القاموس الفلسفي لأندريه كونت سبونفيل

المستقبل لحضارة تنويرية كونية تشمل جميع شعوب الأرض

القاموس الفلسفي لأندريه كونت سبونفيل
TT

القاموس الفلسفي لأندريه كونت سبونفيل

القاموس الفلسفي لأندريه كونت سبونفيل

صدرت أخيراً الطبعة الثالثة المزيدة والمنقحة من القاموس الفلسفي الضخم لأندريه كونت سبونفيل. يحتوي هذا القاموس على 2267 مادة، أي بزيادة 613 مادة قياساً إلى الطبعات السابقة. وتبلغ عدد صفحاته 1440 صفحة. وفيه يتحدث المؤلف عن معظم المفاهيم الفلسفية التي تهمنا كمفهوم الحضارة والبربرية والأصولية والعلمانية والحقيقة... إلخ. يعدّ أندريه كونت سبونفيل أحد كبار فلاسفة فرنسا المعاصرين بالإضافة إلى لوك فيري وريمي براغ وآخرين. وهو يتميز بوضوح الفكر على عكس الفلاسفة الغامضين المعقدين الضبابيين. لقد أوهمونا في الجامعات العربية، وبخاصة جامعة دمشق، أن الفلسفة لكي تكون عظيمة وفلسفية حقاً وحقيقة ينبغي أن تكون غامضة عسيرة على الهضم بل مستحيلة على الفهم، الفهم! كلما كانت معقدة ومبهمة وملغزة كانت أفضل! وهذا مفهوم خاطئ عن الفلسفة وينبغي أن يتغير. فالفلاسفة الكبار كلهم يريدون أن يقولوا لنا شيئاً ما بشرط أن نبذل الجهد الكافي لفهمهم. وإذا لم نستطع فهم ديكارت وكانط وهيغل ونيتشه... إلخ مباشرة فلنستشر هذا القاموس الذي يوضح لنا ما استغلق علينا من مفاهيم عويصة لكبار الفلاسفة. سوف أتوقف هنا عند مفهومين فقط استفاض الفيلسوف الفرنسي المعاصر في شرحهما في قاموسه هذا. الأول هو مفهوم صدام الحضارات، والثاني هو مفهوم العلمانية.

نحن نعلم أن كتاب صموئيل هانتنغتون صدر عام 1996 ولكنه لم يلقَ كل هذه الأصداء الواسعة إلا بعد ضربة 11 سبتمبر (أيلول) الإجرامية الكبرى عام 2001. وعندئذ أخذ الكتاب كل أبعاده، بل تبين كأن الضربة جاءت للتصديق الكامل على أطروحته الاستباقية القائلة إن الصدام الأساسي في العصر المقبل سيكون بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية. لكن ماذا تعني أطروحة صدام الحضارات بالضبط؟ إنها تعني ما يلي؛ لم يعد تاريخ كوكبنا الأرضي يتمحور حول علاقات القوة الصراعية بين الدول كما كان يحصل سابقاً حتى نهاية الحرب العالمية الأولى. ولم يعد هذا التاريخ يتمثل بالصراع بين الآيديولوجيات، وبخاصة الآيديولوجيا الشيوعية والآيديولوجيا الليبرالية كما حصل بعد الثورة البلشفية عام 1917 حتى انهيار الكتلة الشيوعية عام 1989. وإنما أصبح صراعاً بين الكتل الحضارية والدينية الكبرى، وبخاصة الحضارة الغربية والحضارة العربية الإسلامية.

