في حمّام صيدا

في حمّام صيدا
TT

في حمّام صيدا

في حمّام صيدا

في اللّغة العربيّة التي يصفها الشّاعر الرّوسي يفغيني يفتشينكو: «وكأنّ الطّبيعة سكبت فيها كلّ حنانها»، ليست ثمّة في لغتنا كلمتان قريبتان، إحداهما من الأخرى، وشديدتا التّنافر من كلمتي «الأثَرَة» و«الإيثار». لا يشبه الصّباحُ في صيدا صباحاً في بيروت أو بغداد أو كلّ العالم، فرطوبة البحر تُعطي الهواء لمعاناً خفيفاً، ليقبع كلّ شيء في القلعة التّاريخيّة عند الشّاطئ تحت غطاء صمغيّ مصنوع من الماضي. لكن المدينة ليست في قلعتها أو في سوقها، بل هي كائنة في حمّاماتها القديمة.

تدخل حمّام صيدا، وكأنّك تهبط فجأة إلى مغارة في قلب جبل، حيث السّيادة الصّامتة للظّلّ، وحيث الصّخور ليست حجارة وحسب، فهي تشبه بيضات طائر خرافيّ عملاق. هل تخيّلتم سماع نبض قلب جبل؟ عند كلّ بيضة لا بدّ أن يصغي الزائر إلى هذا النّبض، وتسكن موسيقى ظلام قلب الجبل وضياؤه في وجدانه وسريرته، وتبقى تتردّد.

لا يهمّني من المكان عمره أو هندسته وطريقة بنائه، الذي يعنيني في حمّام صيدا، النّاس. كيف يمكنني التواصل مع جمهور من النساء والرجال ماتوا قبل مئات أو ألوف السنين؟ باستطاعة المرء بواسطة الفن إبطاء الزمن أو العودة به إلى الوراء، وهكذا تخيّلت نفسي أستحمّ وكانت نظافة بدني أو روحي هي آخر ما فكّرت به.

الدم الروحي

هنالك صورة غير مرئيّة لقطرة ماء شفيفة يقتسمها جميع من دخلوا المكان، وجميع من استحمّوا فيه، وجميع السّائحين الذين مرّوا بالمكان. قطرة ماء تشبه التفّاحة التي قطفتها أمنا حوّاء، والتي سوف يقتسمها الجميع فتكفيهم. الفرق هو أن تفّاحتي (قطرة الماء) سوف تزيل الرِّجس عن خطيئتنا، بمن فيهم أمّنا الأولى وأبونا... من يدخل هذا المكان تصيّرهُ القطرةُ فرخاً يسكن بيضة الطائر العملاق، وتبرئه عند باب الخروج طائراً يشقّ بجناحيه الفضاء.

الرواية هي «موبي ديك» أو الحوت الأبيض لهيرمان ميلفل، وعنوان الفصل هو «عصر الأكر الشّحمية»، حيث يشبّه الكاتب الحوضَ الذي يتجمّع فيه زيت الحوت في السّفينة التي كان يعمل فيها بحمّام قسطنطين، الإمبراطور اليونانيّ الذي شيّد حمّامات عامّة ليجبر شعبه على الاستحمام، وكانت تسخّن بواسطة أشعّة الشّمس، من أجل أن تكون الفكرة ويكون الحلم بإهابٍ إلهيّ، وكان الإمبراطور معنيًّا بلا شيء غير الشّعور بالرّفقة بين أبناء قومه، وهي المنزلة التي ينتقل فيها الدّم الروحي من إنسان إلى إنسان.

