الثقافة في لبنان مورد رزق 200 ألف شخص وتدرّ ملياري دولار سنوياً

رؤية غير منظورة تخضع لدراسات وتمويلات

معرض بيروت الدولي للكتاب في دورة سابقة
معرض بيروت الدولي للكتاب في دورة سابقة
TT

الثقافة في لبنان مورد رزق 200 ألف شخص وتدرّ ملياري دولار سنوياً

معرض بيروت الدولي للكتاب في دورة سابقة
معرض بيروت الدولي للكتاب في دورة سابقة

منذ أكثر من عشر سنوات، ودول كثيرة تُعنى بالنهوض بما باتت تسمى «الصناعات الثقافية والإبداعية». يُعنى بذلك كل المهن ذات العلاقة بالخلق والابتكار، بما فيها التصميم والرقص والتصوير الفوتوغرافي والموسيقى. إضافة كلمة «صناعة» إلى المهن الإبداعية والأنشطة الفنية المختلفة، لفتت النظر في زمن الكلمة الأولى والأخيرة فيه للربح، إلى أن المثقفين والفنانين ليسوا عالة على مجتمعاتهم، بل هم من المساهمين الرئيسيين في تحقيق المداخيل الوطنية، وبمبالغ لا يستهان بها، لكنها بقيت مدة طويلة غير منظورة.

دراسات إحصائية

قبل عامين، صدرت دراسة تحت عنوان «المساهمة الاقتصادية للصناعات الثقافية والإبداعية في لبنان - التشخيص والإمكانات والتوصيات»، كانت السفارة الفرنسية في بيروت، بالشراكة مع الوكالة الفرنسية للتنمية قد كلفت بها «معهد باسل فليحان» من أجل تقييم وضع الصناعات الثقافية والإبداعية، ومعرفة وزنها الاقتصادي وأهميتها الاستراتيجية. وجاءت الدراسة بعد الانهيار الاقتصادي العارم الذي حلّ بالبلاد، وانفجار 4 أغسطس (آب) الذي أتى ليس فقط على مئات العمارات التراثية، وإنما عشرات المؤسسات الثقافية من غاليريات ومسارح ومكاتب ومراكز تصميم... وغيرها؛ لكنها في الوقت نفسه تمكنت من رصد الحركة الثقافية قبل أن تنزف الكثير من فنانيها.

لم تأت النتائج مفاجئة لمن كان يتابع دراسات سابقة، قامت بها مؤسسات جامعية ولم يتح لها الانتشار؛ فالغالبية تظنّ أن المهن التي تتسم بالابتكار هي في العموم محكومة بالحاجة إلى من يمولها.

الأرقام تقول العكس، وتؤشر إلى مدى أهمية الإبداع في المجتمع اللبناني، والدور الكبير الذي تحتله الفنون في حياة الناس، وفي تنمية الحركة السياحية، وإنعاش الاقتصاد والإسهام الذي لا مجال للشك فيه في إسعاد الناس، وتأمين مصادر دخل لآلاف الأسر.

أظهرت الأرقام أن ما يقارب 5 في المائة من الناتج المحلي اللبناني، يأتي من الصناعات الثقافية والإبداعية. وهذه النسبة تشكل مبلغاً وازناً يصل إلى ملياري دولار في السنة. وتوظف هذه القطاعات نحو 200 ألف شخص. فلو أحصينا من يعملون في مجال النشر من تأليف وطباعة وتصحيح وتجليد ونقل وتوزيع، لوجدنا أن عددهم وحدهم يصل إلى المئات، وإن أضفنا إليهم العاملين في مجالي السينما والتلفزيون، وكذلك في المسرح والتصوير والتصميم، والرسم والنحت والرقص، والمتاحف... وغيرها من المجالات، لوجدنا أن العدد يفوق مائتي ألف على الأرجح، خصوصاً أن الدراسات الحديثة ترى أن كل المجالات المستفيدة من الزخم الثقافي في بلد ما، من فنادق ومواصلات وسياحة، يمكن أن تحتسب ضمن المكاسب التي تعود بها الثقافة على المجتمعات الحديثة.

