نادرون في تاريخ الأدب، قديمه وحديثه، أولئك الذين قدّر لهم أن يحوزوا المكانة التي احتلها دانتي أليغييري، على الصعيدين الإيطالي والعالمي. فلقد استطاع أليغييري من خلال عمله الأشهر «الكوميديا الإلهية»، أن يقدم للبشرية جمعاء ملحمة شعرية بالغة التميز، توائم بين نفاذ البصيرة وقوة التخييل، وبين تعبيرات الحياة اليومية التي نقلت اللغة الإيطالية من طور إلى طور. لكن ما لا يمكن إغفاله في هذا السياق هو أن ذلك السفْر الأدبي الخلاق لم تقف وراءه موهبة دانتي الصرف وثقافته الواسعة فحسب، بل الأطياف الأثيرية الساحرة لبياتريس بورتيناري، التي ألهمته رغبة الاتحاد الأبدي بها في الفكرة والتصور، وحمله حبها اليائس إلى معارج وكشوف لم تتَح مشاهدتها وتنكُّب دروبها إلا لقلة قليلة من البشر.
ولد دانتي ألغييري في فلورنسا عام 1265، وفي عائلة عُرف عنها دعمها للبابوية، وسط صراع الأخيرة العنيف مع العائلات والقوى السياسية المناوئة لها. وإذ توفيت أمه غابرييلا وهو لم يتجاوز السادسة من عمره، عمد أبوه أليغييرو إلى الزواج من امرأة أخرى رُزق منها العديد من الأطفال. ولأن عائلته النافذة كانت منخرطة في الصراع على السلطة في فلورنسا، فقد تورط دانتي بشكل مباشر في ذلك الصراع، وخاض إلى جانب حزب الغويلفيين المناوئ لسلطة البابا، العديد من المعارك التي توجها انتصارهم الحاسم على خصومهم الغيبيليين في موقعة كامبالدينو. وبعد أن تبوأ دانتي العديد من المناصب، عادت الأمور لتنقلب تماماً بعد ذلك، حيث حقق الغيبيليون الغلبة على خصومهم الغويلفيين وسيطروا على فلورنسا عام 1301. ثم ما لبث المنتصرون أن عاقبوا الشاعر، بإبعاده إلى رافينا عام 1302، متوعدين إياه بالموت في حال عودته متسللاً إلى مدينته الأم. لكن دانتي استطاع رغم قسوة الإبعاد، أن يحول منفاه القسري إلى فرصة ثمينة للإخلاد إلى صوت أعماقه، مسترداً عبر «الكوميديا الإلهية» حبه المفقود وأحلامه المجهضة ووطنه النائي.
وإذا كان البحث عن بياتريس الأعماق هو الدافع المباشر الذي حدا بدانتي إلى إنجاز كتابه الملحمي، الذي نقله إلى العربية، وفي ترجمتين متباعدتين على المستوى الزمني ومتميزتين لغةً وتقديماً، كل من الكاتب المصري حسن عثمان والشاعر العراقي كاظم جهاد، فإن الدافع الآخر كان متعلقاً ببحثه عن العدالة التي افتقدها المؤلف على أرض الواقع، في ظل تحلل القيم وانهيار الأخلاق، والصراع على النفوذ بين السلطتين الدينية والزمنية، عند ذلك المفترق المفصلي من تاريخ الغرب.
