لماذا خنق ألتوسير زوجته؟ ولماذا جن نيتشه؟

الفلاسفة والانهيارات الداخلية

ألتوسير
ألتوسير
TT

لماذا خنق ألتوسير زوجته؟ ولماذا جن نيتشه؟

ألتوسير
ألتوسير

عديدون هم الكتاب الذين جنوا أو عانوا أو انتحروا. يمكن أن نذكر من بينهم: فيرجينيا وولف، وستيفان زفايغ، وبول فرلين، ودوستيوفسكي، وبودلير، وغي دو موباسان، وادغار آلان بو، وكافكا، وارنست همنغواي، والقائمة طويلة. فرجينيا وولف انتحرت، وكذلك ستيفان زفايغ، وأرنست همنغواي... ويمكن القول بأن فرلين انتحر أيضاً لأنهم لقطوه من شارع السان ميشيل في قلب الحي اللاتيني وهو سكران كلياً، بعد أن تحول إلى صعلوك وشحاذ يرثى له. ولكن عن هذه الحياة البوهيمية المدمرة نتجت أروع القصائد! هناك علاقة بين الدمار الشخصي والإبداع العبقري. الأشخاص السعداء العاديون لا يمكن أن يبدعوا. ينبغي أن تموت ألف موتة قبل أن تكتب حرفاً واحداً له معنى. هذه هي ضريبة الإبداع والعبقرية. اسألوا دوستيوفسكي أو بودلير أو بعض المجانين الآخرين...(ملاحظة: لقد توقفت مطولاً عند هذه المسألة الحساسة في كتابي الجديد الذي سيصدر قريباً عن «دار المدى» بعنوان: «العباقرة وتنوير الشعوب»).

وغي دوموباسان جنّ كلياً بعد أن كتب أعظم الروايات والقصص الخلاقة وهو في الثانية والأربعين فقط. ونيتشه جن وهو في الرابعة والأربعين. جن وهو يصرخ: أنا المسيح، أنا يوليوس قيصر، أنا ديونيسوس! لم يكن المسكين يعرف أنه قد انتهى ولم يعد شيئاً، ولكنه لم يمت إلا بعد أن عاش عشر سنوات إضافية من العذاب والغياب الكامل عن هذا العالم. وهكذا انهار واحد من أكبر العقول الفلسفية على مدار العصور.

ماذا حصل لألتوسير؟

والآن، ماذا عن الفيلسوف الماركسي الشهير لويس ألتوسير؟ في يوم 16 نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1980 وفي الساعة التاسعة صباحاً نزل لويس ألتوسير من شقته الباريسية إلى الشارع وهو يصرخ كالمجنون: لقد ماتت هيلين! لقد ماتت هيلين! لم يكن يشعر إطلاقاً بأنه هو الذي قتلها أو بالأحرى خنقها؛ لأنه فعل ذلك في لحظة فقدان كامل للوعي. ماذا حصل؟ بالمختصر المفيد ما يلي: كان يمسد لها على رقبتها بشكل لطيف في البداية، كان يداعبها، ثم شيئاً فشيئاً أعجبته اللعبة على ما يبدو فراح يضغط على رقبتها ثم ازداد الضغط أكثر فأكثر في لحظة جنونية معينة حتى خنقها. والغريب العجيب أنها لم تستطع أن تفلت من بين يديه. لماذا لم تقاومه؟ ربما لسبب بسيط هو أنها ما كنت تتوقع إطلاقاً أنه سيفعلها! وبالتالي فعندما أدركت ذلك كان قد فات الأوان وفقدت قواها تماماً ولم تعد تستطيع أن تفلت من قبضته. كارثة حقيقية. ولكن بما أنها كانت تعرف أنه شخص عُصابي ويعاني من مشاكل نفسية مؤرقة فقد كان ينبغي عليها أن تكون أكثر حذراً (بين قوسين: نرجو من الأزواج الكرام ألا يمسدوا على رقبات زوجاتهم الغضة الناعمة أكثر من اللزوم. نرجو ألا يضغطوا أكثر مما يجب... من يعلم؟ في لحظة ما، لا سمح الله...) نكتة فاقعة؟ نكتة بائخة؟ كلام تافه لا يليق بشخص يحترم نفسه؟ قولوا ما تشاؤون...