يتدحرج شحم الحوت إلى حوض واسع في السّفينة، ويقوم العمّال بعَصره ليصير سائلاً. يقول ميلفل: «كنت أغسل يدي بين تلك الكرات النّاعمة اللّطيفة... وأستنشق ذلك العطر الخالص الذي لم تشبْه شائبة - حقّاً وصدقاً - كأنّه رائحة البنفسج في الرّبيع». وتطوف في وجدانه في تلك السّاعة خواطر، هي الأفكار ذاتها التي بلغتني وأنا أتملّى دكّات حمّام صيدا الحجريّة: «أصدقكم القول إنّني عشت لحظة وكأنّني في حقل مسكيّ؛ نسيت كلّ شيء... في ذلك الزّيت الذي لا يحدّه تعبير غسلت يديّ وقلبي معاً؛ حين كنت أستحمّ في ذلك الحمّام شعرت شعوراً سماويّاً بأنّي بريء من كلّ نيّة سيّئة أو من كلّ نكد أو حقد أو أيّ شيء من ذلك». لا توجد لحظات أسمى من تلك التي يتقرّب فيها اثنان، رجل وامرأة، ويعلن الحبّ بينهما عن سطوته على كلّ شيء في الوجود، ويترك الاثنان عندها كلّ ما هو ذاتيّ وأنانيّ وينتميان إلى الرّفاقيّة العامة بين البشر. عندما يقول الفتى أو الفتاة: «أنا أحبّ»، فإن الكلام يظهر إلى الملأ بصوت شديد التّجريد، شديد الخطابيّة، وتصير عند ذلك موسيقى شجيّة تقول ما معناه: «نحن نحبّ». في اللّغة العربيّة التي يصفها الشّاعر الرّوسي يفغيني يفتشينكو «وكأنّ الطّبيعة سكبت فيها كلّ حنانها».

الأثرة والإيثار

ليست ثمّة في لغتنا كلمتان قريبتان، إحداهما من الأخرى، وشديدتا التّنافر من كلمتي «الأثَرَة» و«الإيثار». الأولى تعني الأنانيّة وحبّ الذات، والإيثار هو أعلى المكارم. عند ساعات الحبّ العظيمة تخلع الكلمة الأولى شكلها، وتتطهّر منه، كما أن ما يقوم به المحبّون في حياتهم يعود بفضله إلى هذه المعادلة. ونعود إلى السيّد ميلفل، بارئ ملحمة موبي ديك: «عصراً! عصراً! عصراً! طوال الصّباح كلِّه. عصرتُ ذلك الشّحم حتى كدت أذوب فيه؛ عصرت ذلك الشّحم حتى استولى عليّ نوع فذّ من الجنون، ووجدتني أعصر ـ دون أن أدري ـ أيدي زملائي العاملين معي في الحوض، ظانّاً أن أيديهم كرات لطيفة. ولّد هذا العمل فيّ شعوراً فيّاضاً ودّياً حبيباً متحبباً حتّى إنّني في النّهاية أصبحت أشدّ على أيديهم وأنظر في عيونهم في حنان كأنّني أقول لهم؛ آه يا رفاقي الأعزّاء لِمَ نظلّ بعد اليوم نستطعم أيّ صور الجفاء الاجتماعي أو نتعرّف إلى أقلّ الحسد أو نكد الطّبع! هيّا بنا يشدّ بعضنا على أيدي بعض، بل نعتصر أنفسنا بعضها في بعض، لنعتصر أنفسنا جميعاً نحن الآدميين في حليب اللّطف الوديع وزيته، وكلّ هذا كان من حصّتي، وأنا أتأمّل اللُّحمة البشريّة تعجن خبز المحبّة الدّائمة في حمّام صيدا، وهذه تَكفي البشر جميعاً طعاماً وماءً، كأنهم تحوّلوا إلى طيور يكفيها القليل من الحَبّ للعيش، فهي لا تكتنز شيئاً ولا تخزنه ولا تطلب أكثر من زاد اليوم.

لم يكن البطل الحقيقيّ لملحمة الحوت الأبيض هو الكابتن الحقود آخاب، ولا الرّاوي إسماعيل ذو الأصول الدّينيّة المسيحيّة. اختار المؤلّف رجلاً من أكَلة لحوم البشر اسمه «كويكوج» مثلاً أعلى من بين مئات الشّخصيات التي حكى عنها في الرّواية، وكان المشهد الذي يُلقي فيه كويكوج بنفسه فجراً في البحر الصاخب لينقذ أحد البحّارة من الغرق، دليلاً على أن أسمى ما لدينا هو الإيثار، الذي هو أعلى مراتب الحبّ، فمن يبلغه يكن حامل الرّاية.