ما بعد الانهيار الاقتصادي

لكن كل هذه الأرقام اللبنانية المتفائلة تعرضت لنكسة منذ الانهيار الاقتصادي وما أتى بعده بسبب انفجار المرفأ. يقدّر البعض في ظل غياب إحصاءات دقيقة، أن أكثر من نصف العاملين في المجال الثقافي قد غادروا البلاد بالفعل، بسبب الضغط الاقتصادي المتزايد، وهو ما يمكن ملاحظته بسهولة عند تعداد أسماء الفنانين الذين لم يعودوا على الساحة، أو الكتّاب الذين التحقوا ببلدان اغتراب أبنائهم، أو السينمائيين الذين باتوا يفضلون العمل من الخارج. وبسبب غياب كل هؤلاء باتت هناك حلقة مفرغة بين جيلين، بحيث لا يستطيع الجيل الأكبر نقل خبراته للجيل الجديد، الذي يعمل كأنه أحياناً يبدأ من الصفر. ويزيد الوضع تعقيداً الغياب التام لأي مشروع رسمي أو خطة وطنية شاملة، متسعة الرؤية للتعويض عما جرى تدميره.

لهذه الأسباب مجتمعة، نلاحظ أنه منذ انفجار الرابع من أغسطس تحاول هيئات دولية ودول أجنبية بينها فرنسا وإيطاليا وسويسرا وحتى ألمانيا، الدفع باتجاه استعادة لبنان بعضاً من زخمه الإبداعي المثمر الذي فقده، ليس فقط من أجل تغذية روح الابتكار، وإنما بشكل رئيسي للمساعدة في نمو الاقتصاد. وكان كل من «المورد الثقافي» و«آفاق»، وجهات مانحة أخرى قد عملت منذ بدء الوباء على إعادة لملمة شمل ما تداعى. فعلى سبيل المثال، من أصل 43 مسرحاً كانت في بيروت، لم يبقَ سوى نحو 7 مسارح ناشطة. هذا عدا المهرجانات التي تعطلت بسبب شح التمويل، وهي الآن تحاول العودة إلى الحياة ببرامج نابضة، مثل مهرجانات بعلبك وبيت الدين.

قبل ثلاثة أشهر، أي في شهر فبراير (شباط) الماضي، جرى الإعلان عن مبلغ سخي، لكنه يبقى قليلاً، لتمويل الصناعات الثقافية. وفتح باب تقديم الطلبات الذي ينتهي آخر هذا الشهر. والمبلغ الذي سيجري توزيعه على أكثر من 60 مشروعاً لمؤسسات وأفراد، يصل إلى 2.2 مليون دولار، ستخصص للفاعلين الثقافيين في قلب بيروت عموماً، وفي المناطق التي طالها دمار انفجار المرفأ بشكل خاص. ويأتي هذا التمويل بمبادرة من المكتب الإقليمي لـ«اليونيسكو» في إطار مشروع «بيريت» المكون من شقَّين: إعادة تأهيل المساكن التراثية في بيروت، وإنعاش الصناعات الثقافية والإبداعية، يموله الصندوق الائتماني المخصص للبنان، ويديره البنك الدولي.

مساعدات غير كافية

مشروع «بيريت» بالمليوني دولار، قد يسهم في مساعدات يمكن القول إنها تحدّ من الخسائر؛ لكنها ليست كافية لإنقاذ الوضع برمته بشكل جذري؛ إذ يعرف الممولون أن هذه الصناعات، بتنوعاتها في لبنان، كانت دائماً من بين الأكثر نشاطاً وحيوية، ومساهمتها الغنية، قبل بدء الأزمة الحالية، شكلت عاملاً حاسماً في تكوين الثروات في البلاد. ولكنّ انفجار المرفأ أدى إلى اضطراب شديد في أنشطة القطاع الثقافي، وهي كانت في الأصل تعاني الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة التي شهدها لبنان في السنوات الثلاث الأخيرة. فالأحياء المتضررة من الانفجار هي الأكثر كثافة بالغاليريات والمسارح والمؤسسات الإبداعية على أنواعها، وهي قد تضررت بشكل بالغ، فمنها ما أغلق، وبعضها تعطّل لبعض الوقت، ومنهم من وجد الهجرة أفضل وسيلة.