بعد هذا الحادث المفجع نشر ألتوسير كتاباً بعنوان شاعري جميل جداً: «المستقبل يدوم زمناً طويلاً». وفيه يحاول أن يشرح فعلته الجنونية التي أدت إلى موت زوجته وحبيبة عمره هيلين ريتمان. راح يغوص في أعماق طفولته وشبابه الأول لكي يعرف السبب العميق الذي دفعه إلى ارتكاب ما لا تحمد عقباه. راح يحفر في أعماق وعيه الباطني وسيرته العائلية الشخصية لكي يتوصل إلى السر الرهيب: سر اختلاله العقلي الذي أدى إلى قتل أعز الناس عليه. ولكن ما الفائدة؟ لقد ماتت هيلين مخنوقة بقبضتي يديه دون أن يدري، والأنكى من ذلك دون أن يشعر بأنه فعل أي شيء. فجأة نظر أمامه فاكتشف وجود جثة بلا روح على الفراش، فراشه هو، فراش الزوجية. وفجأة أدرك أنها امرأته. فجن جنونه وراح يصرخ. بل ربما راح يتساءل: لماذا ماتت؟ ماذا حصل لها؟ لماذا لم تودعه؟. فيما بعد بأسابيع وربما بشهور عديدة عرف أنه هو الذي قتلها. ألا يذكركم ذلك بشاعرنا الكبير ديك الجن الحمصي وقصيدته الشهيرة:

رويت من دمها الثرى ولطالما

روى الهوى شفتي من شفتيها

ولكن ديك الجن لم يكن مجنوناً، فقط الغيرة الكبيرة، الغيرة المرضية، هي التي دفعته إلى قتلها. ومن الحب ما قتل... ومن الحب ما خنق...

لحسن الحظ، فإن ألتوسير لم يقدم أمام المحاكم الفرنسية لكي تحاكمه على جريمته. وذلك لأن كبار مثقفي فرنسا من أمثال فوكو ودريدا وجان غيتون تدخلوا لصالحه لدى القادة السياسيين الفرنسيين وعلى رأسهم جاك شيراك، وأقنعوهم بأنه ليس مسؤولاً عن فعلته تلك لأنه قتلها في حالة غياب كامل عن الوعي. لقد استغل بعض الصحافيين هذه الحادثة الخطيرة للتشهير بالماركسية والشيوعية. ومعلوم أن ألتوسير كان المنظّر الأكبر للحزب الشيوعي الفرنسي. لقد قالوا بأن هذه الآيديولوجيا تؤدي بطبيعتها التوتاليتارية إلى ارتكاب الجرائم. وهذا غير صحيح على الإطلاق. وذلك لأن معظم مثقفي فرنسا كانوا شيوعيين في الخمسينات والستينات أو مروا بالمرحلة الشيوعية ولم يجن أحد منهم حتى بعد سقوط الشيوعية وانهيار الحلم الكبير: أكبر وهم في القرن العشرين. المشكلة ليست في الماركسية ولا الشيوعية. لا ريب في أنها آيديولوجيا توتاليتارية وديماغوجية متحجرة، ولولا ذلك لما سقطت وانهارت بعد حادثة ألتوسير بتسع سنوات فقط (1980 - 1989). ولكن المشكلة هنا ليست آيديولوجية وإنما شخصية بحتة. المشكلة هي أن ألتوسير كان مريضاً نفسياً، كان منشقاً على نفسه، كان عدواً لنفسه. وهنا يكمن وجه الخطر والخطورة. وكان مرضه يلتهب أحياناً ويتفاقم ويؤدي إلى ما لا تحمد عقباه كما حصل صبيحة ذلك اليوم المشؤوم 16 نوفمبر من عام 1980 كما ذكرنا. بل راح بعضهم يتهم الفلسفة كلها ويقول إنها تؤدي حتماً إلى الجنون. نصيحة ثانية: لا تغوصوا في دراسة الفلسفة أكثر من اللزوم. عندما كنا في جامعة دمشق كانوا يقولون لنا أيضاً بأن الفلسفة تجنن العقل. ولكن هذا كلام فارغ. إذا كان هناك عقل راسخ فإن الفلسفة تزيده رسوخاً وعمقاً. ولا توجد أي ثقافة في العالم من دون عمق فلسفي. اسألوا اليابان أو الهند أو الصين، هذا ناهيك عن جامعات أوروبا وأميركا... إلخ.

