لماذا خنق ألتوسير زوجته؟ ولماذا جن نيتشه؟

الفلاسفة والانهيارات الداخلية

ألتوسير
ألتوسير
TT

لماذا خنق ألتوسير زوجته؟ ولماذا جن نيتشه؟

ألتوسير
ألتوسير

عديدون هم الكتاب الذين جنوا أو عانوا أو انتحروا. يمكن أن نذكر من بينهم: فيرجينيا وولف، وستيفان زفايغ، وبول فرلين، ودوستيوفسكي، وبودلير، وغي دو موباسان، وادغار آلان بو، وكافكا، وارنست همنغواي، والقائمة طويلة. فرجينيا وولف انتحرت، وكذلك ستيفان زفايغ، وأرنست همنغواي... ويمكن القول بأن فرلين انتحر أيضاً لأنهم لقطوه من شارع السان ميشيل في قلب الحي اللاتيني وهو سكران كلياً، بعد أن تحول إلى صعلوك وشحاذ يرثى له. ولكن عن هذه الحياة البوهيمية المدمرة نتجت أروع القصائد! هناك علاقة بين الدمار الشخصي والإبداع العبقري. الأشخاص السعداء العاديون لا يمكن أن يبدعوا. ينبغي أن تموت ألف موتة قبل أن تكتب حرفاً واحداً له معنى. هذه هي ضريبة الإبداع والعبقرية. اسألوا دوستيوفسكي أو بودلير أو بعض المجانين الآخرين...(ملاحظة: لقد توقفت مطولاً عند هذه المسألة الحساسة في كتابي الجديد الذي سيصدر قريباً عن «دار المدى» بعنوان: «العباقرة وتنوير الشعوب»).

وغي دوموباسان جنّ كلياً بعد أن كتب أعظم الروايات والقصص الخلاقة وهو في الثانية والأربعين فقط. ونيتشه جن وهو في الرابعة والأربعين. جن وهو يصرخ: أنا المسيح، أنا يوليوس قيصر، أنا ديونيسوس! لم يكن المسكين يعرف أنه قد انتهى ولم يعد شيئاً، ولكنه لم يمت إلا بعد أن عاش عشر سنوات إضافية من العذاب والغياب الكامل عن هذا العالم. وهكذا انهار واحد من أكبر العقول الفلسفية على مدار العصور.

ماذا حصل لألتوسير؟

والآن، ماذا عن الفيلسوف الماركسي الشهير لويس ألتوسير؟ في يوم 16 نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1980 وفي الساعة التاسعة صباحاً نزل لويس ألتوسير من شقته الباريسية إلى الشارع وهو يصرخ كالمجنون: لقد ماتت هيلين! لقد ماتت هيلين! لم يكن يشعر إطلاقاً بأنه هو الذي قتلها أو بالأحرى خنقها؛ لأنه فعل ذلك في لحظة فقدان كامل للوعي. ماذا حصل؟ بالمختصر المفيد ما يلي: كان يمسد لها على رقبتها بشكل لطيف في البداية، كان يداعبها، ثم شيئاً فشيئاً أعجبته اللعبة على ما يبدو فراح يضغط على رقبتها ثم ازداد الضغط أكثر فأكثر في لحظة جنونية معينة حتى خنقها. والغريب العجيب أنها لم تستطع أن تفلت من بين يديه. لماذا لم تقاومه؟ ربما لسبب بسيط هو أنها ما كنت تتوقع إطلاقاً أنه سيفعلها! وبالتالي فعندما أدركت ذلك كان قد فات الأوان وفقدت قواها تماماً ولم تعد تستطيع أن تفلت من قبضته. كارثة حقيقية. ولكن بما أنها كانت تعرف أنه شخص عُصابي ويعاني من مشاكل نفسية مؤرقة فقد كان ينبغي عليها أن تكون أكثر حذراً (بين قوسين: نرجو من الأزواج الكرام ألا يمسدوا على رقبات زوجاتهم الغضة الناعمة أكثر من اللزوم. نرجو ألا يضغطوا أكثر مما يجب... من يعلم؟ في لحظة ما، لا سمح الله...) نكتة فاقعة؟ نكتة بائخة؟ كلام تافه لا يليق بشخص يحترم نفسه؟ قولوا ما تشاؤون...

