لماذا خنق ألتوسير زوجته؟ ولماذا جن نيتشه؟

الفلاسفة والانهيارات الداخلية

ألتوسير
ألتوسير
TT

لماذا خنق ألتوسير زوجته؟ ولماذا جن نيتشه؟

ألتوسير
ألتوسير

عديدون هم الكتاب الذين جنوا أو عانوا أو انتحروا. يمكن أن نذكر من بينهم: فيرجينيا وولف، وستيفان زفايغ، وبول فرلين، ودوستيوفسكي، وبودلير، وغي دو موباسان، وادغار آلان بو، وكافكا، وارنست همنغواي، والقائمة طويلة. فرجينيا وولف انتحرت، وكذلك ستيفان زفايغ، وأرنست همنغواي... ويمكن القول بأن فرلين انتحر أيضاً لأنهم لقطوه من شارع السان ميشيل في قلب الحي اللاتيني وهو سكران كلياً، بعد أن تحول إلى صعلوك وشحاذ يرثى له. ولكن عن هذه الحياة البوهيمية المدمرة نتجت أروع القصائد! هناك علاقة بين الدمار الشخصي والإبداع العبقري. الأشخاص السعداء العاديون لا يمكن أن يبدعوا. ينبغي أن تموت ألف موتة قبل أن تكتب حرفاً واحداً له معنى. هذه هي ضريبة الإبداع والعبقرية. اسألوا دوستيوفسكي أو بودلير أو بعض المجانين الآخرين...(ملاحظة: لقد توقفت مطولاً عند هذه المسألة الحساسة في كتابي الجديد الذي سيصدر قريباً عن «دار المدى» بعنوان: «العباقرة وتنوير الشعوب»).

وغي دوموباسان جنّ كلياً بعد أن كتب أعظم الروايات والقصص الخلاقة وهو في الثانية والأربعين فقط. ونيتشه جن وهو في الرابعة والأربعين. جن وهو يصرخ: أنا المسيح، أنا يوليوس قيصر، أنا ديونيسوس! لم يكن المسكين يعرف أنه قد انتهى ولم يعد شيئاً، ولكنه لم يمت إلا بعد أن عاش عشر سنوات إضافية من العذاب والغياب الكامل عن هذا العالم. وهكذا انهار واحد من أكبر العقول الفلسفية على مدار العصور.

ماذا حصل لألتوسير؟

والآن، ماذا عن الفيلسوف الماركسي الشهير لويس ألتوسير؟ في يوم 16 نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1980 وفي الساعة التاسعة صباحاً نزل لويس ألتوسير من شقته الباريسية إلى الشارع وهو يصرخ كالمجنون: لقد ماتت هيلين! لقد ماتت هيلين! لم يكن يشعر إطلاقاً بأنه هو الذي قتلها أو بالأحرى خنقها؛ لأنه فعل ذلك في لحظة فقدان كامل للوعي. ماذا حصل؟ بالمختصر المفيد ما يلي: كان يمسد لها على رقبتها بشكل لطيف في البداية، كان يداعبها، ثم شيئاً فشيئاً أعجبته اللعبة على ما يبدو فراح يضغط على رقبتها ثم ازداد الضغط أكثر فأكثر في لحظة جنونية معينة حتى خنقها. والغريب العجيب أنها لم تستطع أن تفلت من بين يديه. لماذا لم تقاومه؟ ربما لسبب بسيط هو أنها ما كنت تتوقع إطلاقاً أنه سيفعلها! وبالتالي فعندما أدركت ذلك كان قد فات الأوان وفقدت قواها تماماً ولم تعد تستطيع أن تفلت من قبضته. كارثة حقيقية. ولكن بما أنها كانت تعرف أنه شخص عُصابي ويعاني من مشاكل نفسية مؤرقة فقد كان ينبغي عليها أن تكون أكثر حذراً (بين قوسين: نرجو من الأزواج الكرام ألا يمسدوا على رقبات زوجاتهم الغضة الناعمة أكثر من اللزوم. نرجو ألا يضغطوا أكثر مما يجب... من يعلم؟ في لحظة ما، لا سمح الله...) نكتة فاقعة؟ نكتة بائخة؟ كلام تافه لا يليق بشخص يحترم نفسه؟ قولوا ما تشاؤون...