\"\"

في القسم الأول من قصيدة الأرض الخراب نقرأ كلاماً للسيّدة ماري، وكانت تتذكّر رحلة قامت بها إلى حيث يسكن ابن عمّها الأرشيدوق: (الأبيات 14 - 16) «أخذني على زلّاقة فأصابني الخوف. قال، ماري ماري، تمسّكي بإحكام، وانحدرنا نزولاً». ثم يقول الشّاعر ساخراً من الهلع الذي تملّك ماري: (الأبيات 20 – 30) «يا ابن آدم أنت لا تقدر أن تقول أو تحزر، لأنك لا تعرف غير... ظلّك في الصّباح يخبّ وراءك أو ظلّك في المساء ينهض كي يلاقيك ولسوف أريك الخوف في حفنة من تراب». الخوف الحقيقيّ هو ليس نشوة الرّعب التي تصاحب ركوب الزلّاقة عندما تنحدر مسرعة في المنعطفات، كما أنه ليس ذلك الذّعر الجنونيّ الذي يشلّ أعصاب وعظام الإنسان عندما يفكّر بالمجاعة. من المعتقدات الصّينية التّقليديّة أن الأمراض تنتج عندما يستنفد الجسد الطّاقة، وهي ليست ذلك النّوع من الطّاقة التي تُدرّس في كتب الأحياء، بل نسخة صوفيّة منها، التي أدعوها طاقة الحُبّ. تعلّمتُ من زيارتي إلى حمّام صيدا أن الخوف الأهمّ في حياتنا هو الجوع إلى الحُبّ، لأن الحال عندها تجعلنا نعيش في عالم وهميّ ولا نكترث بما يجري من حولنا، الخطر النّووي مثلاً، والوحش المسمّى Godzilla الذي يعمل بالطّاقة النّووية والذّكاء الاصطناعيّ القاتل، وكذلك الأوبئة والجفاف وغير ذلك مما يهدّد شمس الحياة بالانطفاء، ويتوعدّ البشر والحيوان والنّبات بالفناء.

يريد الفنّان إعادة إنتاج الحضارة بأساليبَ جديدةٍ تمنح الإنسان وجميع الكائنات فيه وضعاً مغايراً يعطي كلّ شيء في الوجود تعريفاً جديداً، ويعيش الفنّانون في حالة حلُم دائمة في سبيل تحقيق ذلك. هل يمكننا القول إن العالم المُنتج بواسطة الفنّ هو التّعبير الواقعيّ للجنّة التي تخبرنا بها كتب الأنبياء؟ أكل آدم تفّاحته الشّهيرة وأُخرج بسبب ذلك من الجنّة، ونأكل نحن من تفّاحة الفنّ ونعود نسكن الجنّة ثانية، ولن يرغمنا هذه المرّة أحد على المغادرة.

جئتُ إلى مدينة صيدا في ضيافة سيّدةٍ صيداويّة بسيّارة تاكسي قدِمت خصّيصاً إلى الفندق، وأوصلتني إلى المدينة. ثم زرتُ الحمّام القديم، وصارت في قلبي كلّ الكلمات التي قلتها في هذا المقال، وعندما حانت ساعة العودة، اعتذرتُ من مضيّفتي أن تجهّزَ سيّارةَ الأجرة لي، واخترتُ أن أعود بباص يحيط بي الركّاب فيه من كلّ جانب. يقول محمد خضيّر: «ليس هناك أجمل وأشمل وأدفأ من كلمة (النّاس)». في حمّام صيدا كان النّاس الأقدمون يحيطون بي من كلّ جانب، وامتدّ زمان هؤلاء إلى عهد آدمَ، فيا لسعادتي أنني عاشرت في المكان أمّي وأبي...



علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
TT

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في هيئة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة؛ أحد أكبر المشاريع الثقافية في العالم العربي، تحدّث عن التحديات التي تسوقها وسائل التواصل للهوية الثقافية للمجتمعات المحلية، لكنه دعا إلى الريادة في استخدام التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي بوصفها سبيلاً للحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيزها، وذلك عبر تغذية الفضاء الرقمي بالمنتجات الفكرية والأدبية الجادة والرصينة.

لاحظ الدكتور علي بن تميم، أن الوسائل الرقمية فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب، وهي تحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل. وهنا نص الحوار:

> كيف ترون التحديات التي تواجهها الهوية الثقافية، وسط طوفان الثقافات السريعة التي تفرضها العولمة؟

- بالتأكيد فإن الثقافة التجارية السريعة، ومخرجات العولمة، التي قد تشكل فرصاً لتعزيز الهوية المتفردة، لها تأثيرات كبيرة وتفرض تحديات بالغة على المجتمعات، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي وما تفرضه من تشويه للغة العربية، والمفردات والتراكيب وغيرها، وما تنشره من محتوى مجهول المنشأ خصوصاً في مجالات الأدب والشعر والسرد، وهو ما بات يشكل تهديداً وجودياً لقطاع النشر من خلال إمكانية الوصول وتفضيلات الشباب لتلك الوسائل، وعدم التزام الوسائل الرقمية بحقوق الملكية الفكرية، لا بل بالتلاعب بالمحتوى واجتزائه وتشويهه، والأخطاء الجسيمة في حق اللغة والهوية الثقافية والاجتماعية التي تمارسها بعض المنصات.