بعد هذا الحادث المفجع نشر ألتوسير كتاباً بعنوان شاعري جميل جداً: «المستقبل يدوم زمناً طويلاً». وفيه يحاول أن يشرح فعلته الجنونية التي أدت إلى موت زوجته وحبيبة عمره هيلين ريتمان. راح يغوص في أعماق طفولته وشبابه الأول لكي يعرف السبب العميق الذي دفعه إلى ارتكاب ما لا تحمد عقباه. راح يحفر في أعماق وعيه الباطني وسيرته العائلية الشخصية لكي يتوصل إلى السر الرهيب: سر اختلاله العقلي الذي أدى إلى قتل أعز الناس عليه. ولكن ما الفائدة؟ لقد ماتت هيلين مخنوقة بقبضتي يديه دون أن يدري، والأنكى من ذلك دون أن يشعر بأنه فعل أي شيء. فجأة نظر أمامه فاكتشف وجود جثة بلا روح على الفراش، فراشه هو، فراش الزوجية. وفجأة أدرك أنها امرأته. فجن جنونه وراح يصرخ. بل ربما راح يتساءل: لماذا ماتت؟ ماذا حصل لها؟ لماذا لم تودعه؟. فيما بعد بأسابيع وربما بشهور عديدة عرف أنه هو الذي قتلها. ألا يذكركم ذلك بشاعرنا الكبير ديك الجن الحمصي وقصيدته الشهيرة:

رويت من دمها الثرى ولطالما

روى الهوى شفتي من شفتيها

ولكن ديك الجن لم يكن مجنوناً، فقط الغيرة الكبيرة، الغيرة المرضية، هي التي دفعته إلى قتلها. ومن الحب ما قتل... ومن الحب ما خنق...

لحسن الحظ، فإن ألتوسير لم يقدم أمام المحاكم الفرنسية لكي تحاكمه على جريمته. وذلك لأن كبار مثقفي فرنسا من أمثال فوكو ودريدا وجان غيتون تدخلوا لصالحه لدى القادة السياسيين الفرنسيين وعلى رأسهم جاك شيراك، وأقنعوهم بأنه ليس مسؤولاً عن فعلته تلك لأنه قتلها في حالة غياب كامل عن الوعي. لقد استغل بعض الصحافيين هذه الحادثة الخطيرة للتشهير بالماركسية والشيوعية. ومعلوم أن ألتوسير كان المنظّر الأكبر للحزب الشيوعي الفرنسي. لقد قالوا بأن هذه الآيديولوجيا تؤدي بطبيعتها التوتاليتارية إلى ارتكاب الجرائم. وهذا غير صحيح على الإطلاق. وذلك لأن معظم مثقفي فرنسا كانوا شيوعيين في الخمسينات والستينات أو مروا بالمرحلة الشيوعية ولم يجن أحد منهم حتى بعد سقوط الشيوعية وانهيار الحلم الكبير: أكبر وهم في القرن العشرين. المشكلة ليست في الماركسية ولا الشيوعية. لا ريب في أنها آيديولوجيا توتاليتارية وديماغوجية متحجرة، ولولا ذلك لما سقطت وانهارت بعد حادثة ألتوسير بتسع سنوات فقط (1980 - 1989). ولكن المشكلة هنا ليست آيديولوجية وإنما شخصية بحتة. المشكلة هي أن ألتوسير كان مريضاً نفسياً، كان منشقاً على نفسه، كان عدواً لنفسه. وهنا يكمن وجه الخطر والخطورة. وكان مرضه يلتهب أحياناً ويتفاقم ويؤدي إلى ما لا تحمد عقباه كما حصل صبيحة ذلك اليوم المشؤوم 16 نوفمبر من عام 1980 كما ذكرنا. بل راح بعضهم يتهم الفلسفة كلها ويقول إنها تؤدي حتماً إلى الجنون. نصيحة ثانية: لا تغوصوا في دراسة الفلسفة أكثر من اللزوم. عندما كنا في جامعة دمشق كانوا يقولون لنا أيضاً بأن الفلسفة تجنن العقل. ولكن هذا كلام فارغ. إذا كان هناك عقل راسخ فإن الفلسفة تزيده رسوخاً وعمقاً. ولا توجد أي ثقافة في العالم من دون عمق فلسفي. اسألوا اليابان أو الهند أو الصين، هذا ناهيك عن جامعات أوروبا وأميركا... إلخ.