أما بالنسبة لبياتريس، فليس ثمة ما نعرفه عن هويتها الفعلية سوى كونها ابنة الوجيه الفلورنسي فولكو بورتيناري، وأنها كانت مجايلةً لدانتي، وتسكن قصر أبيها الواقع على مقربة من بيوت عائلة ألغييري. وحين التقاها دانتي عن طريق الصدفة وهما في التاسعة من العمر، شغف بها من النظرة الأولى، ثم لم تبارح ملامحها الآسرة مخيلته بعد أن ذهب كلٌّ منهما إلى مصير مختلف. وهنا تتعدد الروايات حول مآل الأمور بين الطرفين، حيث يتحدث البعض عن أن الفتاة اليانعة كانت متقلبة المشاعر إزاء الفتى الموله بها، بحيث تبتسم له تارة ثم تشيح بوجهها عنه تارة أخرى. وإذ أقدمت بياتريس على الزواج من الرجل الثري سيمون دي باردي، لم يلبث دانتي بدوره أن أقدم على الزواج من جيما دوناتي، التي أنجبت له ثلاثة أطفال ذكور وطفلة واحدة، اختارت في صباها أن تكون راهبة، وأن تحمل اسم بياتريس، كلفتة تضامن رمزي مع قلب أبيها المثلوم . وقد عاد دانتي والتقى امرأة أحلامه وهو في الثامنة عشرة من عمره، لكنها لم تولهِ وفق الدارسين، أي اهتمام ينم عن إعجابها به أو تقديرها لموهبته الأدبية.
الرحلة إلى عالم الآخرة
وإذ تموت بياتريس في أوج شبابها، يقع دانتي في هاوية الوحشة والأسى العميقين. فبموتها «صارت فلورنسا مدينة ثكلى، كما بكت عليها الشمس والنجوم، وبارتحالها تزلزلت الأرض وتسربلت الطبيعة بالسواد». إلا أنه وقد وجد في القراءة والدرس ملاذه الأنجع، ما لبث أن تصالح مع رحيل محبوبته المبكر الذي أتاح لها أن تعود إلى المصدر النوراني الذي انبثقت عنه، فيما بات من جهته قادراً هذه المرة على امتلاكها بالكامل، مستردةً في قلبه وذاكرته وفضائه التخييلي. ولعل ثنائية الترابي - السماوي هي التي سوغت لدانتي أن يحتفظ بحبه لبياتريس منزهاً عن الشهوة وربقة الجسد، دون أن يتحرج في الوقت ذاته من إقامة علاقات عاطفية متفاوتة العمق مع نساء أخريات ورد ذكرهن في الكوميديا، مثل جنتوكا العذراء الجذابة، وليزيتا القوية الواثقة، وبيترا الباردة كالصخور الغارقة في المياه، وفيوليتا المشتقة من مجرى الورود.
وليس غريباً أن يجد دانتي في بياتريس دليلته الأمثل في المحطات الثلاثة التي تتشكل منها رحلته المتخيلة إلى عالم الآخرة، وهي «الجحيم» و«المطهر» و«الفردوس»، لأن ذلك الاختيار هو سبيله الوحيد لاستعادة حبيبته المفقودة التي رأى فيها انعكاساً لروح الأنوثة الكونية المصفاة من كل شائبة. أما اختيارها فيرجيل بالذات لكي يؤازر دانتي في متاهتي «الجحيم» و«المطهر»، فلم يكن ضرباً من ضروب الصدفة، بل هو ترجمة طبيعية لتأثر دانتي البالغ بصاحب «الإنيادة». وإذا كانت رحلة الشاعرين قد توقفت عند نهاية الفصل الثاني، لأن دانتي المترع بالإيمان لم يكن قادراً على اصطحاب صديقه إلى الفردوس، باعتباره لم يدخل المسيحية ولم يعتنق فكرة المسيح المخلص.
وإذ ينجح فيرجيل الذي يرمز إلى أقصى ما يستطيع العقل البشري بلوغه، بتخليص دانتي من وحوش الغرائز التي رافقته في مرحلتي «الجحيم» و«المطهر»، فإنه يتركه وحيداً على مدخل الفردوس ليكمل ما تبقى له من الطريق، مزوداً بإلهامه المجرد وإرادته الظافرة. أما بياتريس، التي دفعتها العذراء مريم إلى مساعدة الرجل الذي أحبها بكل جوارحه، فقد طلبت من الملائكة أن ينظروا بعين العطف إلى الشاعر الذي ساندته في الحياة الدنيا وقادته إلى الطريق المستقيم. ومع أنها أفصحت غير مرة عن لومها له لأنه «انساق بعد انتقالها إلى عالم الأرواح وراء غيرها من النساء، واتجه إلى مسالك الزلل»، فهي لم تتردد في الاعتراف بأن إلهامه الإلهي وملكاته الطيبة، هما اللذان أمليا عليها النزول إلى «الجحيم»، والتضرع لفرجيل لكي يخلصه من الأخطار.
