مي زيادة وجبران: الحب كالكتابة لا يزهر إلا في تربة الغياب

كلاهما آثر في عمقه عدم اللقاء بالآخر رغم أن الأمر لم يكن متعذراً

مي زيادة وجبران
مي زيادة وجبران
TT

مي زيادة وجبران: الحب كالكتابة لا يزهر إلا في تربة الغياب

مي زيادة وجبران
مي زيادة وجبران

قد تكون العلاقة التي جمعت بين مي زيادة وجبران خليل جبران، واحدة من أغرب العلاقات العاطفية التي ربطت بين كاتبين، وأكثرها التباساً ومحلاً للجدل والقراءات المختلفة. إذ ندر أن شهد التاريخ المديد للعشق، علاقة عاطفية بين طرفين اقتصرت تعبيراتها على تبادل الرسائل لفترة تقارب العقدين من الزمن، دون أن يعمد أي منهما إلى هدم العائق الجغرافي والتقدم بوصة واحدة باتجاه الآخر. لكن هذه الغرابة بالذات، هي التي جعلت منهما محل متابعة العشرات من النقاد والباحثين، بحيث وُضعت حولهما عشرات الكتب والأطروحات، ولم تُترك نأمة صغيرة من حياتيهما إلا وتمت متابعتها بالتفصيل.

وإذا كان جبران مديناً فيما حققه من مكانة وحضور إبداعيين، لأمه كاملة رحمة التي اتخذت قرارها الشجاع بترك الأب المتسلط والمدمن على الخمرة وحيداً في بشري، والهجرة مع أولادها الأربعة بطرس وجبران وسلطانة ومريانا إلى أميركا، فهو لا يخفي الدور الموازي الذي لعبته نساء أخريات في حياته القصيرة الحافلة، حيث ورد في إحدى رسائله إلى مي زيادة «أنا مدين بكل ما هو أنا للمرأة، منذ كنت طفلاً وحتى الساعة. المرأة هي من فتحت النوافذ في بصري والأبواب في روحي. ولولا المرأة الأم والمرأة الشقيقة والمرأة الصديقة، لبقيت هاجعاً مع هؤلاء النائمين الذين يشوشون سكينة العالم بغطيطهم».

إلا أن المتتبع لحياة جبران العاطفية لا بد أن يلاحظ أنه إزاء شخصين متغايرين تماماً، أحدهما يصوب باتجاه الجسد الغرائزي، والآخر باتجاه الروح والتوهج المثالي للأنوثة الكونية. وإذ يكشف ميخائيل نعيمة في كتابه عن جبران، أن هذا الأخير أقام في مراهقته علاقة جسدية محمومة مع امرأة أميركية متزوجة من تاجر جلود، كانت تتردد عليه ليرسمها، فإن نعيمة يسرد الحدث بأسلوب من الغمز المشوب بالإدانة المبطنة، علماً بأن الإنسان في الصبا لا يأبه بالمعايير الأخلاقية السائدة، بل بتحقيق ذاته وإثبات هويته الذكورية.

وكما يظهر جبران في صورة أخرى مناقضة من خلال العلاقة الرومانسية الحالمة التي أقامها أثناء إقامته في بيروت مع حلا الضاهر، التي أطلق عليها في «الأجنحة المتكسرة» اسم سلمى كرامة، ما يلبث أن يقع فريسة شغفه المشبوب بالأميركية ميشلين ذات الجمال المغوي، التي عرفته بها ماري هاسكل، قبل أن تصل علاقتهما إلى طريق مسدود، ليس فقط لأن جبران لم يرغب في الزواج منها، بل لأنه لم يكن قادراً على خيانة هاسكل، التي لم يكن من دون رعايتها ودعمها ليقف على قدميه. أما علاقته بماري فتتخذ طابعاً ملغزاً وشديد الإبهام. ففي حين يرى البعض أن جبران قد وجد في ماري، التي تكبره بعشر سنوات، أمه الرمزية البديلة، يبدو جبران في قرارته وكأنه منشطر نصفياً بين إبقاء ماري، ذات الجمال المتواضع، في خانة الصداقة والحدب الإنسانيين، وبين الزواج منها بدافع تأنيب الضمير أو التعبير عن الامتنان.