جنون نيتشه

نيتشه

دعونا ننتقل الآن إلى أستاذنا نيتشه أكاد أقول صديقنا العزيز نيتشه. ماذا فعل؟ ماذا حصل له في تلك الصبيحة أيضا من يوم 3 يناير (كانون الثاني) عام 1889. أنتم تعلمون أن نيتشه بعد أن استقال من الجامعة أصبح وحيداً متسكعاً هائماً على وجهه في الطرقات والدروب. وبدءاً من تلك اللحظة أصبح فيلسوفاً ضخماً، بل كاتباً عبقرياً لا يشق له غبار. معظم مؤلفاته الكبرى ألّفها بعد أن ترك الجامعة وتحرر تماماً من كل العلائق والقيود. كان هارباً من ألمانيا وكل بلاد الشمال الأوروبي الصقيعية الباردة. ولذلك أمضى معظم حياته في بلدان جنوب أوروبا المشمسة كإيطاليا وفرنسا وسويسرا باحثاً عن الدفء والنور. وهناك ألف كتبه الخالدة. فمثلاً «هكذا تكلم زرادشت» أنهاه في مدينة نيس جنوب فرنسا. وهي مدينة ساحرة تستلقي على شواطئ البحر الأبيض المتوسط وتشتهر بكورنيشها العظيم المدعو: كورنيش الإنجليز!

ولكن عندما حصلت الحادثة الحاسمة كان نيتشه آنذاك يعيش في مدينة تورين بشمال إيطاليا. وكان يسكن في نزل أو فندق بساحة كارلو ألبيرتو. وفجأة رأى شخصاً في الساحة يعنف حصانه ويضربه بكل قوة ومن دون أي شفقة أو رحمة. فاندفع نيتشه نحو المشهد وراح يعانق الحصان لكي يحميه من ضربات صاحبه بجسده الخاص بالذات. ثم راح يبكي ويصرخ وينهار. وعندئذ خرج صاحب النزل وأعاده إلى غرفته. عندما سمع صديقه الحميم البروفسور «أوفيربيك» بذلك ترك كل شيء وركب القطار فوراً من ألمانيا إلى إيطاليا لكي يعتني به ويعرضه على الأطباء النفسانيين، واستنتجوا أن جنونه عائد إلى إصابته بمرض الزهري لأنه كان يتردد أحياناً على الماخورات. بل لم يعرف المرأة إلا من خلال الماخور. لم تكن هناك امرأة واحدة على وجه الأرض تقبل به. ثم ذهب هذا الصديق إلى أستاذ جامعة جنيف الكبير جاكوب بوركهارت وهو يصرخ بهذه العبارة: آه يا أستاذ لقد جن نيتشه!

ولكن هناك سبباً آخر ربما، وهو أنه بعد أن وصل إلى ذروة الإبداع الفلسفي والشعري لم يعد يستطيع أن يضيف أي شيء جديد فانهار كلياً. ماذا تستطيع أن تفعل بعد أن وصلت إلى الذروة؟ ما بعد القمة إلا السقوط!

