيرة «لن يأتي الصباح هذه الليلة»، حيث وصفت الدراسة الراوية بـ«الأدب المضموم»... ليتك تحدثنا عن خصوصية هذه التجربة ومصطلح (الأدب المضموم).

- هذه دراسة كتبها الناقد الدكتور حمزة عليوي وقد استعمل هذا المصطلح «الأدب المضموم» أو «أدب الأدراج»، كما في بعض البلدان التي عانت من الأنظمة الشمولية والديكتاتورية التي قيّدت النتاج الأدبي بشروطها، وقد وجد الدكتور عليوي روايتي «لن يأتي الصباح هذه الليلة» التي صدرت العام الماضي عن وزارة الثقافة العراقية، تنضوي تحت هذا المصطلح لكونها كُتبت في زمن النظام السابق، وقد كتبتها في عام 1993 ولم يطّلع عليها غير الناقد الراحل الدكتور عبد الإله أحمد، المعروف بقسوة أحكامه، ومن ثم اطّلع عليها بعد سنوات الشاعر الراحل يوسف الصائغ الذي كتب لي على أثرها رسالة خاصة نشرتُها على ظهر غلاف الرواية بخطه. هذه الخصوصية الأولى للرواية، الخصوصية الثانية أنني كتبتها بكامل حريتي من دون أن أضع اعتباراً للرقيب، لأنني ببساطة لم أفكر في نشرها، فقد حاولت أن أجعل منها شهادة حية عما جرى في حرب الخليج الثانية، خصوصاً وقت انسحاب الجيش العراقي من الكويت الذي وصفته من خلال جريح يرصد أهوال الحرب، وهو رصد ميداني حقيقي من دون أي مواجهات سياسية، وبعد نشرها فوجئ الكثير بتفاصيل هذه الأهوال التي أخفاها الأدب التعبوي والشعارات السياسية. وعرفت الآن أن الدكتور حمزة عليوي مطّلع على هذه التفاصيل من أستاذه د. عبد الإله أحمد قبل الاحتلال، وأنه حمل رسالة بهذا الخصوص من د. عبد الإله إلى الناقد المصري جابر عصفور في أثناء زيارة عليوي للقاهرة.

* أرى أنك لم تحسن توقيت إصدار هذه الرواية التي صدرت في نفس وقت صدور روايتك (دفوف رابعة العدوية)؟

- معك حق تماماً، والأمر غير مقصود، فقد كان يفترض أن تصدر رواية «لن يأتي الصباح هذه الليلة» في عام 2021، و«دفوف رابعة العدوية» في عام 2022، لكنّ تأخُّر إصدار الأولى جعلها تزحف على وقت صدور الثانية، والأمر كله كان بيد الناشرين ولم أستطع تغييره.

* أين تكمن خصوصية رواية «دفوف رابعة العدوية»؟

- تسير الرواية على محورين؛ الأول فكريّ صوفيّ يرى أن الإحساس بالجمال الروحي والبصري والحسي هو إحدى طرق الوصول إلى الله. والآخر تاريخي غير خاضع لاشتراطات الزمن، يمتد من سنوات العقوبات الاقتصادية على العراق وأثرها في تهشيم بنية المجتمع وانهيار الطبقة الوسطى نزولاً إلى تأسيس البصرة القديم على يد عتبة بن غزوان والتأسيس الحديث بظهور ميناء المعقل. وأعتقد أن الجانب الفني المتميز في الرواية هو أنني استطعت نسج خيوط هذه «الأزمان» في نسيج واحد رغم تباين أطوالها، ونسّاج القماش يعرف صعوبة أن تُستعمل خيوط بأطوال مختلفة في النسج، إذ من خلال هذا النسج جعلت هذين المحورين يلتقيان في مناطق حيوية من المتن السردي.

