الأمكنة والشخوص المهاجرة... ومصائرها

ميرال الطحاوي تمزج بين ما قبل الرحيل وبعد الهجرة في «أيام الشمس المشرقة»

الأمكنة والشخوص المهاجرة... ومصائرها
TT

الأمكنة والشخوص المهاجرة... ومصائرها

الأمكنة والشخوص المهاجرة... ومصائرها

عندما أنهيت قراءة الرواية الشائقة «أيام الشمس المشرقة» لميرال الطحاوي، وضعتها جانباً وقد تحققت لي الدرجة القصوى من لذة النص؛ تلك اللذة الصامتة التي تحدّث عنها رولان بارت في كتابه «لذة النص»، التي تنتج من «هسهسة اللغة»، وأضيفت إليها حرارة السرد والحكايات وصخب المعنى والدوال، والقيمة والقيمة النقيض.

ولذة النص، كما أوجزها بارت في جملة قصيرة، هي: «القيمة المنتقلة إلى قيمة الدال الفاخر». إنها تستحق وقفة نقدية عميقة مغايرة وفاحصة لطبقات المعاني والدوال وعلاقاتها المتشابكة بما تتضمنه من إشكالات الهوية والكينونة، وإشكالات الاغتراب الوجودي وانتماءات المصائر المجهولة وصدام الثقافات وصراعاتها والاندماج الطوعي الوجودي في المكان، كما انبنت عليها بنيتها السردية المركزية كلها.

وهي رغم انتمائها لما عرف بأدب المهجر المُغرَق في اغترابيته، وتشظي كينونته الزمكانية، ونوستالجيته، كونه يعدّ في سردياته ونصوصه الشعرية ظواهر إبداعية خاصة ولها سماتها التعبيرية، وجدتُ هذه الرواية في جذرها الفني والفكري، بمثابة وثيقة تاريخية ونفسية وسوسيولوجية ورصداً حيوياً وآيدولوجياً، كان إمّا بالمعايشة أو المشاهدة بقرب لواقع الغربة والمغتربين، كواقعٍ مسكون دوماً بالقلق الوجودي والمشاعر المتناقضة النائسة بين الحنين، وضياع الهوية، وبين الرفض للواقع الجديد ومآلاته ومصائره، وفي انتفاء القدرة على الاندماج والتماهي مع ثقافته ومواضعاته الاجتماعية.

إلا أن الفن السردي في هذه الرواية جاء متوهجاً بالصدق الفني ونابضاً بروح متوهجة وتفكير روائي مغاير كون الكاتبة عرفت عن قرب وعايشت وسمعت أو شاهدت عن بعد كل شخوصها الروائية، كما صرّحت هي في حوارٍ أدبي مع إحدى الصحف.

وكون العمل الأدبي في متنه ونسيجه اللغوي والجمالي يخلق واقعاً فنياً مركباً ومتمازجاً في مساراته، ومنعرجاته، وأحداثه ومآلات شخصياته المصيرية، ما يعدّ تمثيلاً جمالياً حقيقياً للمكان في بعديه الداخلي والخارجي. بل إن هذا الواقع السردي الفني كان له أيضاً منطقه الجمالي المتعدد والتأويلي المنفرد. فنجد الروائية هنا تمزج الواقعي بالمتخيّل المأساوي المغرق في واقعيته الحارة المعذّبة، بحيث يضفي الغرائبي والاستثنائي ظلالاً وغموضاً شفافاً أكثر على المكان، مكان ينوس بين الحقيقي والتخييلي، متعمدة الكاتبة بشكلٍ حاذق ومبدع إخفاء الإشارة الجغرافية التي تحدد مكان الأحداث بالاسم وتسميه بـ«الأيام المشرقة» في أفق تهكمي (Ironic)، تاركةً لذكاء المتلقي هامش التخييل والتوقعات، والاستنتاج، والتركيب واستشفاف الواقع الجديد المنتج الذي تضيق في تشظي الأمكنة (سُرّة الأرض) و(تلة سنام الجمل) و(الربع الخالي) و(عين الحياة) كل الأشواق الإنسانية وكل الأحلام المجهضة التائقة ليوتوبيا أرضية وكل الانكسارات والإحباطات في آن.

