الجسد في الفن التشكيلي... زاوية جمالية - تاريخية

تطوَّر مع ظهور العلوم الاجتماعية خلال القرن التاسع عشر

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

الجسد في الفن التشكيلي... زاوية جمالية - تاريخية

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

صدر أخيراً للفنان والناقد التشكيلي المغربي إبراهيم الحَيْسن كتاب جديد بعنوان «أيقونوغرافيا العُري - الجسد ونوافذ الغواية في الفن التشكيلي»، عن منشورات خطوط وظلال بعمَّان، الأردن.

أول ما يلفت الانتباه في الكتاب هو غلافه الفني الذي يستضيف صورة فوتوغرافيا ملوَّنة للفنان الصيني المعاصر تشيو تشيجي، ثم التقديم الذي قام به الباحث في الجماليات موليم العروسي متسائلاً فيه: هل بإمكان الفنان العربي أن يتعامل مع الأشكال والتيارات والمدارس التشكيلية العالمية فقط باعتبارها تقنيات، أم أنّ عليه أن يتبنَّاها كفلسفات تُعيد النظر في حياته وتصيب بالشرخ أنساق فكره التقليدي؟

وجاء الكتاب مفصلاً في 208 صفحات تجزأت إلى أربعة أقسام يتناول الأول منها الجسد كمادة سوسيولوجية وسؤال أنثروبولوجي، وكموضوع للتأمُّل برز وتطوَّر أساساً مع ظهور العلوم الاجتماعية خلال القرن التاسع عشر، مستحضراً عنصر اللباس وأشكال الزِّينة والتبرُّج وباقي إكسسوارات الجسد الأخرى. وتناول القسم الثاني من الكتاب موضوع الجسد عبر التاريخ من خلال عرض وقراءة في مجموعة من الإبداعات والقِطع التشكيلية العالمية، القديمة والمعاصرة (صباغة، نحت، سيراميك، فوتوغرافيا، إرساءات وتجهيز في الفراغ، شرائط مصوَّرة...) وكلها أعمال قدَّمت الجسد عاريّاً بما رافق ذلك من أشكال المنع والحظر، وما نتج عنها من ردود أفعال متباينة من لدن الفنانين المتمرِّدين ومن مواقف مختلفة لنقاد وفلاسفة ورجال دين. كما تطرق الكاتب في القسم نفسه من تجربة الفنانين المستشرقين وتمثيلاتهم Représentations للجسد الأنثوي على الخصوص، في الرسم والتصوير.

أما القسم الثالث من الكتاب فهو يحاول رسم خرائط الجسد متناولاً في هذا السياق عنصر التمرد والتمجيد والسعي إلى جعل الجسد بذاته سنداً للتعبير، داعماً هذا التوجع بمجموعة من العروض الأدائية والمشهدية والاستثنائية، ليخلص في الأخير إلى تجربة «فوتوغرافيا العُري» لدى فنانين معاصرين اهتموا على نحو مركز بتصوير الأجساد العارية.

وتطرق القسم الرَّابع والأخير من الكتاب لوضعية الجسد في الإبداع التشكيلي العربي في ظلِّ سُلطة الطابو ورقابة المؤسَّسات الدينية والأخلاقية والتفسير الخاطئ لموقف الإسلام من التصوير والتجسيد، مع مقاربة أولية وجزئية لبعض التجارب التشكيلية العربية المعاصرة التي حاولت التعبير عن الجسد بأساليب صباغية ونحتية وأدائية متباينة، تبحث في إمكانية التغلب على تطويع المادة والسند في علاقتهما البصرية واللمسية مع التقنية والمعالجة الجمالية، ومع الفضاء أيضاً.

يُثير هذا الكتاب سؤال العُري في الفن التشكيلي من زاوية جمالية تاريخية، ويَفْتَحُ نوافذَ الغِواية التي تسلَّلت منها نماذجٌ جسدية عارية - مصبوغة ومنحوتة - تخلَّصت من عداءِ وهجومِ الكنيسة الكاثوليكية، الذي استهدف طويلاً أتباع النزعة الأيقونية Iconoclasme خلال القرن التاسع عشر، وتحديداً إبَّان الفترة الفيكتورية.

ولا يبدو الأمر مختلفاً كثيراً في التجربة العربية الإسلامية، فقد ظلّ التعاطي مع رسم الجسد العاري خجولاً ومحتشماً، واصطدم مع مُعضلة «الإنكار الديني» للتصوير، التي تفاقمت في ظلّ سُلطة فقهية متزمِّتة عَدَّت الفن التشبيهي Art figuratif اختراقاً للمؤسَّسة الدينية والأخلاقية.