 القصة والرواية في العراق سيقتا إلى التجنيد الإجباري مثلما جنّدونا في جبهات الحرب

* قرأتُ أكثر من دراسة نقدية وجدتْ في الرواية كشوفات جديدة عن الغناء والموسيقى في البصرة، هل خططت لهذه الكشوفات إنْ صح وجودها، وكيف؟

- الروائي مثل الأركيولوجي، يحدد مساحة التنقيب لغرض معين لكن حسب أدواته تظهر له اكتشافات جديدة لا تنتمي لهدف التنقيب لكنها لا تقل أهمية عن هدف التنقيب فتضيف له منجزاً آخر، لذلك يمكنني القول إن رواية «دفوف رابعة العدوية» رواية طبقات سواء في تناولها المجتمع النسوي البغدادي من خلال إقامة «القبولات» في بيوتات بغداد العريقة في الأفراح والأحزان والتي لم يتم تناولها من قبل، أم في المجتمع البصري من خلال فرق الخشابة، وارتباط غناء الخشابة في حياة البصريين، فقد أكدت الرواية أن جذور غناء الخشابة جذور دينية وحاولت ربطها بدلالة المكان بالمتعبدة الصوفية البصرية رابعة العدوية، وهذه من كشوفات وتفسيرات الرواية، لأن صورة رابعة العدوية لدى أغلب الجمهور العربي ترتبط بصورة الممثلة نبيلة عبيد من خلال فيلمها الشهير الذي مثّلت فيه شخصية رابعة العدوية، الرواية حاولت أن تعزل هذه الشخصية عن الفيلم.


مقالات ذات صلة

الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة

ثقافة وفنون المؤرخة أود دو كيروس

الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة

لعل من أهم سمات الكتابات النقدية المواكبة لتحولات الفن المعاصر عبر العالم، تلك التي تقرنه دوماً بمسعى الانزياح الجذري بدلالات كلمة «فن».

شرف الدين ماجدولين
ثقافة وفنون عباس محمود العقاد

«فلسفة الضحك» عبر التاريخ كما يرويها العقاد

رغم أن الطبعة الجديدة التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة من كتاب «جحا الضاحك المضحك»، توحي بعمل مخصص لأشهر شخصية ساخرة في التراث العربي.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

في روايته الجديدة «ولا غالب» الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة، يقدم الكاتب الكويتي عبد الوهاب الحمادي معالجة فنية ودرامية جديدة لتاريخ العرب في الأندلس.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة

المؤرخة أود دو كيروس
المؤرخة أود دو كيروس
TT

الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة

المؤرخة أود دو كيروس
المؤرخة أود دو كيروس

لعل من أهم سمات الكتابات النقدية المواكبة لتحولات الفن المعاصر عبر العالم، تلك التي تقرنه دوماً بمسعى الانزياح الجذري بدلالات كلمة «فن»، على نحو يجعله معاكساً في كثير من الأحيان لتقاليد التشكيل البصري الخاضع للقواعد، في الرسم والصباغة والنحت، ومناهضاً لثقافة التحفة المرتكزة على مفاهيم فلسفية، متصلة بأذواق نخب محدودة ذات تكوين فني متين. لتنتقل إلى كونها شاملة لـ«أغراض» تجارية متباينة، موجهة لطبقة جديدة من الأثرياء، منفصلة عن المعايير الجمالية والأكاديمية المستقرة، وخاضعة لنوازع استهلاك المنتج الفاخر، وما يتصل به من رغائب إبراز الرفاه. وهو الفهم الذي يبرز للنظر انتقال الفن من وضع «التعبير الثقافي» إلى كونه تمثيلاً «لانتماء طبقي».