الدكتور علي بن تميم (رئيس مركز أبوظبي للغة العربية)

> كيف رصدتم الأثر غير الإيجابي للوسائل الرقمية؟

- من الملاحظ أن تلك الوسائل فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب ونظرتهم ومحاكمتهم لمختلف الشؤون التي يعبرون بها في حياتهم، واللجوء إلى المعلومات المبتورة والابتعاد عن القراءات الطويلة والنصوص الأدبية والمعرفية الشاملة وغيرها التي تحقق غنى معرفياً حقيقياً.

وتأتي تلك التحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل، ما يعزز ضعف التفاعل مع الموروث الثقافي، حيث تفتقر العديد من المبادرات الثقافية التي تركز على الترويج للأصالة بصورة تتفاعل مع الأجيال الجديدة، إلى الوسائل الحديثة والتفاعلية التي تجعلها جذابة للأجيال الشابة. ويضاف إلى ذلك تأثير اختلاف طبيعة الأعمال وأسواق العمل، التي يتم فيها تسليع الثقافة لغايات تجارية.

> لكن الإمارات – كما بقية دول الخليج – قطعت شوطاً كبيراً في تمكين التقنيات الرقمية... فهل يأتي ذلك على حساب الهوية الثقافية؟

- صحيح، ينبغي النظر إلى أن ريادة الدولة في المجالات الرقمية والذكاء الاصطناعي تشكل بحد ذاتها عامل دعم للهوية الثقافية، إضافة إلى تأثير البيئة الاجتماعية ومخزونها القوي من الثقافة وغنى هويتها، والدور الإيجابي للمعرفة الرقمية في تعزيز تنافسية الدولة وريادة الأعمال، ووجود كفاءات متعددة للاستفادة منها في تعزيز المحتوى الثقافي والهوية الثقافية، على دراية كاملة بأساليب ووسائل انتشار تلك المنصات ووصول المحتوى إلى الجمهور المستهدف، وإمكانية استغلال ذلك في خلق محتوى ثقافي جديد موازٍ للمحتوى المضلل يمتلك كفاءة الوصول، والقدرة على مخاطبة الشباب بلغتهم الجديدة والعصرية والسليمة، لمواجهة المحتوى المضلل، إن جاز التعبير.

> ما استراتيجيتكم في مواجهة مثل هذه التحديات؟

- تساهم استراتيجية مركز أبوظبي للغة العربية، في تعزيز الهوية الثقافية الإماراتية والحفاظ عليها وسط تأثيرات العولمة. وتشكل المهرجانات الشاملة مثل مهرجان العين للكتاب ومهرجان الظفرة للكتاب ومعرض أبوظبي الدولي للكتاب، والجوائز الرائدة مثل جائزة الشيخ زايد للكتاب وجائزة سرد الذهب، وغيرها، بما تتضمنه من مبادرات متكاملة ثقافية واجتماعية وفنية ورياضية ومسابقات تنافسية، واحدة من وسائل لتعزيز جاذبية تلك المهرجانات والجوائز للجمهور، وتحفيزهم على المشاركة بها، من خلال دمج الموروث الثقافي بالوسائل العصرية.

كما يقوم مركز أبوظبي للغة العربية من خلال الشراكات الدولية بتعزيز نشر الثقافة الإماراتية وإبراز دورها الحضاري العالمي، ما يمنح مزيداً من الفخر والاعتزاز للشباب بهويتهم الثقافية ويحفزهم على التعرف عليها بصورة أوسع.