ماذا تستطيع أن تفعل بعد أن وصلت إلى الذروة؟ ما بعد القمة إلا السقوط


مقالات ذات صلة

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

ثقافة وفنون محمود الرحبي

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

يعد الكاتب محمود الرحبي أحد أبرز الأصوات في خريطة السرد بسلطنة عمان.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون «معتقلون ومغيّبون» سوريون... التوثيق بالفنّ

«معتقلون ومغيّبون» سوريون... التوثيق بالفنّ

ردَّ جان بول سارتر على سؤال «لماذا نكتب؟»، بالقول: «لأننا حين نفعل، نَكشِف، بحيث لا يمكن لأحد، بعد ذلك، أن يدّعي البراءة أو يتجاهل ما حدث».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون زهرة دوغان - مدينة نصيبين

أهمية القانون في دعم اقتصاد الفن واستثماره

تأتي علاقة الفن بالقانون من عدة جوانب، فيمكن أن يكون موضوعاً يجري التعبير عنه، أو عن المفاهيم والحالات الإنسانية المرتبطة به، كالعدالة والمساواة والبراءة.

د. جواهر بن الأمير
ثقافة وفنون جيمس بالدوين

في مئويته... بالدوين لا يزال الضحيّة والشاهد

يضع كبار نقّاد الثقافة الأميركية في القرن العشرين تأثير مجمل أعمال الصحافيّ الأفروأميركي جيمس بالدوين على الحياة الثقافيّة في الولايات المتحدة في مقام «المذهل».

ندى حطيط
ثقافة وفنون «طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر» (أو «حكايات أدبية من الدراكسة») للصحافي والكاتب المصري، أسامة الرحيمي، ليس مما يُقرأ ويُنسى، بل يعيش في الذاكرة طويلاً

د. رشيد العناني

مهدي سلمان: صراع الشعر مع الأفكار والمشاعر من أهم سمات الكتابة المسرحية

مهدي سلمان
مهدي سلمان
TT

مهدي سلمان: صراع الشعر مع الأفكار والمشاعر من أهم سمات الكتابة المسرحية

مهدي سلمان
مهدي سلمان

استطاع الشاعر البحريني مهدي سلمان أن يترك بصمة بارزة على خريطة الشعر في بلاده عبر عدد من دواوينه الشعرية التي تتميز بتراكيب بصرية جريئة ولغة مشحونة برؤى جديدة. صدر ديوانه الأول «ها هنا جمرة وطن، أرخبيل»، 2007، لتتوالى بعده أعماله التي لفتت الأنظار لموهبته الكبيرة؛ مثل «السماء تنظف منديلها البرتقالي»، و«لن أقول شيئاً هذه المرة»، و«لا شيء يحدث ولا حتى القصيدة».

ومن الشعر تمتد تجربته الإبداعية إلى المسرح بقوة، حيث شارك ممثلاً في نحو 20 مسرحية؛ منها «اللعبة»، و«المستنقع»، و«الوهم»، كما أخرج مسرحيتي «مكان ما»، و«التركة»، وحصد جوائز مرموقة في المهرجانات الفنية المتخصصة... هنا حوار معه حول تجربته وهمومه الأدبية:

* لنبدأ بثنائية الشعر والمسرح في تجربتك، فالقصيدة، على الأقل في تصور العامة، فن ذهني ساكن، في حين أن المسرحية فن بصري حركي... هل ثمة تناقض بين النوعين؟