في هذا السياق، يتموضع كتاب «الفن المعاصر، التلاعب والجغرافيا السياسية» (منشورات إيرول، باريس، 2025) - Art contemporain, manipulation et géopolitique- وهو الإصدار الأخير للناقدة ومؤرخة الفن الفرنسية أود دو كيروس Aude de Kirros، التي اكتسبت شهرتها عبر العقود الثلاثة الأخيرة بوصفها من أكبر الباحثات المرتابات في واقع الفن اليوم، ومن أشد المعترضين على اختراقات الفن المعاصر لقواعد التشكيل البصري، ومن أكثر النقاد تشدداً في تحليل معايير تصنيف الأعمال ومنحها معادلات مالية. هي القادمة إلى عوالم الأروقة والمتاحف ومزادات الأعمال الفنية من مسار تعليمي توزع بين معهد الدراسات السياسية، وكلية الحقوق، ومحترفات الحفر (الغرافيك) في باريس، لتنتج أعمالاً بنكهة فلسفية لا تخفي تولعها بالسياسة والاقتصاد والسوسيولوجيا، من قبيل: «الفن الخفي، المنشقّون عن الفن المعاصر»، و«السنوات السوداء للرسم: 1983 – 2013»، و«قداسة الفن المعاصر، الأساقفة والمفتشون والمفوّضون»، و«خديعة الفن المعاصر، طوباوية مالية». إصدارات جعلت إسهاماتها المكثّفة في الحياة الفنية تتجلى عبر إدراك ناضج لعمق التحوّلات التي شهدها الفن عبر أصقاع الكون.

يتناول الكتاب موضوع الفن المعاصر في صلاته بما يمكن وسمه بـ«صناعة القيمة»، عبر تحليل نقدي لسوق الفن المعاصر، يضع تحت مجهر الاختبار السياقات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية، متجاوزاً التحليل المستند إلى قراءة وتأويل مرتكزات الخطاب الجمالي البحت؛ إذ تناقش أود دو كيروس تلك المرتكزات بوصفها عتبات لما بعدها، انطلاقاً من افتراض نقدي يرى أن الفن المعاصر، خاصة الأعمال التي تباع بأسعار خيالية، لا تعكس في وضعها ذاك «ذوقاً» أو «تعبيراً فنياً» فقط، عبر صور لا تخلو من تطرف، بل إنها غدت، على نحو ظاهر، تتخطى منطلقات الأسلوب «المفاهيمي»، الزاهد في أشكال اللوحة والمنحوتة المأثورتين، لتتحول إلى أداة نافذة شديدة التأثير في أيدي النخب والمؤسسات المالية والجهات الحكومية، توظفها بحرص ووفق شروط معقدة لخدمة مصالحها الخاصة. وبتعبير الباحثة في إحدى فقرات الكتاب: «لقد توقّف الفن المعاصر عن أن يكون مجرد مفهوم صرف، محصور تداوله في دائرة صغيرة من (السعداء المعدودين) الذين يتغذّون على غموضه. وأصبح فنّاً (جامعاً لكل شيء)، يضمّ كل المفاهيم: الفن، والموضة، والتصميم، وما سوى ذلك» (ص 16).

يمتد الكتاب على 4 فصول، ومقدمة، وخلاصات، وفهارس، في أزيد من 350 صفحة، تتخذ العناوين الفرعية التالية: «فنون في زمن الحرب» وهو الفصل الأول المشتمل على مبحثين، تدرس في الأول «البدايات الطوباوية للفن العالمي ما بين 1917 - 1991»، وتعالج في الثاني «التحوّل ذو الطابع الهيمني للفن ما بين 1990 - 2000 »، وتخصص الفصل الثاني: لـ«الحقبة العالمية في عقدي 2000- 2020» وتتناول فيه عبر مبحثين قضايا: «أوج النموذج الهيمني»، ثم «بزوغ العصر متعدد الأقطاب»، وتتناول في فصل ثالث: «خرائطية الفن المعاصر: من الهيمنة إلى التنافس»، وفي الفصل الرابع والأخير الموسوم بـ«قوى جديدة وتقنيات جديدة: ثورة الفن عالمياً»، تخوض في تحولات العقود الفنية الأخيرة عبر مبحثين، أولهما عن: «آخر حروب الفن، سنوات 2010–2020»، والثاني عن «التحولات النسقية للفن المعاصر ما بين 2020–2024».