الترجمة والأصالة

> مع تزايد الترجمة بين اللغات، كيف يمكن ضمان أن تكون الأعمال المترجمة ناقلاً للأصالة الثقافية من مصادرها وليست مجرد (انتقاءات سطحية) لا تمثّل التراث الثقافي للشعوب أو للمبدعين؟

- يدرك مشروع «كلمة» للترجمة بمركز أبوظبي للغة العربية أهمية الترجمة ودورها البارز في دعم الثقافة بعدّها وسيلة أساسية لتعزيز التقارب، والتسامح بين الشعوب، انسجاماً مع توجهات دولة الإمارات ودورها في تعزيز تبني ثقافة التسامح بين الحضارات والشعوب. وقد أطلق المركز أربعة مشاريع رئيسية للترجمة حققت قفزة نوعية في مستوى الترجمة العربية، واعتماديتها ومستوى الموثوقية التي تحظى بها في الأوساط الأكاديمية ومؤسسات النشر العالمية، ما جعله شريكاً رئيسياً لكبرى مؤسسات وشركات ومراكز الأبحاث المعنية بالترجمة على مستوى العالم، على الرغم من التحديات الواسعة التي تجاوزها مشروع كلمة للترجمة، بسبب الطبيعة المكلفة لنشاط الترجمة والنشر، والأخطاء المتوقعة، وتحديات توافر المترجمين من أصحاب الكفاءة الذين يمكنهم نقل المعرفة بسياقها وروحيتها الأدبية والعلمية نفسها، مع الحفاظ على عناصر السرد والتشويق.

وفي هذا الإطار اعتمد المركز جملة من المعايير التي ساهمت بفاعلية في ريادة مشاريع النشر الخاصة به، التي تشمل اختيار الكتب، والمترجمين بالاعتماد على لجنة من المحكمين المشهود بخبرتهم في الأوساط الثقافية والعلمية والأكاديمية العالمية. كما عزز كفاءة المترجمين، والقدرة على إيجاد أصحاب الاختصاصات من ذوي الكفاءات عبر التعاون مع المؤسسات الأكاديمية في الدولة ومراكز الأبحاث العالمية، وتدريب مترجمين مواطنين بلغ عددهم اليوم نحو 20 مترجماً من أصحاب المهارات والمواهب في قطاع الترجمة، التي يحكمها الشغف والتطوير المستمر وحب القراءة، والقدرة على السرد.

> ماذا تحقق في هذا الصعيد؟

- ساهمت جهود المشروع في ترجمة أكثر من 1300 كتاب، وتوسيع اللغات لتشمل 24 لغة حتى اليوم، بالإضافة إلى الترجمة عن اللغتين التشيكية والسلوفاكية. كما شملت قائمة المترجمين أكثر من 800 مترجم، إضافة إلى تعاون نحو 300 آخرين مع مشاريع المركز، وانضمام 20 مواطناً من جيل الشباب والخريجين إلى القائمة، نحرص على توفير كل سبل الدعم والتحفيز لهم، لتشجيعهم على خوض غمار تجربة الترجمة تحت إشراف مترجمين محترفين.

وقد وفر تعدّد المشاريع التي يحتضنها المركز وخصوصيتها، نماذج خبرة متعددة وشاملة، ساهمت بشكل فعّال في تعزيز الكفاءة في قطاع الترجمة وصولاً إلى تحقيق السمعة الرائدة التي يحظى بها المركز في الأوساط العالمية حالياً، ومنها «مشروع إصدارات» الذي يعنى بالكتب التراثية والأدبية، وكتب الأطفال والرحالة، و«مشروع كلمة» الذي يمثل نقلة نوعية في تاريخ الترجمة العربية من خلال ترجمة نحو 100 كتاب سنوياً، منذ انطلاقته، من أرفع الإنتاجات المعرفية العالمية، إضافة إلى إطلاق «مشروع قلم»، وجميعها مبادرات رائدة تحظى بالاعتمادية والموثوقية العالمية، وتتبنى أرفع معايير حقوق النشر.

> كيف يوازن مشروع «كلمة» بين الحفاظ على التراث الثقافي ودعم الإبداع الحديث، هل ثمّة تعارض بينهما؟

- الموروث الثقافي والتاريخي يشكل ذاكرة وهوية المجتمعات، وهو نتاج عقول وجهود بشرية مستمرة، وتواصلٍ إنساني أسفر عن إرث فكري وإبداعي توارثته الأجيال، وهو مصدر ثري ومهم للإبداع في الفن والأدب.

ومن جهته، حرص مشروع كلمة على الاهتمام بترجمة كتب التراث العالمي، فقدم بادرة لترجمة سلسلة ثقافات الشعوب في 72 كتاباً تتضمن ترجمة لمئات الحكايات والقصص من التراث الشعبي والفلكلوري العالمي بهدف تعزيز العمق الثقافي الجامع بين مختلف الأعراق والجنسيات والثقافات.