رأي سبونفيل بصدام الحضارات

يقول لنا في هذا القاموس العتيد ما معناه؛ تبدو الأطروحة ظاهرياً صحيحة ولكنها خاطئة في العمق أو قل إنها تمر على هامش ما هو أساسي. فالشيء الأساسي في نظره ليس الصراع بين الحضارات المختلفة من صينية كونفشيوسية، وروسية سلافية أرثوذكسية، وغربية أوروبية أميركية، وعربية إسلامية... إلخ. وإنما الشيء الأساسي هو الانبثاق البطيء والطويل والصعب، ولكن الحتمي، لما يدعوه بالحضارة الإنسانية التنويرية الكونية. وهي التي ستدخل في صدام مع كل الحضارات الخصوصية المنغلقة على ذاتها. هنا يكمن الصدام الحقيقي بالفعل. إنه بين الحضارة الكونية والأصولية الانغلاقية التكفيرية.

وهو يقصد بالحضارة الكونية حضارة العولمة الاقتصادية والتكنولوجية والمعلوماتية التي ستفرض نفسها على جميع شعوب الأرض عاجلاً أو آجلاً. كما يقصد حضارة حقوق الإنسان والمواطن ونبذ الطائفية والعنصرية. ما هي طبيعة هذه الحضارة على المستوى الثقافي؟ يقول المؤلف ما معناه؛ يصعب علينا تحديدها بدقة، ولكن يمكن أن نأخذ فكرة عنها من خلال الرموز الكبرى التي تجسدها. وهذه الرموز المثالية العليا في نظره هي غاندي، ومارتن لوثر كنغ، ونيلسون مانديلا، وفاكلاف هافيل، وآخرون كثيرون. هذه الشخصيات مثلت القيم العليا للتسامح الواسع الذي يتجاوز العصبيات العرقية والطائفية والمذهبية. وهنا تكمن سمة الحضارة الإنسانية التي ستهيمن علينا في عصر العولمة الكونية. والشيء الهام الذي سيحصل هو التالي؛ الصدام لن يكون بين الحضارات ككتلة واحدة صماء بكماء عمياء، وإنما سيكون داخل كل حضارة على حدة. بهذا المعنى يقول الفيلسوف أندريه كونت سبونفيل إنه يشعر بالقرابة مع المثقفين العرب والمسلمين المستنيرين أكثر مما يشعر بالقرابة مع الفاشيين الأوروبيين أو الغربيين عموماً. بل إنه لا يشعر بأي قرابة مع هؤلاء الأخيرين على الإطلاق. وهنا يكمن النقص الكبير لأطروحة صموئيل هانتنغتون. فهي لم تأخذ بعين الاعتبار ذلك الصراع المندلع داخل كل حضارة بين التيار التقدمي والتيار الرجعي، بين التيار التنويري والتيار الأصولي الظلامي. فمثلاً نلاحظ أن الصراع داخل العالم العربي الإسلامي مندلع بين تيارين أساسيين. هما التيار الإنساني النهضوي والتيار «الإخواني الداعشي» الرجعي. الأول يفهم الإسلام بطريقة تنويرية، والثانية يفهمه بطريقة ظلامية. وقل الأمر ذاته عن بقية الحضارات البشرية. إنها منقسمة على نفسها ومتصارعة مع ذاتها أكثر مما نظن وأكثر مما هي متصارعة مع الكتل الحضارية الأخرى.

ثم يطرح المؤلف التساؤلات المتلاحقة التالية؛ كم هو عدد الأوروبيين المستنيرين الذين يضعون الكتاب المقدس للهنود (الفيدا) على مستوى الكتاب المقدس المسيحي؟ كم هو عدد المثقفين الذين يضعون بوذا على نفس مستوى السيد المسيح؟ كم هو عدد الذين يضعون كونفشيوس عالياً مثل سقراط أو ديوجين؟ كم هو عدد الذين يضعون المسلم العبقري المتسامح ابن عربي عالياً مثل المعلم المسيحي إيكهارت؟ كم هو عدد الذين يضعون الدلاي لاما عالياً مثل البابا بنوا السادس عشر، بل فوقه؟

إذن هناك حضارة بشرية كونية آخذة في التشكل والانبثاق. والدليل على ذلك أن المثقفين المشارقة والأفارقة أصبحوا مهتمين بكبار رموز الفلسفة الغربية من أمثال ديكارت، وكانط، وهيغل... إلخ. صحيح أنه توجد ثقافات متعددة في العالم، وكل واحدة ذات نكهة خاصة ولغة خاصة ومرجعيات تراثية خاصة. وهذا شيء جيد، فالتنوع أفضل من الأحادية النمطية. ولكن نلاحظ أن هذه الثقافات المتنوعة والمختلفة أخذت يتقارب بعضها مع بعض أكثر فأكثر.