-هنالك بالتأكيد اختلافات بين كتابة القصيدة وكتابة المسرحية، لكن هذا الاختلاف لا يرقى ليكون تناقضاً، إن الأجناس الأدبية اليوم تستقي من بعضها، وتتجاور بكل هدوء، فيأخذ الشعر الحالة الدرامية من المسرح، ويأخذ المسرح الحالة التأملية الرائية من الشعر، وتنهل الرواية والقصة من مظاهر هذا وذاك. وعموماً لم يكن الشعر يوماً فناً ساكناً، على الرغم من كونه ذهنياً، فلطالما احتوى الشعر على صراع عنيف بين الأفكار والمشاعر، وهذا الصراع أهم سمات المسرحية. وكذلك لم تكن المسرحية دائماً فناً حركياً، فلقد استخدم كتّاب المسرح في كثير من تجاربهم طرق وأساليب التأمل الشعري لإنتاج الحدث. فعل ذلك كتّاب مسرح العبث؛ مثل يونسكو، وبيكيت، وكذلك تجارب توفيق الحكيم المسرحية الذهنية، وقبلهم استغل كتاب المسرح الكلاسيكي الحوار الداخلي والمناجاة من أجل الاقتراب من روح الشعر في المسرح.

* أيهما أسبق في إثارة ولعك ووجدانك، القصيدة أم المسرحية، وكيف أثرت إحداهما على الأخرى من واقع تجربتك؟

- لا أتذكر بالتحديد أسبقية شكل على آخر، لقد كان الشكلان ينموان معاً في تجربتي، ويتبادلان الأهمية والتأثير، وكذلك يتساقيان الفهم من التجارب المختلفة. ولطالما كان الشعر قريباً من المسرح والمسرح قريباً من الشعر، منذ سوفوكليس حتى شكسبير. ولطالما كانت الكتابة لأحدهما تغترف من تقنيات الشكل الآخر، ومن أدواته وإمكاناته، ليس على مستوى الممارسة في الكتابة فقط، إنما كذلك في آلية تحليل وتفسير وتقليب الأفكار والعواطف والقضايا، لا يمكن للكاتب أن يقول أين يكمن هذا التأثير، وكيف، لكنني أومن أنه موجود في الكتابة للشكلين، وفي التمثيل والإلقاء على السواء.

* لنتحدث قليلاً عن فكرة «الجمهور» فهي حاضرة بقوة أمامك بصفتك ممثلاً يصعد إلى خشبة المسرح، لكن كيف تتمثلها بصفتك شاعراً؟

* لو سألتِ أي ممثل على المسرح كيف ترى الجمهور، لقال لك إنه لا يراه، حضور الجمهور في المسرح هو حضور فكرة، فحين تظلم القاعة، ويصعد الممثل على الخشبة لا يرى أمامه إلا الظلمة التي فيها ومن خلالها يدخل ويخرج من وإلى الشخصية، أظن فكرة الجمهور في الكتابة تشبه هذا، ظلمة لا تتبينها، لكنها أمامك، تدخل نحوها شخصاً، وما إن تخطو فيها حتى تصير شخصاً آخر.

* ماذا عن موضوع «التطهر» بوصفه وظيفة قديمة في التراجيديا الإغريقية... هل يمكن أن تصنع قصيدة النثر حالياً حالة شبيهة وتخرج الانفعالات المكبوتة داخل القارئ، لا سيما الخوف والشفقة؟

- بقدر الخلاف على معنى محدد لمفهوم مصطلح التطهر أو التنفيس، لا يمكن القطع بإمكانية شكل ما شعري أو سواه في حيازة نتاج هذا المفهوم، فهو موجود في جميع الأشكال - الشعرية وغيرها - كما في المسرح، بنسب مختلفة. إنه جزء من صنع الفن، طالما أن الفن جزء منه يخاطب العقل والقلب والمشاعر والأفكار الإنسانية، فهو فعل تطهّر أو تطهير، وكذلك في المقابل هو فعل تلويث كذلك، أو فلنقل هو فتح للجروح المختلفة، لكن في كل ذلك، هو نتاج الفاعل لا الفعل نفسه، الشاعر لا شكل القصيدة، الكاتب المسرحي، لا نوع المسرحية.