ولأيقونوغرافيا العُري تاريخ عريق وقديم قِدم الإنسانية في الرسم والنحت، لكنه ظل يخوض معركة واسعة لتمثل العُري كرَّغبة غامضة تتعرَّض باستمرار للهجوم والرَّقابة. لقد عَبَرَ العُري جميع العصور وجميع الثقافات، من عصور ما قبل التاريخ إلى اليوم، من الهند إلى أوقيانوسيا، من أفريقيا إلى أوروبا، وكان العُري موضع شكوك كبيرة من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، كما يقول الكاتب ويليام ديللو W. Dello في كتابه «فن العُري»، ويضيف أن العُري الفني دخل فقط الأماكن المقدَّسة في العالم المسيحي بعد معارك مريرة، وحتى بعد أن أصبح «موضوعاً» في أكاديميات الفنون خلال القرن الثامن عشر، استمر في إثارة الاستنكار، وحتى الفضيحة. ورأى أن العديد من الأعمال الفنية، التي كانت تُعتبر فاضحة، لم يعد لديها أيّ شيء يثير الصدمة بشأنها. وفي الإبداع التشكيلي بقي العُري طيلة ردح طويل من الزمن يطرح أسئلة معقدة تقارب حقيقة الموقف من الجسد العاري، التي تتأرجح بين التحريم والإباحة، هو جدل واسع وقديم بدأ منذ الإغريق الذين صوَّروا الأجساد العارية في الرسم كما النحت، وكان العُري يمثل لديهم رمزاً للطهر. إثر ذلك، تباين الاهتمام بموضوع العُري في الفن مع تعاقب الحقب والعصور القديمة، قبل أن يتراجع بسبب التحريم الديني. وبانتهاء القرون الوسطى وبداية عصر النهضة، عاد موضوع العُري في الفن إلى الواجهة ليحتل الصدارة الإبداعية في التصوير والتجسيم رغم موقف الكنيسة والدين. من ثمَّ، أضحى العُري موضوعاً جديداً للفنانين والنحاتين بعد أن تخلص الجسد من سُلطة الرَّقابة والحجب، وقد توسَّع هذا الأمر كثيراً مع ظهور جماليات وتعبيرات إبداعية حديثة ومعاصرة، غير مألوفة، تزايدت وتنوَّعت على نحو واسع، مع إدماج التكنولوجيات والإعلام والبرامج الرَّقمية والحاسوبية في الإبداع التشكيلي.

* كاتب مغربي


مقالات ذات صلة

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

كتب بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة

ندى حطيط
كتب «أبريل الساحر»... نساء إنجليزيات يهربن من الواقع لـ«تحقيق الروح»

«أبريل الساحر»... نساء إنجليزيات يهربن من الواقع لـ«تحقيق الروح»

عن دار «الكرمة» بالقاهرة، صدرت رواية «أبريل الساحر» للكاتبة البريطانية إليزابيث فون أرنيم، التي وُصفت من جانب كبريات الصحف العالمية بأنها نص مخادع وذكي وكوميدي

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

أراقب باهتمام كبير عالمنا المتغير هذا. لعلك أنت أيضاً تفعل ذلك. تتمعن فيه وهو يعيد تشكيل ذاته مثل وحش أسطوري، في زمن إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ

د. ربيعة جلطي (الجزائر)
ثقافة وفنون قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

عن دار «طيوف» بالقاهرة صدر كتاب «مرايا الفضاء السردي» للناقدة المصرية دكتورة ناهد الطحان، ويتضمن دراسات ومقالات نقدية تبحث في تجليات السرد العربي المعاصر

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق الكاتب السعودي فيصل عباس مع السفير البريطاني نيل كرومبتون خلال الأمسية الثقافية

أمسية ثقافية بمنزل السفير البريطاني في الرياض للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني»

أقام السفير البريطاني في الرياض أمسية ثقافية في منزله بالحي الدبلوماسي للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني» للكاتب السعودي ورئيس تحرير صحيفة «عرب نيوز».

«الشرق الأوسط» (الرياض)

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد
TT

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر» عنوان لافت لمختارات نقلها عن الأردية المترجم هاني السعيد للشاعر الباكستاني أفضال أحمد سيد الذي يُعد أحد رواد قصيدة النثر في باكستان. وصدر الكتاب حديثاً عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ضمن سلسلة «آفاق عالمية» بالقاهرة.

يقول الشاعر، في كلمته التي كتبها خصوصاً بمناسبة صدور هذه الترجمة العربية الأولى لقصائده، إن «هذا الحدث المبهج» أعاد إلى ذاكرته تلك الأيام التي تعرف فيها للمرة الأولى إلى الشعراء العرب فصار أسيراً لسحرهم ومغامراتهم الشعرية مثل امرئ القيس وأبي نواس وأبي تمام والمتنبي... وغيرهم.

ويذكر أفضال أن لمسلمي شبه القارة الهندية الباكستانية علاقة خاصة باللغة والثقافة العربيتين، وهذا هو السبب في أن الترجمات الأردية للشعراء والكتّاب العرب تحظى بشعبية كبيرة لدى القراء الباكستانيين وخاصة الأسماء المشهورة مثل أدونيس ومحمود درويش ونزار قباني وفدوى طوقان، فضلاً عن الروائيين نجيب محفوظ والطيب صالح ويوسف زيدان.