المزج بين الكلاسيكية والحداثة

كتبت ميرال الطحاوي سرديتها بحساسية جمالية عالية، «محافظة على قواعد اللعبة الروائية الكلاسيكية»، على حد قولها. ويمكن تصنيف روايتها، رأيي، تحت مستوى متقدم من مستويات إبداع الشتات (الدياسبورا)، أو الإبداع المهجري الجديد، كما ذكرت. لكنها لم تفتقر لشروط حداثة الكتابة الإبداعية، ولم تنغلق في دائرة مكان سابق، أو لاحق، فهي تتنقل بين واقعين اثنين، ما قبل الرحيل عن المكان الأول وما بعد الهجرة، حيث العيش والمعايشة في المكان الثاني الطارئ، بكل ما يكتنفه من معاناة وآلام ومرارات وخيبات ناتجة عن عذابات شخوص المكان الطارد الأول، بحثاً عن يوتوبيا متخيلة. تتداخل الأمكنة وتتنوع أحداث الرواية بطريقة استرجاعية (Flash Back) حيناً، وبطريقة انسيابية حيناً آخر، ومن ثمّ تتداخل المواقع والشخصيات ذوو المرجعيات الاجتماعية والجغرافية المتباينة لتشكل هذه اللوحة السردية البانورامية الغنية والمتناقضة... والمحتدمة.

ليس كل نص سردي اغترابي، أو ديستوبي، يحقق تلك المتعة الجمالية والتشويق والانجذاب له حتى النهاية، غير أن نص «أيام الشمس المشرقة»، كما كتبته ميرال الطحاوي، بطريقتها التعبيرية وتقنياتها، نجح في تحقيق هاتين الغايتين: «لذة النص» في نسيجه الجمالي ولغته، ولذة القراءة المنتجة التشاركية في فضاء ترتيب جزر السرد المتقطعة وإعادة إنتاجها وتشكيل لحمتها اللغوية في سدى اللوحة الحكائية البازغة في وعي القارئ الممكن والمحتمل في آن... ودائماً وحسب ما يقول فولفانغ كايزر، الناقد والفيزيائي الألماني في كتابه «العمل الأدبي اللغوي»: «إن الأدب الجميل موضوع حقيقي للقراءة النقدية»، وهو ما نؤكده هنا في كل حالات قراءة النص الجميل والماتع في لذته يخرج القارئ الناقد المتمرس من لحظته الماتعة للنص ليدخل شبكته وعلاقاته اللغوية في «عمليات خرق متتالية لنظامه ومعماره وقوانينه»، على حد قول الناقد سعيد بنكراد، إلى أفق الاكتشاف المعرفي والجمالي، بل الوصول بلذة مضاعفة إلى منظومة الدلالات والتأويلات المعرفية التي غالباً ما تكون غائبة - حاضرة عند كاتب النص نفسه حين كتابته للعمل الأدبي.. إن هذا العمل الروائي المتميّز في حقيقته لهو بمثابة سجل وجودي واقعي/ تخييلي جمالي لحالاتٍ إنسانية مغتربة في زمنية محددة بمكانٍ مجازي لم تسمه الكاتبة متعيناً في جغرافيته كما قلت، وإن صارت هي مهمة المتلقي ذاته. من هنا يصبح القارئ في حقيقة الأمر، كاتباً آخر صامتاً للنص على المستوى التخييلي الصامت ككتابة الصمت التي شرحها رولان بارت في كتابه «الكتابة عند درجة الصفر» بأنها الكتابة التي: «تخلق مجموعة من العوالم الممكنة داخل عالم النص، وتُشكل في حد ذاتها فضاء للتأويل بامتياز»، وحسب الشاعر والمسرحي الفرنسي بول كلوديل: «هذا النوع من الكتابة يفترض دائماً وجود الأبيض والأسود، الفراغ واللا فراغ. كل نص حيث اللغة منظمة بشكل بلاغي وجمالي تفترض وجود نوع من الفراغ يحيط بها».