بعد هذا الحادث المفجع نشر ألتوسير كتاباً بعنوان شاعري جميل جداً: «المستقبل يدوم زمناً طويلاً». وفيه يحاول أن يشرح فعلته الجنونية التي أدت إلى موت زوجته وحبيبة عمره هيلين ريتمان. راح يغوص في أعماق طفولته وشبابه الأول لكي يعرف السبب العميق الذي دفعه إلى ارتكاب ما لا تحمد عقباه. راح يحفر في أعماق وعيه الباطني وسيرته العائلية الشخصية لكي يتوصل إلى السر الرهيب: سر اختلاله العقلي الذي أدى إلى قتل أعز الناس عليه. ولكن ما الفائدة؟ لقد ماتت هيلين مخنوقة بقبضتي يديه دون أن يدري، والأنكى من ذلك دون أن يشعر بأنه فعل أي شيء. فجأة نظر أمامه فاكتشف وجود جثة بلا روح على الفراش، فراشه هو، فراش الزوجية. وفجأة أدرك أنها امرأته. فجن جنونه وراح يصرخ. بل ربما راح يتساءل: لماذا ماتت؟ ماذا حصل لها؟ لماذا لم تودعه؟. فيما بعد بأسابيع وربما بشهور عديدة عرف أنه هو الذي قتلها. ألا يذكركم ذلك بشاعرنا الكبير ديك الجن الحمصي وقصيدته الشهيرة:

رويت من دمها الثرى ولطالما

روى الهوى شفتي من شفتيها

ولكن ديك الجن لم يكن مجنوناً، فقط الغيرة الكبيرة، الغيرة المرضية، هي التي دفعته إلى قتلها. ومن الحب ما قتل... ومن الحب ما خنق...

لحسن الحظ، فإن ألتوسير لم يقدم أمام المحاكم الفرنسية لكي تحاكمه على جريمته. وذلك لأن كبار مثقفي فرنسا من أمثال فوكو ودريدا وجان غيتون تدخلوا لصالحه لدى القادة السياسيين الفرنسيين وعلى رأسهم جاك شيراك، وأقنعوهم بأنه ليس مسؤولاً عن فعلته تلك لأنه قتلها في حالة غياب كامل عن الوعي. لقد استغل بعض الصحافيين هذه الحادثة الخطيرة للتشهير بالماركسية والشيوعية. ومعلوم أن ألتوسير كان المنظّر الأكبر للحزب الشيوعي الفرنسي. لقد قالوا بأن هذه الآيديولوجيا تؤدي بطبيعتها التوتاليتارية إلى ارتكاب الجرائم. وهذا غير صحيح على الإطلاق. وذلك لأن معظم مثقفي فرنسا كانوا شيوعيين في الخمسينات والستينات أو مروا بالمرحلة الشيوعية ولم يجن أحد منهم حتى بعد سقوط الشيوعية وانهيار الحلم الكبير: أكبر وهم في القرن العشرين. المشكلة ليست في الماركسية ولا الشيوعية. لا ريب في أنها آيديولوجيا توتاليتارية وديماغوجية متحجرة، ولولا ذلك لما سقطت وانهارت بعد حادثة ألتوسير بتسع سنوات فقط (1980 - 1989). ولكن المشكلة هنا ليست آيديولوجية وإنما شخصية بحتة. المشكلة هي أن ألتوسير كان مريضاً نفسياً، كان منشقاً على نفسه، كان عدواً لنفسه. وهنا يكمن وجه الخطر والخطورة. وكان مرضه يلتهب أحياناً ويتفاقم ويؤدي إلى ما لا تحمد عقباه كما حصل صبيحة ذلك اليوم المشؤوم 16 نوفمبر من عام 1980 كما ذكرنا. بل راح بعضهم يتهم الفلسفة كلها ويقول إنها تؤدي حتماً إلى الجنون. نصيحة ثانية: لا تغوصوا في دراسة الفلسفة أكثر من اللزوم. عندما كنا في جامعة دمشق كانوا يقولون لنا أيضاً بأن الفلسفة تجنن العقل. ولكن هذا كلام فارغ. إذا كان هناك عقل راسخ فإن الفلسفة تزيده رسوخاً وعمقاً. ولا توجد أي ثقافة في العالم من دون عمق فلسفي. اسألوا اليابان أو الهند أو الصين، هذا ناهيك عن جامعات أوروبا وأميركا... إلخ.