وبقدر ما يبحث الشاعر أو المسرحي أعمق، ويقطع أكثر، بقدر ما يطهّر، نفسه، قارئه، شخصياته، أو أفكاره وعواطفه، وهو في كل ذلك ليس فعلاً قصدياً دائماً، إنما هو نتاج إما لشخصية الكاتب، أو للظروف المحيطة به، لذلك فهو يظهر في فترات تاريخية بعينها بشكل أوضح وأجلى، وقد يخبو في فترات أخرى، تبعاً لقدرة المجتمعات على فتح جروحها، أو على الأقل استقبال هذا النوع والشكل من الفعل الفني.

* على مدار أكثر من نصف قرن، لم تحصد أي جائزة أو تنال تكريماً بصفتك شاعراً، لكنك في المقابل حصدت عدداً من الجوائز والتكريمات بصفتك ممثلاً مسرحياً... كيف ترى تلك المفارقة؟

- يعود ذلك إلى مفهوم الجائزة فيما بين الشكلين، والخلل الكبير في شكل الجوائز الأدبية في عالمنا العربي، الجوائز لا ينبغي أن تُطلب، إنما تُعطى نتيجة لفعل ما أو جهد ما، هذا يحدث في المسرح الذي هو عمل جماعي، فالمؤسسة القائمة على المسرحية هي التي تتقدّم لمهرجان ما، أو جائزة ما. وعندها يحصد ممثل أو كاتب أو مخرج جائزة على جهده في هذا العمل بعينه، فيما على الكاتب أن يتقدّم بنفسه لطلب جائزة أو تكريم لديوان أو قصيدة، وهذا خلل بيّن في ضبط مصطلح جائزة، أو تكريم، أو حتى مسابقة. الأجدى أن تكون هناك مؤسسات، إما دور النشر، أو الوكالات الأدبية، هي التي تمحّص أعمال الكتّاب، وتنتقي منها ما يتقدّم للجائزة، أو المسابقة، وذلك من أجل ضبط عملية خلق المعايير في الساحة الأدبية، لكن وبما أننا في بيئة فاقدة للمعايير، فالتقدّم للجوائز الأدبية، يرافقه في أوقات كثيرة تشويه لدور الكاتب أو الشاعر، أين يبدأ وأين ينتهي.

* تقول في ديوانك «أخطاء بسيطة»:

«كل الذين لمست أصابعهم في الطريق

تماثيل شمع غدوا

كل من نمت في حضنهم خبتوا

واختفوا».

من أين يأتي كل هذا الإحساس العارم بالعدمية والخواء، وكأن الحميمية تعويذة ملعونة تلقيها الذات الشاعرة على الآخرين؟

- لا يمكن اقتطاع أبيات شعرية لتشكل معنى عاماً في تجربة ما، بالتأكيد هنالك عدمية تظهر أحياناً في أحد النصوص، لكنْ في مقابلها معان أخرى، قد تناقضها. الشعر فعل مستمر، تحليل دائم، وتدفق في مشاعر قد تكون متناقضة بقدر اختلاف أزمان الكتابة أو أزمان التجارب، لكن إن كنا نناقش هذه التجربة خاصة، هذا المقطع من هذا النص تحديداً، عندها فقط يمكننا أن نسأل، بالتأكيد ثمة لحظات في حياتنا نشعر خلالها بالانهزام، بالعدمية، بالوحشة، ونعبّر عن تلك اللحظات، ومن بينها تلك اللحظة في النص. ويأتي هذا الشعور بالتأكيد من الخسران، من شعور مغرق في الوحدة، وفقدان قدرة التواصل مع آخرين، إنها لحظات تنتابنا جميعاً، ليست دائمة، لكن التعبير عنها يشكّلها، بحيث نكون قادرين على مساءلتها، واختبارها، وهذا هو دور الشعر، لا البحث عن السائد، إنما وضع الإصبع وتمريره بحثاً عن النتوءات أو الحفر، لوصفها، لفهم كيف تحدث، وماذا تُحدِث.