والحق أن التحليل النقدي في هذا الكتاب، الذي لا يخلو من نبرة سجالية ملحوظة، يذهب في مجمله إلى تبني نظرة تاريخية محكومة ببنية الصراع السياسي - الاقتصادي، حيث يوَظَّف الفن المعاصر، من جهة، من حيث هو نتاج لقضايا العنصرية والعولمة وتغير المناخ والتحول الجنسي... ومن جهة ثانية، بوصفه حصيلة للتحكم المؤسساتي، وهو ما يبرر الانتشار السريع لتيارات الفن المعاصر المتفاقمة عبر العالم، وسعيها لإخضاع ما سواها. ولا غرابة بعد ذلك أن لا تالو الباحثة جهداً في إبراز أن عالماً يفيض بالصور والعروض والاحتفالات الفنية، التي روّجت لها إقامات فنية وأروقة ومتاحف شهيرة عبر العالم من نيويورك إلى سيدني، ومن لندن إلى باريس ومن داكار إلى دبي،... أصبح معها الفن المعاصر المدعوم مؤسساتياً والمسنود مالياً، عبر سياسات حكومية شتى، الأكثر حضوراً، على نحو يغمر المشهد بشكل شبه كلي، حيث بات يشكل واجهة براقة تحجب خلفها ما تبقى من تجارب فنية أخرى.

وغير عصي عن البيان أن هذا الوهج المتصل لا يكشف حقيقة الفن، بل يخلق واجهة مكتفية بذاتها، بحيث يبدو كل ما يقع خارج دائرة الضوء كأنه غير موجود أصلاً. وشيئاً فشيئاً تنزلق أعمال استثنائية كثيرة من داخل هذا المشهد المزدحم إلى منطقة العتمة، لا لأنها تعجز عن التأثير، بل لكونها تفتقد لمجال يسمح لها بالتجلي. ومع مرور الوقت، لا تتوارى هذا التجارب إلى الخلفية فحسب، بل تُدفَع إلى حالة من الانمحاء تجعل وجودها نفسه موضوعاً للشك، ويحتاج من يشتغل عليها إلى إثبات أنها ما تزال حية.

ولا ينفصل الدور التحكمي للمؤسسات الفنية الكبرى من إقامات وأروقة ومتاحف، التي تسلط أود دو كيروس عليها الضوء، عن وظائف المُموِّلين الخواص، وبعض الحكومات في تشكيل الذوق العام، والتلاعب بقيمة الأعمال الفنية، ما يُرسخ هيمنة المركز الغربي على المشهد الفني العالمي من جهة، ولا يترك لمفاهيم من قبيل «الجمهور الفني» و«جامعي الأعمال الفنية» و«تلقي المعارض»، دلالات واضحة، خارج ما تكسبها إياه تلك المؤسسات والسياسيات المتصلة بها، بحيث يتجلى الأمر كما تبرزه الباحثة في أكثر من موضع في الكتاب، من حيث هو «صناعة» لاعبين كبار، لهم قدم في الواجهة البراقة لأعمال «التركيب الفني» و«الهوت كوتير» و«تصاميم المجوهرات» و«أعمال الديكور»... وقدم في الخلفية المعتمة للمال ورهاناته ومضارباته ومآزقه.

ولا جرم بعد ذلك أن تكون «صناعة القيمة» تعريفاً مهذباً لما يمكن أن يكون عليه «التلاعب بسوق التحف»، وسرعان ما تكشف الباحثة الفرنسة، التي تعلن عن نفسها كأحد أصوات مقاومة هذا الدور التحكمي، عن آليات التلاعب التي تُمارس في هذا القطاع، من خلال وسطاء يجعلون القيمة تبدو غير طبيعية، بل «مُؤمَّنة» من خلال شبكة مغلقة، يتم فيها تحديد الأسعار وتضخيمها، عبر تكتلات من جامعي التحف والمستشارين وصالات المزادات الكبرى، ما يخلق نوعاً من التداول من الداخل (délit d’initiés)؛ إنها شبكة الوسطاء نفسها التي تنتهي إلى قولبة «العمل الفني» وأصحابه، باعتبارهم «منتجات» يتم الترويج لهم، وفقاً لمنطق السوق، بدلاً من الجدارة الفنية. ما دامت أعمال الفن المعاصر لم تعد تقيَّم، بناء على معايير جمالية أو فنية، بل أصبحت تدار باعتبارها منتجاً مالياً مشتقاً، داخل سوق يمكن وسمها حسب الباحثة بـ«يوتوبيا مالية» (Utopie financière) تُنتج قيمة لأشياء قد لا تمتلكها في الأصل.