العلاقات الروائية

وحين نجحت ميرال الطحاوي في تقديم نعم الخباز شخصية محورية في الرواية، فهي كانت تنتقل من شخصية لأخرى ومن مكان لآخر بطريقة استرجاعية، فإنما كانت تبني العلاقات الروائية في الموقع الروائي الذي أسست عليه محورية الكيان الفني الرئيس.. فنعم الخباز هي التمثيل الرمزي المحوري للمعمار الروائي الذي شيدته الكاتبة، ومنها تنطلق دينامية السرد. وينفجر النص الروائي إلى تشظياته اللاحقة دفعةً واحدةً منذ المشهد الأول الذي تواجهه نعم الخباز حين تصدم بانتحار ابنها جمال، فالانزياح من زمنية الفقد والخسارات الأولى إنما يؤسس في سياق السرد لزمنية متتالية لخسارات قادمة وفادحة عايشتها نعم بتلقائية متناهية. فالسياق الروائي الاسترجاعي لزمن سابق في موقعٍ جغرافي ونفسي سابق كأنه أسس لعلاقات روائية لن تقل فداحةً في خسائرها ومراراتها. إن حركية السرد في صعودها وهبوطها إنما تمضي في مساراتها وعلاقاتها الجسدية والمكانية من محورية شخصية نعم الخباز بمعنى أنها تبني منظومة السرد ونظامها وسياقاتها وفراغاتها، حتى وإن بدا لنا هذا التجزيء والتشطير ماثلاً في علاقات النص الروائية برمتها، وفي ظني كل تشطير أو تشظ في الحدث الروائي ليس إلا في النهاية التقاء في محورية الشخصية الرئيسية التي من خلالها يلتئم الحدث الرئيسي مع تفرعاته... وتنمو دلالاته ومساراته. فمنذ اللحظة الأولى للقول السردي تفتتح ميرال روايتها على فعل القتل وصدمته فتبدأ بمآلات اليوتوبيا الموهومة إلى ملمح واقعها الديستوبي الصغير الماثل على مستوى تطور الأحداث للشخوص الروائية واختراقها ليومياتها ومصائرها.

تبدأ الرواية هكذا: «دخلت، نعم الخبّاز إلى ممرات الشمس المشرقة بخطوات ثقيلة ومتعبة وحذرة، كان قلبها يدق بعنف، ولم تجد لذلك سبباً واضحاً... حين دخلت البيت وجدت بكرها جمال الذي جاوز التاسعة عشرة ممدداً على الأرض وجهه إلى الأسفل، والطلقة التي اخترقت دماغه خرجت من الخلف واستقرت في الحائط...». من نقطة وبؤرة هذا الحدث الفاجع تنبثق مضامين النص الروائي كله، وينفتح النص على حقائقه الآتية، وتتوالى أحداث ومصائر الشخصيات الروائية المحايثة... إن المهجر ليس حلماً جميلاً كله، وإن المكان له مواضعاته وقوانين العيش فيه مختلفة ومتناقضة. والحقيقة فمن خلال هذا المشهد المروع تتحدد ممكنات السرد وآفاقه ومساقاته اللاحقة، فما الأحداث القادمة في الرواية إلا دلالة وقيمة نقيضة سالبة على رعبٍ آتٍ في المكان والزمن الروائي، وظلام كثيف يظلل فضاء النص برمته. إنه واقع متخيّل ديستوبي آتٍ حثيثاً في متن النص كما يحس به ويستشرفه المتلقي. كأن الكاتبة تريد أن تفصح في متنها الروائي وفي سياقاته عن أحلام شخوصها في الهجرة إلى يوتوبيا فتقع في ديستوبيا العيش والمآل... فلم تجد مدنها الفاضلة ولم تتحقق أحلامها في العيش الهانئ، بل تجرعت كؤوس المرارات والتحفت بليل الخيبات. فالتمثيلات الرمزية في الواقع الديستوبي التي حفلت بها الرواية تحددت في سلسلة من الأحداث الفاجعة التي مرت بها نعم الخباز وصديقاتها ما يدل على أن حلم الهجرة إلى اليوتوبيا المزمعة تحطّم كلياً في واقعه الماثل الجديد.

(*) ناقد سعودي


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

العيش على حدّ الذاكرة... روائيّاً

العيش على حدّ الذاكرة... روائيّاً
TT

العيش على حدّ الذاكرة... روائيّاً

العيش على حدّ الذاكرة... روائيّاً

تلتقط هدى بركات، في روايتها الجديدة «هند أو أجمل امرأة في العالم» الصادرة عن «دار الآداب» لحظة موت الأم. تلك الهنيهة المفصلية القاصمة، التي تنقل المرء من حالة عيشه اللحظوية، إلى مراجعة الذات واستقراء الذاكرة وإعادة ترتيب الماضي، على ضوء الفقد العضوي الباتر. هكذا تترك الروائية لبطلتها المصابة بمرض «الأكروميغاليا»، أو تضخم الأطراف، حرية أن تمضي جيئة وذهاباً على خط الزمن، في محاولة للتصالح مع الذات والذوات الأخرى التي أحاطتها.

حين تموت الأم

ماتت الأم إذن، وها هي هنادي تعود للوطن، وتجد نفسها في تلك الأماكن القديمة التي عرفتها برفقة والدتها، لكنها هذه المرة وحيدة، ومعها زادها الثقيل من الصور والحكايات التي انقضت، وتجربتها القاسية في الغربة، وحاضرها الصعب، وقد تعرضت البلاد لعواصف من الأحداث الأليمة، لعل آخرها انفجار مرفأ بيروت، الذي تبدو آثاره جلية في الرواية، وفي حياة الأهالي.