وسط البلبلة العاطفية التي عاشها جبران في فترة شبابه، كان يمكن للرسالة التي وصلته من مي زيادة عام 1912، والتي تعرب فيها عن إعجابها الشديد بقصته «مرتا البانية»، أن تكون حدثاً عابراً في حياته، كما في حياة الكاتبة اللبنانية التي تشاء المفارقات أن تدين انطلاقتها الفعلية في عالم الأدب لجبران نفسه، حيث تسبب إلقاؤها المميز لكلمته في حفل تكريم خليل مطران عام 1913، في لفت أنظار الوسط الثقافي المصري إلى نبرتها الواثقة وحضورها الآسر. فما الذي دفع الطرفين إلى الدخول في مغامرة عاطفية نظرية استمرت عقدين من الزمن، في حين كانت نساء عديدات تتنافسن على قلب جبران، وكان عشرات الكتاب المصريين والعرب يتسابقون بالمقابل للوصول إلى صالون مي الأدبي، وإلى قلبها فيما بعد؟

والواقع أن مثل هذا السؤال لم يكن ليغيب عن بال الكتاب والباحثين، الذين عاينوا العلاقة عن كثب، أو قاربوها من موقع الدرس والتمحيص والتحليل النفسي، وبينهم ميخائيل نعيمة الذي يمر بشكل عارض على الرسالة التي وصلت جبران من فتاة شرقية لم يسمّها، متحدثاً عن شعور صديقه بالزهو والغبطة إثر قراءة الرسالة، وملمحاً إلى أن جبران لم يشأ اللقاء بالفتاة، تجنباً «لإفساد ما تبقى من براءته، أو الابتلاء بالمزيد من التجارب».

وإذ يُفترض بالرسائل التي تبادلها الطرفان أن تكون المرجع الأهم في تبيان حقيقة العلاقة وطبيعتها، فإن هذه الرسائل تندرج في خانتين اثنتين، فكرية وعاطفية، مع الإشارة إلى اتسام الأولى بالجرأة النقدية والغنى المعرفي، فيما تدرجت الثانية من البوح الخفر والموارب، إلى الاعتراف بالحب والمكاشفة العاطفية الصريحة. وحيث تعمد مي إلى امتداح السرد الجبراني في «الأجنحة المتكسرة»، إلا أنها تبدي تحفظها على موقفه السلبي من الزواج، وعلى تسويغه للخيانة حتى ولو كان الحب دافعها الوحيد. وفي «دمعة وابتسامة» تأخذ مي عليه «لهجته المضطربة وأفكاره الصبيانية». وإذ تمتدح كتابيه «المواكب» و«المجنون»، لا تتوانى رغم إعجابها بالكتابين عن القول: «في كلا الكتابين أكاد أتبين تأثير نيتشه، وإن كانت بسمة التهكم الفني الدقيق التي نراها عند جبران لن تشبه أبداً ضحكة نيتشه ذات الجلبة الضخمة المزعجة». والأرجح أن تعلق جبران العاطفي بمي، هو الذي دفعه إلى أن يتقبل برحابة صدر «حديثها العلوي المتراوح بين العذوبة والتعنيف». إلا أن جبران، من جهة ثانية، لم يتردد في مكاشفة مي بما يرى فيه تعزيزاً لدورها ومكانتها الأدبيين، فيحثها على استثمار مواهبها في ما هو أبعد من النقد الأدبي والاجتماعي، قائلاً لها: «أو ليس الابتداع أبقى من البحث في المبدعين؟ ألا ترين أن نظم قصيدة أو نثرها، أفضل من رسالة في الشعر والشعراء؟».

أما الجانب العاطفي من العلاقة فهو يبدو، رغم تطوره المطرد من الصداقة الفكرية باتجاه الحب، أقرب إلى ما أطلق عليه جبران اسم «النشيد الغنائي» أو «إنشاد المنادى»، بتعبير هايدغر، أو مناجاة المثال الأفلاطوني الموزع بين المطلقيْن الأنثوي والذكوري. ففي حين يكتب جبران لمي «أستعطفك أن تكتبي إليّ بالروح المطلقة المجردة المجنحة التي تعلو فوق سبل البشر»، تكتب له من جهتها «لما كنت أجلس للكتابة كنت أنسى من أنت وأين أنت. وكثيراً ما أنسى أن هناك رجلاً أخاطبه، فأكلمك كما أكلم نفسي».