يتبنى الكتاب في مجمله نظرة تاريخية محكومة ببنية الصراع السياسي ــ الاقتصادي

وتدريجياً تخلص أود دو كيروس، عبر مباحث الكتاب وفصوله، إلى محصلة، تتولى فيها تلك المؤسسات المتحكمة في القيم الفنية وما يوازيها من أنصبة مالية، تشريع سوق لا يعكس حقيقة المنجز، بل حقيقة افتراضية متواضع عليها من قبل سلسلة الوسطاء، الأمر الذي سيسهل معه أن تتحول الأعمال الفنية التي باتت لها تلك القدرة التجريدية الكبرى للقيم المنقولة، إلى جعل سوق الفن ملاذاً مالياً، يعتبر مرتادوه من رجال أعمال، ومنتهزي فرص، ومغامرين، الأعمال الفنية بمنزلة أصول آمنة مربحة، خاصة بعد الأزمات الاقتصادية الكبرى، مثل أزمة 2008، التي لاحظت الكاتبة بصددها أن سوق الفن (على عكس الأسواق الأخرى) استمر في تسجيل مبيعات قياسية، ما دلّ على انفصاله عن الاقتصاد الحقيقي وتحوله إلى مكان آمن لاستثمار الأرصدة الجامدة، بالقدر نفسه الذي مثّل فيه فضاءً تبادلياً استثنائياً لغسيل الأموال، والتهرب الضريبي. وبتعبير الباحثة، فـ«جيل جامعي التحف الفنية الذي كان يحدّد الذوق في نهاية القرن العشرين لم يعد موجوداً. كان هذا الجيل أنغلوساكسونياً وأوروبياً، غنياً ومثقفاً أو راغباً في أن يكون كذلك. أما الموجة الجديدة فهي تتجاوزه في الثراء، ولم تعد لكلمة (فن) في عرفها المعنى نفسه... لهذا من الطبيعي أن تتكيّف دور المزادات لتقدم لهذا الجيل الجديد مزيجاً بارعاً، وغير متجانس، مما قد يرغب في استهلاكه؛ من العمل الفني إلى حقيبة اليد، ومن غرض التصميم إلى الموضة» (ص 15- 16).

ولعل تحول دلالة «الفن»، واختلال توازن القيمة الإبداعية والمالية، وخضوع أثمان التحف لتحكم مؤسسات كبرى، مع اتساع سوق الفن ليشمل صناعات فاخرة شتى تغري بالاستثمار، كلها عوامل أسهمت بحسب كتاب «الفن المعاصر: التلاعب والجغرافيا السياسية» في الرهان على القوة الناعمة للفن، ليس داخل الاقتصاد فقط، بل ضمن سياقات جيوسياسية متعددة، حيث أضحى سوق الفن ساحة معركة غير مباشرة بين القوى التقليدية (أوروبا والولايات المتحدة) والقوى الصاعدة (الصين ودول الخليج)، هذه الأخيرة التي دخلت مضمار المنافسة بخطط مستقبلية لتَبْيِئَةِ منتجات الفن المعاصر ضمن محيطها، ليس بهدف اكتساب شرعية ثقافية مضافة فقط، بل بقصد تحدي الهيمنة الغربية القديمة. إنه التنافس ذاته الذي ضاعف من أسعار الأعمال الفنية، وحوّلها إلى «سلاح» في أيدي النخب المالية والسياسة المتصارعة. وبتعبير موجز، فقد مثّلت الجغرافيا السياسية للفن، بحسب أود دي كيروس، السبيل إلى الكشف عن «تحوّل العمل الفني من كونه قيمة جمالية إلى رمز للقوة»، ونقطة ارتكاز في شبكات النفوذ العالمية التي تربط بين الإبداع والمال، والسلطة، والعلاقات الدولية في عالمنا المعاصر.