بالرواية شخصيات عدة: الأم التي رحلت وتركت خلفها علاقتها المتوترة مع هنادي، وهند الشقيقة التي رحلت باكراً، والجيران (أم منصور)، والعمات وعامل الإنترنت أحمد، والحبيب رشيد، وآخرون، يظهرون سريعاً ويغيبون. غير أن القصة تبدو للقارئ وكأنها «مونولوغ» طويل بسبب أن الراوية - هنادي التي على لسانها يدور السرد، وتتفرد وحدها بأن تحكي لنا قصتها، من وجهة نظرها وكما تراها، من زاوية خاصة بسبب المرض النادر الذي تعاني منه وجعل حياتها متفردة أيضاً. فهو ينتج عن اضطراب هرموني لا يجعل الشكل مشوهاً والرأس متضخماً، والجسد متعملقاً، والشعر كالإبر، فحسب، بل يتطور بمرور الوقت ويتسبب بإعاقات، وعلل تودي بصاحبها، أو في أحسن الأحوال تتسبب بتدهور صحته.

حال هنادي نعيشه معها وهو يتردى مع تقدم العمر، ويسهم أيضاً في تأجيج الذاكرة، وتفتيق الجراح. المشكلة تبدأ باكراً، حين تلحظ الأم المفتونة بالجمال أن هنادي التي أرادتها بدلاً عن ابنتها الفقيدة هند بجمالها الأخاذ، لن تكون كما تمنتها، بل ستجلب لها شفقة الآخرين ونظراتهم المواربة، عندما تبدأ تفقد حسنها، وتظهر عليها آثار المرض. «بدأت عظام رأسي تكبر على غير اتساق. ذقني يبرز بقوة» تقول هنادي: «وفكاي صارا كفكي رجل تجاوز المراهقة، مباعداً بين أسناني. عظام الحاجبين انتفخت كما عند القردة، وتكورت جبهتي وتحززت كطابة مبعوجة، وفقد صوتي نعومة صوت البنات».

لم تستسغ الأم الأمر ولم تتقبله، لذلك تحجب هنادي عن أعين الناس، تضعها في العلّية، تخبئها هناك، تناولها الأكل، وما يلزم، وربما غابت عن البيت لوقت، ونسيتها. بينما تقضي هي وقتها بقراءة تلك المجلات والكتب التي تركها والدها قبل أن يغيب. وحين يسأل عنها أحد من المعارف، تقول الأم عنها، إنها سافرت عند عمتها.

تحاول هنادي أن تجد المبررات لجفاء والدتها: «حرام أمي حبيبتي. مسكينة. كان ذلك فوق طاقتها. كانت تتعذب أكثر مني من بلوتي». لقد أصيبت الأم بصدمة من مرض ابنتها؛ وباتت تختفي وتنام في غرفتها بالساعات، تخرج من البيت ولا تعود، تستفيق في الليل وتبحلق بعينين مشدوهتين، كمن يستيقظ من كابوس.

البحث عن الذات

لا إحساس من هنادي بالضيم، إذن، بقدر ما هي الرغبة في الانفصال عن الأم، لكن عمتها التي لجأت إليها ترسلها بهدف العلاج، عند عمة أخرى في باريس، لن تعثر عليها أبداً. في المقابل، تقع هنادي في مطبات وتتعرف على شخصيات لكل منها سمتها، هناك غلوريا الراقصة النيجيرية التي تحنو عليها، وفرنسوا الذي يتبين لها بعد ذلك أنه رشيد، الجزائري الأصل، المبتور الذراع، صاحب الماضي الغامض، تربطها به صلة حب لم تكتمل، وسرعان ما يرجع إلى حياة التشرد والمخدرات. هذا ما سيقودها إلى رجعة باتجاه الوطن.

قليلاً ما انشغلت الروايات العربية بالعلاقة بين الأهل وأولادهم الذين يعانون من عاهات، وصلات تشوبها الكثير من التعقيدات، قد تتراوح بين الحب الجارف النابع من الشفقة، والنفور المتأتي من رفض القبول بواقع قاسٍ له تبعات ممتدة في الزمن. لكن هنادي، لا تحقد ولا تكره، بقدر ما تبحث عن نوافذ حب لتريح نفسها. «وأنا في بحثي الدائم بل المحموم عن أصول الحب وأغراضه، وخاصة حب الأم، أي حب أمي لي، كنت أحفر في كامل كياني كل معلومة أقرأها أينما وجدت». استشعرت هذا الحب مثلاً، حين أصيبت بالجدري، رأت لهفة أمها عليها. فحب الأم حقيقة لا شك فيها، إلا في بعض حالات الخلل الهرموني الشاذة. هذا كله لترتاح وتقول إن الأمر قدري، ولا مسؤولية لأحد: «أنا ملكة الهواجس... ملكة الحظ السيئ».

