إلياس خوري: «باب الشمس» بكل بساطةٍ هي قصة حب رجل لزوجته

عن مسيرته الأدبية وأنه لم يتقصّد الكتابة عن فلسطين

الياس خوري: الأدب هو للإمتاع والمؤانسة (أ.ب)
الياس خوري: الأدب هو للإمتاع والمؤانسة (أ.ب)
TT

إلياس خوري: «باب الشمس» بكل بساطةٍ هي قصة حب رجل لزوجته

الياس خوري: الأدب هو للإمتاع والمؤانسة (أ.ب)
الياس خوري: الأدب هو للإمتاع والمؤانسة (أ.ب)

«الأدب كما علّمنا أبو حيان التوحيدي هدفه الإمتاع والمؤانسة قبل الوصول إلى أعماق المعنى»، قال الروائي اللبناني إلياس خوري محدثاً قراءه، الذين اجتمعوا للقائه في طرابلس، شمال لبنان، بدعوة من «نادي قاف للكتاب». وبدا مع التئام هذا الجمع الغفير، أن الأدب لا يزال له جمهوره، وأن الرواية لها عشاقها، وبعض من لم يقرأ هو أيضاً معني بالتعرف على الأدب وكتّابه، وما يقال حوله.

يدرك إلياس خوري، أن تحوّل روايته «باب الشمس» إلى فيلم سينمائي، أسهم في تعرّف كثر إليها من دون قراءتها، وأصبحت جسراً بين نصوص الكاتب الأخرى وعديد من الناس. هكذا تعرف جمهور عريض إلى إحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ وآخرين، بفضل تحول بعض روايات هؤلاء الأدباء إلى أفلام.

لكن «باب الشمس» التي كُتب الكثير فيها على أنها تأريخ للنكبة الفلسطينية، وإعادة قراءة لمأساة اللجوء والشتات، قال إلياس خوري ببساطة إنه لم يكن يقصد وهو يسطرها، كل ذلك. «(باب الشمس) كتبتها وكان برأسي، أمر واحد هو أن أكتب قصة حب. كنت أتساءل دائماً، لماذا قصص الحب عند العرب مخترعة وليست حقيقية؟ ولماذا لا أكتب بكل بساطة عن حب رجل لزوجته. وهذا ما كان».

رواية «باب الشمس» هي حكاية يونس الأسدي المناضل الفلسطيني الذي ينسحب من بلاده ويدخل إلى لبنان، بينما تبقى زوجته في فلسطين. لكن يونس لم يستسلم، يبقى يقطع الجبال والوديان، جيئة وذهاباً، في رحلات متكررة إلى فلسطين، ليلتقي زوجته نهيلة هناك، بعد أن فرقهما الاحتلال ومنعهما من الوجود معاً. ويتكرر اللقاء بين الزوجين، في مغارة أطلق عليها اسم «باب الشمس» حتى ينجبا معاً 7 أولاد. وهنا رمزية الخصب واضحة في الرواية.

لكتابة «باب الشمس» وما حصل بالفعل عام 1948، كان لا بد من الاستماع إلى أهالي المخيمات في لبنان، وجمع مادة مكثفة عن ألسنتهم «هذا تطلب عملاً كثيراً، فهو تاريخ لم يوثق، ولم يشتغل عليه. وأنا لم أكن غريباً عن المخيمات، استمعت وجمعت الحكايات، لكن كان لا بد من رفدها بالخيال»

ليس اللبنانيون وحدهم من تفاجأوا بقصص «باب الشمس»، وحكايا أهلها، وغرائب ما حصل بفعل النكبة، الفلسطينيون أيضاً دهشوا واستغربوا، وهم يقرأون. هذا لأن من عاشوا هول تلك المرحلة ومرارتها، لم يتكلموا، لقد صمت الضحايا أمام هول ما رأوا. ما حدث أن إلياس خوري، وهو يحاول استنطاق أهالي المخيم، ويسألهم عما يعرفون، سمع منهم ما لم يخطر لهم قبلاً أن ينطقوا به، أو لم يقوا على روايته بصوت مرتفع. «اكتشفت أهمية أن تجعل الضحايا يتحدثون، وكم أنهم يؤثرون في الناس، وفي الشباب، حين يقولون ما يجول في خواطرهم».

«النكبة ليست من الماضي، النكبة مستمرة إلى اليوم. التقاط اللحظة، كان فقط من أجل كتابة قصة حب، وليس أبداً للتاريخ، كما يردد من يتحدثون عن (باب الشمس)»، ويكمل خوري: «الأدب هو تعبير عن حب، عن حبنا للآخر بالمعنى العميق للكلمة. ولدت الروايات لتعبّر عن الدواخل البشرية، وإن رأى فيها البعض تأريخاً أو توثيقاً أو أي شيء آخر، فليس هذا هو الذي كان مقصوداً في البدء».