«فلسفة الضحك» عبر التاريخ كما يرويها العقاد

عباس محمود العقاد
عباس محمود العقاد
TT

«فلسفة الضحك» عبر التاريخ كما يرويها العقاد

عباس محمود العقاد
عباس محمود العقاد

رغم أن الطبعة الجديدة التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة من كتاب «جحا الضاحك المضحك»، توحي بعمل مخصص لأشهر شخصية ساخرة في التراث العربي، فإن عباس محمود العقاد (1889 – 1964) اختار كمفكر من طراز خاص أن يكرس المساحة الكبرى من كتابه لمناقشة «فلسفة الضحك» عبر حقب زمنية مختلفة.

البداية كانت من عند أفلاطون؛ إذ ذكر المضحكين والمضحكات وهو يبحث عن مكانهم في «مدينته الفاضلة» أو جمهوريته المثالية التي أراد أن يقصرها على الأفاضل والمأمونين، وأن يجنبها عوارض النقص والرذيلة، فبدا له أن الشعر موكل بالجانب الضعيف من الإنسان، بغير تفرقة بين شعر المأساة وشعر الملهاة.

ويرى الفيلسوف اليوناني الأشهر أن الإنسان الكريم يأبى أن يستسلم للبكاء إذا أصيب في عزيز عليه بشكل شخصي، لكنه لا يبالي أن يبكي أو يحزن إذا رأى هذا المنظر معروضاً عليه في مسرحية مفجعة؛ لأن البكاء يخدعه في هذه الحالة ويوقع في روعه أنه يبكي لغير مصابه فيتغلب على نفسه في سبيل غيره. والإنسان الكريم يأبى أن يتفوه بالعبارات الكوميدية أو التراجيديات المضحكة، ولكنه يستسلم للضحك إذا سمعها محكية في رواية هزلية يمثلها المسرحيون أمامه.

وليس بالشيء الجيد، وفقاً له، أن يكون في «الجمهورية الفاضلة» إنسان يغلب على وقاره الضحك أو البكاء على نحو يحطّ من منزلة البشر في صورتهم المثالية. إن نزلاء جمهوريته «يجب أن يتساموا على مشاهد الهزل التي لا تليق إلا بالعبيد والأجراء». ومن هنا أثنى على المصريين؛ لأنهم يعلمون الأبناء الموسيقى والرقص قياماً بالشعائر والطقوس في المعابد، ولكنهم لا يسمحون للشعراء بخلط الألحان بالأغاني المبتذلة، أو تركيب القصائد الموزونة على رقص الخلاعة والمجون.

وكانت خلاصة رأيه في كتاب «الجمهورية» وكتاب «القوانين» أن الشعراء يحسنون صناعة القصائد ويستحقون من أجل ذلك أكاليل الغار «ولكن ليلبسوها ويخرجون من المدينة الفاضلة إلى حيث يشاءون».

ولم يذكر أفلاطون سبب الضحك إلا في كلمات قليلة خلال هذه المباحث الأخلاقية، وهو يرى في تلك الكلمات أن الضحك مرتبط بالجهل الذي لا يبلغ مبلغ الإيذاء، وأن الشعراء يضحكوننا حتى يحاكوا أولئك الجهلاء، ولكنهم «إذا طرقوا موضوع الملحمة أو المأساة عظموا الطغيان وجعلوا رواياتهم حكاية لأعمالهم، فلا أمان لهم في محاكاة الجهل ولا في محاكاة الطغيان».