المساعدات الخارجية حتى الآن هي التي ساعدت على صمود كثير من المؤسسات. متحف سرسق الذي أتى الانفجار على جزء مهم من مبناه ومحتوياته، قد يكون المثال الأبرز، فهو بفضل المساعدات وإسعاف لوحاته المتضررة في متاحف عالمية، سيعيد فتح أبوابه بعد أيام في حلة جديدة.

لكن هذا الدعم المجلوب لن يكفي، فمشروع «بيريت» مثلاً يدعم المشاريع الفردية بمبالغ صغيرة تتراوح بين ألفين وخمسمائة دولار إلى عشرة آلاف دولار، بينما قد تتراوح مساعدة المؤسسة الواحدة بين عشرة آلاف وخمسة وعشرين ألف دولار.

تشمل النتاجات الثقافية التي يدعمها هذا المشروع، ورش العمل القصيرة لتنمية مهارات الإبداع، كذلك إدارة المسارح، وهندسة الصوت والضوء، وتصميم الأزياء، ومهن التراث الثقافي غير المادي، التي تتداولها الأجيال.

حقائق

توظف القطاعات الثقافية في لبنان نحو 200 ألف شخص



الفن بوصفه وسيلة للتعريف بقضايا المناخ

الفن بوصفه وسيلة للتعريف بقضايا المناخ
TT

الفن بوصفه وسيلة للتعريف بقضايا المناخ

الفن بوصفه وسيلة للتعريف بقضايا المناخ

يعد التغير المناخي من المواضيع المُقلقة والمهمة عالمياً، وهو من الملفات الرئيسية التي توليها الدول أهمية كبرى، حيث تظهر حاجة عالمية وشاملة واتفاق شبه كُلِّي من دول العالم على أهمية الالتزام بقضايا التغير المناخي والاستدامة لحماية كوكبنا للأجيال القادمة.

هذه القضية المهمة عبَّر عنها بعض الفنانين الذين استخدموا الفن لرفع الوعي بالقضايا البيئية. حيث كان الفن إحدى وسائل نشطاء البيئة للتعريف والتأثير في قضايا المناخ والاحتباس الحراري، لاعتقادهم أن الحقائق العلمية وحدها قد تكون غير كافية، ولأهمية التأثير في العاطفة، وهو ما يمكن للفن عمله.

ومن فناني البيئة العالميين الفنان الدنماركي أولافور إيلياسون، الذي عيَّنه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي سفيراً للنوايا الحسنة للطاقة المتجددة والعمل المناخي عام 2019م، حيث تركز أعماله المعاصرة والتفاعلية على التعبير عن ظواهر الاحتباس الحراري، وكان أحد أشهر أعماله «مشروع الطقس» الذي عُرض في متحف «تيت مودرن» في لندن، وجذب أعداداً هائلة من الجماهير، إذ هدف هذا العمل التفاعلي إلى الإيحاء للمشاهدين باقترابهم من الشمس، ولتعزيز الرسالة البيئية لهذا العمل ضمِّن كتالوج المعرض مقالات وتقارير عن أحداث الطقس المتغيرة.

المناخ والبيئة

إن التعبير عن قضايا المناخ والبيئة نجده كذلك في الفن التشكيلي السعودي، وهو ليس بمستغرب، حيث يعد هذا الاهتمام البيئي انعكاساً لحرص واهتمام حكومة المملكة بهذه القضية، والتزامها الراسخ في مواجهة مشكلة التغير المناخي، حيث صادقت المملكة على اتفاقية باريس لتغير المناخ في عام 2016، وهو أول اتفاق عالمي بشأن المناخ. كما أطلقت المملكة مبادرتَي «السعودية الخضراء» و«الشرق الأوسط الأخضر»، لتسريع العمل المناخي وحماية البيئة وتعزيز التنمية المستدامة. وهو ما يجعل الفرصة مواتية للفنانين السعوديين للمشاركة بشكل أكبر في التعبير عن القضايا البيئية، مما يسهم في عكس جهود المملكة تجاه هذه القضايا ومشاركة الجمهور في الحوار حولها.