وأشار إلى أنه حين كان طالباً في الجامعة الأميركية ببيروت في الفترة من سنة 1974 إلى 1976، أتيحت له فرصة ثمينة للتعرف المباشر إلى الثقافة العربية التي وصفها بـ«العظيمة»، وهو ما تعزز حين سافر إلى مصر مرتين فأقام بالقاهرة والإسكندرية والسويس ودمياط، حيث لا يمكن له أن ينسى مشهداً ساحراً وهو التقاء النيل بالبحر المتوسط في منطقة اللسان بمدينة رأس البر التابعة لدمياط. وضمن سياق القصيدة التي تحمل عنوان الكتاب يقول الشاعر في مستهل مختاراته:

«اخترع المغاربة الورق

الفينيقيون الحروف

واخترعت أنا الشعر

اخترع الحب القلب

صنع القلب الخيمة والمراكب

وطوى أقاصي البقاع

بعت أنا الشعر كله

واشتريت النار

وأحرقت يد القهر».

وفي قصيدة بعنوان «الهبوط من تل الزعتر»، يرسم الشاعر صورة مثيرة للحزن والشجن لذاتٍ مُمزّقة تعاني الفقد وانعدام الجذور قائلاً:

«أنا قطعة الغيم

المربوطة بحجر

والملقاة للغرق

ليس لي قبر عائلي

من أسرة مرتزقة

عادتها الموت

بعيداً عن الوطن».

ويصف تجليات الحرب مع الذات والآخرين في نص آخر بعنوان «لم يتم منحي حياة بكل هذه الوفرة»، قائلاً:

«وصلتني أنهاري عبر صفوف الأعداء

فشربت دائماً بقايا حثالات الآخرين

اضطررت إلى التخلي عن موسم فارغ للأمطار

من ترك وصية لي

لأعرف ما إذا كان

هو نفسه الذي كانت تحمله امرأة بين ذراعيها وهي تتوسل إلى الخيالة

والتي بقيت طوال حياتها

تحاول حماية وجهها

من البخار المتصاعد من خياشيم الخيل

لا أعرف ما إذا كان

هو نفسه

الذي ربطته أمه في المهد».

وتتجلى أجواء السجن، نفسياً ومادياً، والتوق إلى الحرية بمعناها الإنساني الشامل في قصيدة «إن استطاع أحد أن يتذكرني»؛ حيث يقول الشاعر:

«حل الشتاء

صدر مجدداً الإعلان

عن صرف بطاطين صوف للمساجين

تغير طول الليالي

وعرضها ووزنها

لكنّ ثمة حُلماً يراودني كل ليلة

أنه يتم ضبطي وأنا أهرب من بين القضبان

أثناء تغير الفصول

في الوقت الذي لا يمكن أسره بمقياس

أقرأ أنا قصيدة».

وأفضال أحمد سيد شاعر ومترجم باكستاني معاصر، ولد في 26 سبتمبر (أيلول) 1946 في غازي بور التابعة لمقاطعة أتربرديش بالهند، قبل تقسيم الهند وباكستان وبنغلاديش؛ حيث بدأ فيها أيضاً حياته المهنية بالعمل في وزارة الزراعة الائتلافية هناك وعند تقسيم باكستان وبنغلاديش 1971، انتقل مع أسرته إلى مدينة كراتشي الباكستانية.

بدأ أفضال كتابة الشعر 1976 وأصدر 5 مجموعات شعرية هي «تاريخ منتحل» 1984، «خيمة سوداء» 1986، «الإعدام في لغتين» 1990، «الروكوكو وعوالم أخرى» 2000، ثم أصدرها مجمعة باعتبارها أعماله الشعرية الكاملة 2009 بعنوان «منجم الطين»، كما أصدر في مطلع 2020 كتاباً يضم قصائده الأولى في الغزل.

وتمثل أغلب قصائده طفرة نوعية في قصيدة النثر الأردية التي ما زالت تعاني من الرفض والتهميش إلى حد كبير لحساب فن الغزل بمفهومه الفارسي والأردي التقليدي الذي ما زال مهيمناً بقوة في شبه القارة الهندية.

ترجم أفضال أعمالاً عن الإنجليزية والفارسية وهو من أوائل من ترجموا لغابرييل غارثيا ماركيز وجان جينيه، كما أصدر في مطلع 2020 ترجمته لمختارات من الشعر الفارسي.

درس أفضال أحمد سيد ماجستير في علم الحشرات بالجامعة الأميركية ببيروت بين عامي 1974 و1976، وذلك في بعثة علمية من الحكومة الائتلافية الباكستانية، فشهد الحرب الأهلية اللبنانية في أثناء إقامته هناك.

يعمل حالياً أستاذاً مساعداً في جامعة حبيب بكراتشي، وهو متزوج من الشاعرة الباكستانية البارزة تنوير أنجم.