جنون نيتشه

نيتشه

دعونا ننتقل الآن إلى أستاذنا نيتشه أكاد أقول صديقنا العزيز نيتشه. ماذا فعل؟ ماذا حصل له في تلك الصبيحة أيضا من يوم 3 يناير (كانون الثاني) عام 1889. أنتم تعلمون أن نيتشه بعد أن استقال من الجامعة أصبح وحيداً متسكعاً هائماً على وجهه في الطرقات والدروب. وبدءاً من تلك اللحظة أصبح فيلسوفاً ضخماً، بل كاتباً عبقرياً لا يشق له غبار. معظم مؤلفاته الكبرى ألّفها بعد أن ترك الجامعة وتحرر تماماً من كل العلائق والقيود. كان هارباً من ألمانيا وكل بلاد الشمال الأوروبي الصقيعية الباردة. ولذلك أمضى معظم حياته في بلدان جنوب أوروبا المشمسة كإيطاليا وفرنسا وسويسرا باحثاً عن الدفء والنور. وهناك ألف كتبه الخالدة. فمثلاً «هكذا تكلم زرادشت» أنهاه في مدينة نيس جنوب فرنسا. وهي مدينة ساحرة تستلقي على شواطئ البحر الأبيض المتوسط وتشتهر بكورنيشها العظيم المدعو: كورنيش الإنجليز!

ولكن عندما حصلت الحادثة الحاسمة كان نيتشه آنذاك يعيش في مدينة تورين بشمال إيطاليا. وكان يسكن في نزل أو فندق بساحة كارلو ألبيرتو. وفجأة رأى شخصاً في الساحة يعنف حصانه ويضربه بكل قوة ومن دون أي شفقة أو رحمة. فاندفع نيتشه نحو المشهد وراح يعانق الحصان لكي يحميه من ضربات صاحبه بجسده الخاص بالذات. ثم راح يبكي ويصرخ وينهار. وعندئذ خرج صاحب النزل وأعاده إلى غرفته. عندما سمع صديقه الحميم البروفسور «أوفيربيك» بذلك ترك كل شيء وركب القطار فوراً من ألمانيا إلى إيطاليا لكي يعتني به ويعرضه على الأطباء النفسانيين، واستنتجوا أن جنونه عائد إلى إصابته بمرض الزهري لأنه كان يتردد أحياناً على الماخورات. بل لم يعرف المرأة إلا من خلال الماخور. لم تكن هناك امرأة واحدة على وجه الأرض تقبل به. ثم ذهب هذا الصديق إلى أستاذ جامعة جنيف الكبير جاكوب بوركهارت وهو يصرخ بهذه العبارة: آه يا أستاذ لقد جن نيتشه!

ولكن هناك سبباً آخر ربما، وهو أنه بعد أن وصل إلى ذروة الإبداع الفلسفي والشعري لم يعد يستطيع أن يضيف أي شيء جديد فانهار كلياً. ماذا تستطيع أن تفعل بعد أن وصلت إلى الذروة؟ ما بعد القمة إلا السقوط!

ماذا تستطيع أن تفعل بعد أن وصلت إلى الذروة؟ ما بعد القمة إلا السقوط


مقالات ذات صلة

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

في سياق الاهتمام المتنامي في العالم العربي عموماً، وفي البلدان الخليجيّة خصوصاً، تبرز «موسوعة الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة».

مالك القعقور

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.