المخيمات الفلسطينية في لبنان، التي يعرفها خوري جيداً، هي في بنيتها تحاول إعادة تركيب فلسطين حيث هي. فالعائلات تعيش مع بعضها، والقرى تعود وتتجمع لتبقى كتلة واحدة، وأسماء الأحياء هي أسماء القرى التي أتى منها السكان. هذا هو الواقع. وواقع بهذه القوة لا يمكن أن يموت. ما أراد أن يقوله إلياس خوري إن الروائي يتعلم من الناس، والقراء يتأثرون بالرواية. «ويحصل أن يتأثر الواقع بالأدب إلى حدّ أنه يتبناه، ويعيد إنتاجه ويجعله حياً معاشاً». ويعطي إلياس خوري مثلاً على ذلك، أنه عام 2013 تمكن 300 شاب وشابة من فلسطين، من قطع الطريق بين القدس والضفة الغربية، بالدخول إلى مستعمرة في منطقة تتوسطهما، والبقاء فيها لمدة ثلاثة أيام. لقد استولوا على هذه النقطة الاستراتيجية، وسموها طوال فترة بقائهم فيها «باب الشمس».

«أنا كاتب ملتزم بالمعنى الإنساني للكلمة. لم أكتب (باب الشمس) لأنني ملتزم فلسطينياً أبداً بل لأنني ملتزم بإنسانيتي. ومن لا يلتزم مع فلسطين، لا بد عنده مشكلة في إنسانيته وليس في عروبته. وحين ندرس النكبة، فباعتبارها لا تزال تحدث الآن»، مؤكداً أن فكرة النظر إلى فلسطين على أنها أرض مقدسة، هي فكرة صليبية، وليست نابعة من عندياتنا. «نحن ندعم فلسطين، لأنهم إخوتنا، ولأنهم شعب مظلوم ومقهور، وبالنسبة لنا ما تتعرض له فلسطين هو غزو خارجي، تماماً كما غزو الإفرنجة لبلاد الشام خلال الحروب الصليبية».

بطلة «باب الشمس» حقيقية إلى درجة أن «هناك من كان يصرّ على أنها موجودة، وأنني أعرفها، وهذا أمر لا يزعجني بل يفرحني، ويعني أنني رسمت شخصية مقنعة. لا بد أن الشخصيات لها جانب من الواقع، لكن لا بد من تجنيحها بالخيال. ما فضيلة أن أكتب ما أرى، أو أن أروي قصصاً أعرفها».

وتحدث خوري خلال هذا اللقاء الشيق الذي جمع عشرات القراء، في قصر نوفل بطرابلس، وحاورته خلاله الدكتورة وفاء شعراني حول مسيرته الروائية، لكن خوري ركّز أكثر ما ركّز على «باب الشمس»، لأن غالبية الحضور في رأيه قد قرأوها أو شاهدوا الفيلم. وتحدث كذلك عن كتاب مهم بالنسبة له، لم يعرف كثيراً هو «حب في المخيم». وهو نتاج ورشة كتابة إبداعية أدارها إلياس خوري، نظمتها «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» في بيروت خريف سنة 2018، بدعم من مؤسسة عبد المحسن القطان وصندوق «الأميركلاوس» ضمن مشروع: «صِلات: روابط من خلال الفنون». ويضم الكتاب مجموعة من القصص القصيرة التي كتبها لاجئون فلسطينيون مقيمون في المخيمات.



شعراء سوريون... ابتداع «لغة ثالثة»

نزار قباني
نزار قباني
TT

شعراء سوريون... ابتداع «لغة ثالثة»

نزار قباني
نزار قباني

منحت سوريا الأدب العربي عبر السنين قامتين من أعلى القامات الشعرية في اللغة العربية: المعري قديماً، وأدونيس حديثاً. على أن هذين الاثنين –وإن احتلّا منزلةً رفيعةً لدي مؤرخي الأدب والمتضلعين في اللغة العربية وآدابها وأنصار الحداثة من شعراء ونقاد وقراء- لم يكونا قط شاعرين «جماهيريين» ولا جزءاً من وعي الرجل العادي أو رجل الشارع، إن كان هذا الأخير يقرأ الشعر أساساً.

فوعورة لغة رهين المحبسين ولزومه ما لا يلزم، وحداثة شاعر التحولات والهجرة في أقاليم الليل والنهار وحفول لغته بالإشارات الأسطورية والتاريخية والشخصية، إلى جانب ما اتسم به عمل الرجلين من عمق فلسفي وتأمل ميتافيزيقي كانت كلها بمثابة حائط صلب يَحول بين المتلقي وبين ولوج عالمهما، ويجعلهما شاعرين للنخبة المثقفة او الصفوة القليلة من أصحاب الذائقة الرفيعة والمعرفة الواسعة.

ولأن لكل فعل رد فعل يساويه في القوة ويضاده في الاتجاه، كما يقول علماء الطبيعة، فقد كان من المتوقع أن يولِّد هذا اللون من الشعر بعيد التناول رد فعل عكسياً، وأن يحدو بشعراء آخرين إلى استخدام لغة قريبة من لغة الحياة اليومية، والحكي العادي، وتطعيم الفصحى بالعامية، واجتناب مفردات القواميس وكتب الأدب القديمة.