جنون نيتشه

نيتشه

دعونا ننتقل الآن إلى أستاذنا نيتشه أكاد أقول صديقنا العزيز نيتشه. ماذا فعل؟ ماذا حصل له في تلك الصبيحة أيضا من يوم 3 يناير (كانون الثاني) عام 1889. أنتم تعلمون أن نيتشه بعد أن استقال من الجامعة أصبح وحيداً متسكعاً هائماً على وجهه في الطرقات والدروب. وبدءاً من تلك اللحظة أصبح فيلسوفاً ضخماً، بل كاتباً عبقرياً لا يشق له غبار. معظم مؤلفاته الكبرى ألّفها بعد أن ترك الجامعة وتحرر تماماً من كل العلائق والقيود. كان هارباً من ألمانيا وكل بلاد الشمال الأوروبي الصقيعية الباردة. ولذلك أمضى معظم حياته في بلدان جنوب أوروبا المشمسة كإيطاليا وفرنسا وسويسرا باحثاً عن الدفء والنور. وهناك ألف كتبه الخالدة. فمثلاً «هكذا تكلم زرادشت» أنهاه في مدينة نيس جنوب فرنسا. وهي مدينة ساحرة تستلقي على شواطئ البحر الأبيض المتوسط وتشتهر بكورنيشها العظيم المدعو: كورنيش الإنجليز!

ولكن عندما حصلت الحادثة الحاسمة كان نيتشه آنذاك يعيش في مدينة تورين بشمال إيطاليا. وكان يسكن في نزل أو فندق بساحة كارلو ألبيرتو. وفجأة رأى شخصاً في الساحة يعنف حصانه ويضربه بكل قوة ومن دون أي شفقة أو رحمة. فاندفع نيتشه نحو المشهد وراح يعانق الحصان لكي يحميه من ضربات صاحبه بجسده الخاص بالذات. ثم راح يبكي ويصرخ وينهار. وعندئذ خرج صاحب النزل وأعاده إلى غرفته. عندما سمع صديقه الحميم البروفسور «أوفيربيك» بذلك ترك كل شيء وركب القطار فوراً من ألمانيا إلى إيطاليا لكي يعتني به ويعرضه على الأطباء النفسانيين، واستنتجوا أن جنونه عائد إلى إصابته بمرض الزهري لأنه كان يتردد أحياناً على الماخورات. بل لم يعرف المرأة إلا من خلال الماخور. لم تكن هناك امرأة واحدة على وجه الأرض تقبل به. ثم ذهب هذا الصديق إلى أستاذ جامعة جنيف الكبير جاكوب بوركهارت وهو يصرخ بهذه العبارة: آه يا أستاذ لقد جن نيتشه!

ولكن هناك سبباً آخر ربما، وهو أنه بعد أن وصل إلى ذروة الإبداع الفلسفي والشعري لم يعد يستطيع أن يضيف أي شيء جديد فانهار كلياً. ماذا تستطيع أن تفعل بعد أن وصلت إلى الذروة؟ ما بعد القمة إلا السقوط!

ماذا تستطيع أن تفعل بعد أن وصلت إلى الذروة؟ ما بعد القمة إلا السقوط


مقالات ذات صلة

أربعة أيام في محبة الشعر

ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية

«الشرق الأوسط» (الظهران)
ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