فعلى سبيل المثال، عبَّرت الفنانة التشكيلية منال الضويان عن البيئة في عمل شهير أنتجته عام 2020م، في معرض DESERT-X في مدينة العلا، بعنوان «يا تُرى هل تراني؟»، حيث كان العمل عبارة عن منصات تفاعلية للقفز في صحراء العلا، في إيحاء غير مباشر بالواحات الصحراوية والبِرَك المائية التي تتكون في الصحراء بعد موسم الأمطار، لكنها اختفت نتيجة للتغير المناخي والري غير المسؤول، وتأثيره البيئي في الطبيعة من خلال شح المياه واختفاء الواحات في المملكة.

الفن البيئي

كما نجد الفن البيئي بشكل واضح في أعمال الفنانة التشكيلية زهرة الغامدي التي ركزت في تعبيرها الفني على المواضيع البيئية من خلال خامات الأرض المستمدة من البيئة المحلية؛ مثل الرمال والأحجار والجلود والنباتات المأخوذة من البيئة الصحراوية كالشوك والطلح، وكيفية تحولها نتيجة العوامل المؤثرة فيها كالجفاف والتصحر والتلوث البيئي، كما في عملها «كوكب يختنق؟» الذي استخدمت فيه أغصان الأشجار المتيبسة وبقايا خامات بلاستيكية، لمواجهة المتلقي والمشاهد بما يمكن أن تُحدثه ممارسات الإنسان من تأثير بيئي سلبي، وللتذكير بالمسؤولية المشتركة لحماية كوكب الأرض للأجيال القادمة.

إن الفن البيئي لدى زهرة الغامدي يتمثل في نقل المكونات الطبيعية للأرض والبيئة المحلية وإعادة تشكيلها في قاعة العرض بأسلوب شاعري يستدعي المتلقي للانغماس في العمل الفني والطبيعة والشعور بها والتفاعل معها لتعزيز الارتباط بالأرض، فمن خلال إعادة تشكيل هذه الخامات البيئية يتأكد التجذر بالأرض والوطن والارتباط به.

وقد نجد التعبير عن المواضيع البيئية أكثر لدى التشكيليات السعوديات من زملائهن من الرجال، وقد يكون ذلك طبيعياً نتيجة حساسية المرأة واهتمامها بمثل هذه القضايا. وهو ما يثبته بعض الدراسات العلمية؛ إذ حسب دراسة من برنامج «ييل» للتواصل بشأن التغير المناخي، بعنوان «اختلافات الجنسين في فهم التغير المناخي» تظهر المرأة أكثر ميلاً إلى الاهتمام بالبيئة، كما أن للنساء آراء ومعتقدات أقوى مؤيدة للمناخ وتصورات أعلى للمخاطر الناتجة عن التغيرات المناخية، وقد فسر الباحثون هذه الاختلافات بأنها نتيجة اختلافات التنشئة الاجتماعية بين الجنسين، والقيم الناتجة عن ذلك كالإيثار والرحمة وإدراك المخاطر.

ومع أن الفن استُخدم كثيراً للتوعية بالقضايا البيئية، إلا أن بعض نشطاء البيئة حول العالم استخدموه بطريقة مختلفة للفت النظر حول مطالبهم، مثل أعمال الشغب والتخريب لأهم الأعمال الفنية في المتاحف العالمية، وقد استهدف بعض هؤلاء الناشطين أشهر الأعمال الفنية التي تعد أيقونات عالمية كلوحة «دوار الشمس» لفان غوخ، ولوحتي «الموناليزا» و«العشاء الأخير» لدافنشي. تخريب هذه الأعمال ليس لأنها مناهضة للبيئة بقدر ما هي محاولة لفت النظر نحو قضاياهم، لكن لتحقيق التغيير المطلوب، أيهما أجدى، التعبير الإيجابي من خلال الفن، أم السلبي من خلال تخريبه؟

إن الفن التشكيلي ليس مجرد وسيلة للتعبير، بل له دور حاسم ومؤثر في تشكيل الوعي بالقضايا البيئية، فهو يدعو لإعادة التفكير في علاقتنا بها، والعمل معاً لمستقبل أكثر استدامة. إضافةً إلى دوره بصفته موروثاً ثقافياً للأجيال المقبلة، إذ يسجل تجربتنا في مواجهة هذا التحدي العالمي.

* كاتبة وناقدة سعودية