وفي الإبداع الحديث ترجم العشرات من الروايات لكتاب عالميين، بالإضافة إلى ترجمة الشعر الأميركي الحديث، وكتب النقد والدراسات الأدبي والشعر الغربي.

ويسعى مركز أبوظبي للغة العربية عبر هذا المشروع إلى دمج نماذج الإبداع الحديث بالتراث الثقافي التي لا تشكّل أي تعارض في مضمونها، بل تحقّق تكاملية، وشمولية لتطوير الإبداع الثقافي وضمان مواكبته للتغيرات العصرية لتعزيز وصوله للمتلقين من دون إهمال العلوم ونشر جوانب المعرفة.

المعرفة والذكاء الاصطناعي

> هل نحن في سباق مع التقنيات الذكية للوصول إلى المعرفة مهما كلّف الثمن؟ كيف يمكن لحركة الترجمة أن تستفيد منها؟

- تشكل التقنيات الذكية بعداً أساسياً لانتشار المحتوى العربي الرائد والمتوازن في العصر الحالي، غير أنها لا تدخل ضمن اسم السباق وليست هدفاً في حد ذاتها، بل يتم استثمار إمكاناتها لتعزيز تحقيق الأهداف الاستراتيجية الثقافية ونشر اللغة العربية والثقافة العربية، ومواجهة التحديات التي يفرضها تجاهلها.

وتبرز أهمية استثمار الوسائل الذكية في تحديد وترسيخ احترام الملكية الفكرية، وإيجاد وسائل إلكترونية رقمية للحد من التعديات عليها.

وبالتأكيد، فإن استثمار المخرجات الذكية من شأنه تعزيز حركة الترجمة وتنوعها، وخلق تنافسية جديدة تعزز من ريادة القطاع.

رواد الثقافة قادرون على كشف «المسوخ» التي ينتجها الذكاء الاصطناعي

علي بن تميم

> هل هناك مخاوف من «مسوخ» ثقافية ينتجها الذكاء الاصطناعي تؤدي لمزيد من تشويه الوعي؟

- يستطيع رواد الثقافة التمييز بسهولة بين المنتج الثقافي الإبداعي والمهجن أو الدخيل، غير أن التحديات التي يفرضها الواقع الرقمي يتمثل في تشويه الإبداع الثقافي بين أفراد المجتمع، وفي رأيي فإن الوسائل الذكية أتاحت لبعض المدعين مجالات للظهور لكنها لا تزيد على فترة محدودة. فالثقافة والإبداع مسألتان تراكميتان وموهبتان لا يمكن اقتحامهما بسهولة، ونسعى بحرص إلى الاستفادة من البنية الرقمية الرائدة للدولة في إطلاق مبادرات ذكية وتعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي لنشر المحتوى الثقافي الحقيقي الذي يمثل هويتنا وحضارتنا.

> كيف يمكن لحركة الترجمة أن تتجنب التحيّز الثقافي وتقدم نصوصاً دقيقة وموضوعية؟

- الترجمة رافد مهم من روافد الثقافة الإنسانية، ومثل أي مهنة أخرى، تخضع مهنة الترجمة لمجموعة من الأخلاقيات التي ينبغي الالتزام بها. والكفاءة اللغوية والقدرة على ترجمة النص ليستا المعيار الوحيد في عملية الترجمة من لغة إلى لغة، فالابتعاد عن التحيز الثقافي والفكري واحترام الاختلافات الفكرية والثقافية، وفهم السياقات الثقافية المختلفة للغة المصدر وللغة المترجم إليها من الأمور الحيوية والمهمة في تقديم ترجمات رصينة وخالية من التشوهات. وبهذا يتحقق الهدف الأسمى للترجمة وهو تقريب الشقة بين الثقافات والحضارات.ويتم اختيار الإصدارات الخاصة بالترجمة بناء على أهميتها العالمية وما تقدمه من قيمة مضافة للقراء توسع مداركهم، وتعزز رؤيتهم للمستقبل، من خلال لجنة متنوعة ومتخصصة تعزز الموضوعية وسياقات الحوكمة واحترام حقوق الملكية الفكرية وغيرها من معايير وقيم عليا.