اللافت في الأمر أن رد فعل مي على عرض جبران الزواج منها، لم يختلف كثيراً عن رد فعل ماري هاسكل، حيث نظرت المرأتان إلى العرض بوصفه مجاملة أخلاقية فرضتها علاقته الوثيقة بكل منهما. ومع أن زيادة لم تقدم على الزواج من رجل آخر، كما فعلت ماري، إلا أنها كتبت له رداً على عرضه: «لقد تكاتبنا كصديقين مفكرين، ولو كنت سعيداً بالصداقة مثلي لما كنت رميت إلى أبعد من ذلك». إلا أنها ما تلبث أن تكتب لاسترضائه عام 1921: «أريد أن تساعدني وتحميني وتبعد عني الأذى ليس بالروح فقط بل بالجسد أيضاً». ثم تخلع عنها بعد ذلك رداء الخفر لتخاطب جبران بقولها: «ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إنني لا أعرف ماذا أعني به، ولكنني أعرف أنك محبوبي وأني أنتظر الحب كثيراً، وأخاف أن لا يأتيني بكل ما أنتظر».

ومع ذلك فإن جبران الذي وعد مي بأن يزورها في القاهرة، أو يلتقي بها في أوروبا، لم يفِ بوعوده أبداً، بما جعل منسوب الرسائل بينهما يتضاءل بشكل تدريجي. والأرجح أن خيبة مي من جبران قد أسهمت في توطيد علاقتها بالعقاد، كما يكشف خالد غازي في كتابه «جنون امرأة»، مستشهداً بقولها لهذا الأخير: «إن ما تشعر به هو نفس ما شعرتُ به نحوك منذ أول رسالة كتبتها إليك». وإذ تخاطبه بمكر أنثوي لافت: «الآن عرفت لماذا لا تميل إلى جبران»، تضيف قائلة: «لا تحسب أني أتهمك بالغيرة من جبران، فهو في نيويورك لم يرني ولعله لن يراني، كما أنني لم أره إلا في الصور».

والأرجح أن كلاً من جبران ومي لم يكن يرغب في عمقه بلقاء الآخر أو الارتباط به، لأن ذينك اللقاء والارتباط كانا سيسقطان العلاقة من سدة الحلم إلى رتابة الواقع وسقمه وفساده. وكان لا بد من أن تحول قارات ومحيطات شاسعة دون عناقهما المباشر، لكي يتكفل المتخيل بالأمر، وتقوم اللغة مقام الذراعين. والأنفاس المحمومة ونبض القلب. ولعل المآل المأساوي لمصيريهما المتباعدين، هو الذي وفر لحبهما «الافتراضي» ما يلزمه من عناصر الأسطورة. فمع رحيل جبران المبكر بفعل تفاقم أمراضه، كان جسد مي النضر وعقلها المستنير يترنحان تحت مطرقة الزمن القاسي وغدر الأقارب وتخلي الأصدقاء. وحيث كان الكثيرون يرون في مي صورة المرأة الحالمة ذات الشفافية المفرطة والذكاء المتوقد، ظلت صورة جبران مثاراً للجدل والتباين والتأويلات المختلفة. وحدها الشاعرة الأميركية باربارا يونغ، رفيقة سنواته الأخيرة، ألحت على تنزيهه عن كل دنس وإلحاقه بمصاف الأولياء والقديسين، هاتفةً بعد رحيله بمحبيه الكثر:

الشاعر ينام، لكنه لا ينام

بل خرج يمشي في الفضاء

ويركض في الريح

لا تُسمّوا احتضاراً عناقه الغمامة

لا تُسموا موتاً ذهابه الى الشمس

ها هو، قاصداً نجمة الصبح

يرسم الأثير شموساً وأقماراً

ويبلغ بيته هناك، في قلب العاصفة



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!