هنادي شخصية أقرب إلى اللطف والدعة، والأم تبدو وكأنها تمتلك الشيء وضده، لها سمات متناقضة، مما يصعّب على الابنة العائدة، بناء شخصيتها من جديد، تحاول كي تحرر نفسها من عبء العلاقة المتوترة مع الأم أن تجد لها مبررات لسوء مزاجها: «ربما صارت أمي قاسية ومنعزلة ولئيمة، أنا أيضاً قد أصبح كذلك، حين يشتد علي الألم. تصبح رؤية الناس أو سماع أصواتهم عذاباً خالصاً».

مناجاة الكائنات

وفيما يشبه الهروب أو مؤانسة الذات تلجأ هنادي إلى مصاحبة الشجر والنبات، والقطة زكية، التي ترافقها في يومياتها، والكلب رامبو، وشجرة التين الموجودة في الشرفة، وشجرة الصفصاف. تقضي وقتاً مع رشيد، وآخر مع الميكانيكي نبيل ونكتشف جانباً من شخصية هنادي وهي تتعرف على عالم جديد، عبر الإنترنت بمعونة أحمد العامل الباكستاني قرب منزلها. لكن الكاتبة تبقي كل هذه الشخصيات في خدمة الكشف عن أبعاد شخصية هنادي، وتلك العلاقة الملتبسة مع أمها، وكأنما هي حكاية نسائية أكثر من أي شيء آخر. ونساء لهن تجربة خاصة، لسن كبقية النساء. فالعلاقة بين الأم وشقيقها، بقيت متشنجة، ومع والدها لم تكن سهلة. هنادي هي الأخرى، كان حظها مع الرجال يتحرك صعوداً ونزولاً، لتنتهي في عزلتها.

هي أيضاً رحلة بحث الابنة الغائبة التي تشعر بالندم على ما فات. هربت لتريح والدتها منها. «هربي كان صفقة لصالحنا نحن الاثنتان... لكنها قد تكون تغيرت وندمت وحين ندمت لم يعد بمقدورها أن تجدني، وأن تعتذر مني».

تتحرى حقيقة شخصية الأم من رائحة الشراشف والنبش في الأغراض، ورق مخبأ، «لماذا احتفظت أمي بمزقة الجريدة هذه وقد طوتها بعناية؟ هل تكون نسيتها أو أضاعتها بين غيرها من الأوراق وتاهت عنها تماماً؟».

إيقاع هادئ

النص يسير وفق إيقاع هادئ، وبطيء، يواكب حركة هنادي التي تفتقد للحيوية بسبب المرض، إلى أن نكتشف في النهاية سرّ والدها، وقصته المثيرة، التي خبأتها الأم عنها. وهو ما يربط النص قليلاً بما نشهد من أحداث حالية. حيث إن الأب ذهب إلى إسرائيل مع العملاء الذين هربوا بعد حرب التحرير عام 2000 لا لأنه عميل بل اعتقد أنها وسيلة للهروب من وجه العدالة بعد ارتكاب جريمة بطريق الخطأ ومطاردته بهدف الثأر. ظن أن العودة إلى الوطن ستكون متاحة لاحقاً، لكنه بقي هناك، وفي إسرائيل صارت له حياة أخرى، نكتشفها في نهاية الرواية.

صحيح أن تيمة الحرب ليست في مركز القصة، لكنها مبثوثة فيها، هي في الخلفية من خلال غياب الأب وانكفائه عن الصورة، ثم حين يشكل المفاجأة بنهايته غير المتوقعة، ونكتشف أسراره الصادمة. الحرب حاضرة في التفاصيل اليومية، في تعامل الناس مع بعضهم، في انقطاع الماء، في غياب الكهرباء، وأزمات العيش.

رواية تأملية، هادئة، مشغولة بالحفر الداخلي الباطني، أكثر من عنايتها بالصخب الخارج والإيقاع الحياتي للبطلة. وهي مواكبة حميمة لامرأة مريضة، تكافح وحيدة، دون تبرّم كي تصل إلى نهايتها بسلام.