ومع ذلك فإن قسوة بياتريس الظاهرة لم تكن لتعكس أي نوع من الضغينة على دانتي الخاطئ، بل كانت السبيل الأنجع لدفعه إلى التوبة والندم والتطهر من رواسب آثامه، حتى إذا ولج بوابة الفردوس رآها رافلة هناك بحضورها المتسامي وجمالها المشع. وفيما انعكاس صورتها في مرآة الحقيقة بدا منقسماً بين الطبيعتين البشرية والإلهية، كان دانتي يشعر بأنه يولد من جديد في كنف ذلك الجمال الطهور الذي لا ينضب معينه، فهتف بها قائلاً:
عندما رأيتُ وجهك
رأيت خميلةً تفتحت فيها الورود والأزاهير
وفيما أتحرق شوقاً إليك في لهيب الحب
تنطلق روحي في عوالم سماوية
وتقيدني بحدودها اللامتناهية
فأسبح في عوالمها بأنفاس طفلٍ لم يُطِل التفكّر
رأيتُ في عينيك بريقاً يتألق بالفرح
بريقاً يفوق ما شاهدته فيهما
من قبْل ومن بَعْد
بياتريس المثل الأسمى
على أن أي قراءة معمقة لعلاقة دانتي ببياتريس، لا يمكن أن تستقيم بمعزل عن السياقات الدلالية أو الظروف التاريخية التي أنتجت مثل هذه العلاقة الفريدة، وصولاً إلى كتابة الكوميديا. فقد وجد دانتي في صورة بياتريس «نجمة الصبح التي تحيطه في صحراء الحياة»، والمثال الأنثوي الأسمى الذي يحتاج إلى اعتناقه، وسط ما يحيط به من تحلل سياسي كامل، وابتعاد للمؤسسة الكنسية عن الاستقامة، وفساد مريع للعلاقات بين البشر. وهو ما يفسر ذهاب البعض إلى الربط بين صورة بياتريس النقية وصورة مريم العذراء، أو الروح القدس، أو الكنيسة المخلّصة.
ولا نستطيع في الختام أن نفصل صورة بياتريس في مخيلة دانتي الرحبة عن صور النساء المعشوقات عند من عرفوا في أوروبا القرن الثاني عشر بالشعراء الفرسان، أو التروبادور، الذين تناهت إلى أسماعهم، سواء عبر الأندلس أو سفن التجارة المتنقلة بين ضفاف المتوسط، أخبار الشعراء المجانين في بلاد العرب، فرسموا لنسائهن صوراً مماثلة، في ترفّعها الرومانسي وتجرّدها من الدنس. ولم يكن دانتي بعيداً عن كل تلك المؤثرات، حيث تضافر الشعر مع الموسيقى والغناء لإعلاء صوت الحب، ولجعله بديلاً عن أهوال الحروب العقيمة، صليبيةً كانت أم أهلية. أما إطلالة النساء من شرفاتهن العالية على عشاقهن الوالهين في الأسفل، فقد بدت المعادل الرمزي للقارة نفسها، وهي تصبو إلى العروج الصعب من جحيم الحرب إلى فردوس الحب، ومن الموت إلى الحياة، ومن حضيض الانحطاط إلى فضاء التنوير. إذا كان البحث عن بياتريس الأعماق هو الدافع المباشر الذي حدا بدانتي
إلى إنجاز كتابه الملحمي فإن الدافع الآخر كان متعلقاً ببحثه عن العدالة