* ينطوي عنوان ديوانك «غفوت بطمأنينة المهزوم» على مفارقة تبعث على الأسى، فهل أصبحت الهزيمة مدعاة للطمأنينة؟

- الهزيمة في معناها العام ليست فعلاً سلبياً دائماً، إنها التراجع كذلك، أو فلنقل العلوّ، رؤية المشهد بشكل آخر، من أعلى كما أراها، خلافاً للمنهمك فيه والداخل فيه. لذلك فإن الطمأنينة التي ترافق هزيمة كهذه هي طمأنينة المتأمل، أن تخرج من ذاتك أو تنهزم منها، لتحاول أن تجد طمأنينة ملاحظتها، والبحث فيها، وفهمها. أن تنهزم من تجربة ما وتتراجع عنها، لتجد لأسئلتها أجوبة، وأن يرافق هذا البحث طمأنينة الخروج والمغادرة، حتى لو كانت هذه المغادرة وقتية وليست تامة.

* في ديوان آخر هو «موت نائم، قصيدة مستيقظة»، هل أصبح الشعر المقابل الفعلي للموت؟

- ليس مقابلاً، إنما معطى آخر، ليس نقيضاً أو معاكساً، بل هو رفيق وصاحب يفعلان أفعالاً عكسية للتوافق والتوازن، وليست للمناكفة والمعاداة. تستيقظ القصيدة، لا لتلغي الموت، أو تنهيه، إذ لا يمكن إنهاء الموت، أو إماتته، لأن في موت الموت موت للحياة كذلك. لكنها تستيقظ في اللحظات التي يقف فيها في الخلف، تستيقظ لأجل أن ترى، وتبصر، وتصنع، وتحاول أن تتكامل معه من أجل الخلق نفسه، والولادة نفسها.

* كيف ترى الرأي القائل إن قصيدة النثر التي يكتبها غالبية أبناء جيلك استنفدت إمكاناتها الجمالية والفكرية، ولم تعد قادرة على تقديم الجديد؟

- ثمة تراجع حالياً نحو القصيدة العمودية، إنه واضح تماماً، أبناء جيلي والأجيال التالية، يعودون نحو روح العمود، حتى لدى كتاب قصيدة النثر، حيث الكتابة بوصفها فعلاً ليست فعل بحث واكتشاف إنما فعل إدهاش وتعال. لا، ليست القصيدة هي التي استنفدت إمكاناتها، بل كتاب القصيدة وشعراؤها هم الذين استنفدوا طاقتهم على المواجهة، الكتاب الآن يبحثون عن (صرة الدنانير) التي كان الخلفاء يلقون بها على شعراء المديح، هذا فقط تغيّر في روح الكتّاب، لا روح الكتابة نفسها.

* أخيراً، كيف تنظر إلى ما يقال عن تراجع تأثير الشعر في المشهد الثقافي مؤخراً وعدم ترحيب الناشرين بطباعة مزيد من الدواوين؟

- هذه حقيقة، وهي جزء من الأزمة ذاتها، التحوّل نحو الشكل العمودي من جانب، والنكوص نحو الذاتية المستنسخة من جانب آخر. تحوّل في فهم روح العصر، يأس من فعل الكتابة بوصفه عامل تفسير وتحليل وتفكيك وتغيير، تطويع الشعر ليعود إلى أدواره السابقة، فيكون صوت السائد الذي يُصفّق له. الشعر الآن في أي شكل من أشكاله، انعكاس للوجوه المتشابهة التي خضعت لعمليات التجميل التي نراها حولنا، هذا هو العصر، وأنت لا تريد تغييره، أو محاولة تغييره، أنت تريد الخضوع له وحسب. هذا هو ما يحدث.