وكان أرسطو أدق من أستاذه في تعبيراته وتصنيفاته لأقسام الشعر؛ لأنه وضع فيها مبحثاً خاصاً بـ«المسرحيات المضحكة» التي تتبع تطورها منذ أن كانت نوعاً من الهجاء والأغاني الشهوانية إلى أن أصبحت موضوعاً للإضحاك والتسلية. وهو يرى أن الضحك نوع من أنواع الدمامة أو التشوّه، لكن بدرجة لا تبلغ حد الإيلام. وفي نبذة منسوبة إليه من رسالة مقطوعته، طُبعت في برلين سنة 1899، يؤكد على الدور التطهري للضحك قائلاً:

«إن الملهاة تطهر النفس كما تطهرها المأساة؛ لأن النفس المطبوعة على الرحمة أو على حسن الذوق تجد في المأساة والملهاة منصرفاً لما تنطوي عليه من العطف والشوق إلى الكمال واجتنابه التشويه».

ويرى العقاد أن كلا الفيلسوفين قد أخطأ في فهم المأساة والملهاة على أنها نوع من التقليد والمحاكاة؛ لأن «الشعر المسرحي يعرض الفواجع بتمثيل أناس يحاكون المصابين بها في حركاتهم وأقوالهم، وكذلك يفعل بالمضحكات والملهيات. ويندر بين فلاسفة القرون الوسطى من نظر إلى الضحك نظرة جدية ورآه يتضمن حكمة تجعله جديراً بالبحث عنه وعن أسبابه، لانصرافهم إلى البحث في الأصول الدينية وأسرار ما وراء الطبيعة. ولعل فلاسفة اليونان الأقدمين كانوا على هذا الرأي، ولم يبحثوا ولو بعض البحث في الضحك وأسبابه إلا في طريق بحثهم عن التراجيديا والكوميديا مع رجوع هذه في أساسها إلى سير الأرباب وطقوس المعابد».

ويرى العقاد أنه «إذا كنا نعيب على الثقافة القديمة قلة البحث في الضحك وأسبابه، فإن الثقافة الحديثة كانت على النقيض، حيث اهتمت به على نحو يكاد يكون مبالغاً فيه باعتباره مؤشراً على مزاج هذه الأمة أو تلك، ويكشف عن طبيعتها باعتباره مكوناً أصيلاً من مكونات الثقافة العامة، ولا يقل أهمية في ذلك عن الأدب والتراث الشعبي. ومن أبرز الأمثلة لذلك كتاب (الضحك) الذي صدر للفيلسوف الفرنسي هنري برغسون عام 1911، والذي تجاوز عدد مراجعه الأربعين مرجعاً».

ويعود هذا الإفراط في الكتابة عن الضحك، كما يرى العقاد، إلى سبب مهم يتمثل في نشأة علم الذوق أو علم الجمال الذي ينظر في الفروق بين الجميل والجليل والمضحك كما تعرضها الفنون الجميلة، لا سيما الأدب المسرحي؛ إذ أصبح البحث عن المضحك والمبكي والحسن والقبيح مقروناً بالبحث فلسفياً عن المقدس والقداسة في شعور الإنسان وممارساته.

ويرى برغسون، كما يضيف العقاد، أننا «لا نضحك إذا رأينا إنساناً يتصرف تصرف الآلة ويقيس الأمور قياساً آلياً لا محل فيه للتميز المنطقي، ولكننا نضحك في الجماعة عامة ولا نضحك منفردين؛ لأن الضحك تنبيه اجتماعي أو عقوبة اجتماعية لمن يغفل عن العرف المتبع في المجلس أو في المحفل أو في الهيئة الاجتماعية بأسرها. والضحك عنده إنساني بمعاني الكلمة، فلا يُشاهَد في غير الإنسان، ولا يستثيرنا في غير عمل إنساني أو عمل نربطه بالإنسان».

كما أننا لا نضحك من منظر طبيعي أو من جماد كائناً ما كان، إلا إذا ربطناه بصورة إنسانية وجعلناه شبيهاً بإنسان نعرفه أو منسوباً إلى عمل من أعمال الناس، وقد نضحك من قبعة نراها، فلا يكون الضحك منها نفسها، بل من الإنسان الذي يلبسها ونتصور هيئته فيها، كما يقول.