بندرعبد الحميد

رد الفعل هذا موضوع كتاب صدر في هذه الأيام عنوانه «شعراء سوريون والحداثة الشفوية أو المحكية»، Syrian Poets and Vernacular Modernity، من تأليف دانيل بيهار Daniel Behar الأستاذ المساعد للأدب العربي الحديث في قسم اللغة العربية وآدابها بالجامعة العبرية في القدس.

والكتاب هو أحدث إصدارات سلسلة «دراسات إدنبره في الأدب العربي الحديث» التي تصدر في اسكوتلندا، ويشرف عليها الدكتور رشيد العناني.

وبصدور كتابها الجديد هذا تكون قائمة إصدارات السلسلة قد ضمت ثلاثين كتاباً عن مختلف الأجناس الأدبية؛ شعراً وقصاً ومسرحاً ونقداً ومقالاً منذ مطلع القرن التاسع عشر حتي يومنا هذا.

أهم معالم الطريق التي يتوقف عندها الكتاب ثلاثة: نزار قباني (1923 - 1998)، ومحمد الماغوط (1934 - 2006)، وشعراء قصيدة النثر مثل منذر المصري، ورياض الصالح الحسين، وبندر عبد الحميد،، وعادل محمود، وصالح دياب.

فنزار قباني هو الشاعر واسع الانتشار (خصوصاً وقد ترنَّم بشعره عبد الحليم حافظ وكاظم الساهر ونجاة الصغيرة وماجدة الرومي) الذي لمس وترين حساسين في نفوس القراء: الوتر الأول هو الإيروسية والحوار بين الجنسين وتحليل عاطفة الحب والحديث من منظور المرأة (كما في قصيدة «شؤون صغيرة»)، والآخر هو مخاطبة الروح القومية والعاطفة الوطنية واستجاشة الهمم كما في قصائده عن المقاومة الفلسطينية والفدائيين وهوامشه على دفتر نكسة يونيو (حزيران) 1967. وإلى هذين الوترين أضاف وتراً ثالثاً هو النقد الجريء لجوانب من المجتمع العربي كما في قصيدة «خبز وحشيش وقمر».

محمد الماغوط

رمى نزار إلى نحت لغة جديدة وحدد منهجه بقوله: «بعد أن كانت اللغة الشعرية إقطاعية وطبقية ومتجبرة ومتكبرة وغليظة وثقيلة الدم علَّمتُها فن العلاقات العامة، وطريقة الحوار الديمقراطي، وأجبرتُها على النزول إلى المقاهي والمطاعم الشعبية والشوارع الخلفية والاختلاط بالبروليتاريا».

ويتمثل إنجاز نزار في إقامته جسراً بين الشفوي والكتابي، الموروث والحديث، الشرق والغرب، ومحاولته القضاء على الازدواجية اللغوية، ورفعه التكلفة بين الشعر والشعب، فهو يمثل مرحلة انتقالية بين الشفوية والفن العالي.

أما محمد الماغوط فقد أسس الشفوية في سبعينات القرن الماضي، متأرجحاً بين الحداثة والواقعية الاشتراكية، على نحو يذكِّرنا بالشاعر الروسي فلاديمير ماياكوفسكي. كان شعره محاولة جريئة للجمع بين الشفوية وحدة الانفعال النفسي، والانبثاق العضوي التلقائي، والتمرد الفردي. وهو في قصائده يفيد من تقنيات الفن السينمائي، ومن معطفه خرجت ما يسميها عباس بيضون «السلالة الماغوطية».

وشعراء قصيدة النثر بتمردهم على العروض الخليلي وإمعانهم في استخدام مفردات الحياة اليومية يمضون خطوة أبعد في الربط بين الفن والحياة وكتابة شعر واقعي يعكس هموم المواطن العادي ومعاناته ومسراته المتواضعة. إنه شعر - ضد، وكتابة «تحت سقف واطئ» تبتعد عن سبحات الخيال العالية.

رفض هؤلاء الشعراء النظرة الرومانسية إلى الشاعر على أنه بطل خارق للعادة، أو بتعبير علي محمود طه: كائن هبط الأرض كالشعاع السنيّ بعصا ساحر وقلب نبي. فالشاعر إنسان عادي يجول في الأسواق، ويعاني مشكلات الحياة اليومية مثل أبسط مواطن.

ولا يفوت المؤلف أن يشير إلى الصلة بين استخدام هؤلاء الشعراء السوريين اللغة المحكية ومحاولة الكاتب المسرحي المصري توفيق الحكيم في خمسينات القرن الماضي ابتداع «لغة ثالثة» تقوم في منزلة وسط بين الفصحى والعامية.

وكتاب بيهار قائم على أطروحة دكتوراه أُجيزت من جامعة هارفارد الأميركية في 2019، ومن ثم فهو عمل محكم يستوفي شرائط البحث العلمي من دقة وإحاطة ورجوع إلى الأصول. ومؤلفه واسع العلم باللغات يترجم إلى الإنجليزية من العربية والعبرية والألمانية والفرنسية والإسبانية. وكتابه إضافة قيمة إلى سلسلة جليلة ستظل لآماد كثيرة مقبلة مرجعاً لا غنى عنه لكل دارس جاد للأدب العربي الحديث.