ومن شروط الأمر المضحك عند الفيلسوف برغسون أن يحصل في جماعة أو يرتبط بالتصرف الجماعي، فقلما يضحك الإنسان على انفراد إلا إذا استحضر العلاقة الاجتماعية في ذهنه. وقلما ننظر إلى أحد يضحك على انفراد إلا خامرنا الشك في عقله، ما لم يكن له عذر نعلمه!


تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني
TT

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

في روايته الجديدة «ولا غالب» الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة، يقدم الكاتب الكويتي عبد الوهاب الحمادي معالجة فنية ودرامية جديدة لتاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني يعلي من قيمة التسامح وقبول الآخر ويستنكر منطق الإقصاء بين الشرق والغرب.

على تلال غرناطة تلتقي أربع شخصيات معاصرة تطاردها أزماتها الشخصية في زماننا الحالي وقد دلفت عبر «بوابة الزمن» لتستيقظ في عام 1492 عشية سقوط المدينة حيث وجدوا أنفسهم أمام مهمة إنقاذ غرناطة من مصيرها المحتوم كآخر قلاع العرب في بلاد الأندلس. تمنح الرواية الشخصيات أحد خيارين: تغيير مجرى التاريخ أو أن يصبحوا ضحاياه الجدد، لكن كيف لأربعة غرباء يحمل كل منهم ندوب صدمته الخاصة أن يغيروا مصير الأمة الأندلسية؟

وسبق أن صدر للمؤلف عدة أعمال منها «سنة القطط السمان» التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة كتارا للرواية العربية، كما صدر له كتاب «دروب أندلسية» في أدب الرحلات.

من أجواء الرواية نقرأ:

على تل أخضر أمامي، استوى قصر الحمراء مثل شيخ شاحب ممدد على سرير مستشفى، لم يقتص المرض من وسامة تالدة. لطخت الشمس الآفلة غيوماً، تلتحف سماء غرناطة بلون النارنج. نظرت إلى الساعة في معصمي، قاربت السابعة أعدت لف الشال المغمور بعطرها حول رقبتي أحميها من صقيع نهايات ديسمبر فغمرتني رائحة الليمون. أغمدت كفي في جيبي، ضحكة شبان ورائي ونغمات عازف غيتار يصدح بغناء إسباني مكلوم. جميع الأعين وفرقعات آلات التصوير تحاول أن تقتنص جمال الشيخ على سريره الأخضر، لولا الحمراء لما أمسى لهذا المكان معنى لهم ولولاك ياصاحبة العطر، لما كان للحمراء معنى لي.

فهمت الآن لماذا كنت ياغادة تحبين هذه المدينة الواقعة خارج خريطة السياحة العربية غرناطة، ولماذا كنت تقرئين قبل النوم كتباً مصورة عن الأندلس أو تنصتين لبرامج إذاعية تاريخية وتتنهدين في أواخر أبيات الشعر، أو ترهفين لوديع الصافي وفيروز يتناجيان موشحاً، غصة في قلبي لن تزول لفتوري عن تحقيق رغبتك في زيارة هذا المعلم.

تغافلت أن القدر قد يسلب منا من نحب وقد يسلبنا أنفسنا. كنت أؤجل وكنت ترضين بأعذار انشغالي: عيادة مكتظة، سعال مرضي، حالات طارئة تنزف، خفارات ليلية مرهقة، نحيب أطفال، إعداد أوراق مؤتمرات طبية، بل وتجدين أعذاراً تقنعك أو هكذا كنت تتظاهرين لأنك تدركين أن التاريخ لا محل له في تلافيف دماغي.أحب تنفس عطر الليمون عندما تدنين مني وتلقبيني هامسة بصانع المعجزات، صانع المعجزات الذي رحلت يا غادة بين يديه، أغمضت عينيك إلى الأبد دون أن يقدر على فعل أي شيء».