وما عدا الأصوليين المتعصبين المنغلقين على أنفسهم وقوقعتهم الدوغمائية المتحجرة، فإن جميع شعوب العالم أصبحت تتقارب وتتعايش وتتفاهم، بعضها مع بعض، من خلال ثقافة العولمة وقيمها الإنسانية الكونية.

أخيراً، يرى المؤلف أن الصدام بين الحضارات إذا ما حصل سيقود البشرية إلى هلاكها وحتفها. وحدها الحضارة العالمية الكونية الواحدة يمكن أن تنقذ البشرية. لكن ما سمات هذه الحضارة؟ في نهاية المطاف يقول لنا الفيلسوف الفرنسي المعاصر ما يلي؛ إنها حضارة تنويرية، علمانية، ديمقراطية، تتقيد بحقوق الإنسان وتحترمها. هذه هي الحضارة العالمية التي ستنقذنا من براثن التعصب الأعمى والانغلاق الأصولي والإرهاب. ينبغي أن يعلم الجميع ما يلي؛ الكرة الأرضية واحدة مشتركة لنا جميعاً. والبشرية واحدة رغم تنوع الأجناس واللغات والأديان والقوميات. والاقتصاد العالمي أصبح واحداً مترابطاً أكثر فأكثر. وبالتالي فلم يبق علينا إلا أن نخترع الحضارة الإنسانية الكونية التي تتماشى مع كل ذلك.

العلمانية حسب القاموس

بالنسبة له فإن جوهر الحضارة الكونية الإنسانية المقبلة يتمثل في العلمانية. لا حضارة ولا حداثة ولا نزعة إنسانية من دون دولة مدنية علمانية. ولكن ماذا تعني العلمانية؟ على عكس ما يشاع وبخاصة في العالم العربي الإسلامي فإن العلمانية لا تعني الإلحاد على الإطلاق. ولا تعني معاداة الأديان على الإطلاق، بل احترامها كلها، لكن مع وضعها على قدم المساواة، وعدم التمييز بين المواطنين على أساس طائفي أو مذهبي. الجميع متساوون أمام مؤسسات الدولة بغض النظر عن أصولهم الطائفية أو المذهبية. هذه هي العلمانية.

من المعلوم أن التيارات «الإخوانية» الأصولية تخوف الناس منها وتحذرهم قائلة؛ هذا كفر، هذا إلحاد، هذا خروج على الدين... إلخ. كل هذا غير صحيح على الإطلاق. العلمانية بحسب رأي المؤلف هي تنظيم معين للمجتمع يتيح التعايش السلمي بين مختلف مكونات هذا المجتمع من دينية ومذهبية وطائفية. من دونها لا تعايش ولا سلام أهلي وإنما صراع وحروب ومجازر طائفية كما كان يحصل في فرنسا قبل انتصار العلمانية التنويرية وكما يحصل حالياً في العالم العربي والإسلامي الذي لم ينتصر فيه التنوير بعد. باختصار شديد الدولة العلمانية تطبق المبدأ الأساسي التالي الذي طالما نص عليه فلاسفة النهضة العربية؛ الدين لله والوطن للجميع.

ولكن مشروع «الإخوان المسلمين» الذي ظهر على يد حسن البنا عام 1928 أجهض مشروع النهضة التنويرية العربية الذي كان صاعداً بشكل رائع منذ بدايات القرن التاسع عشر. ثم فرخ المشروع «الإخواني» البغيض كل حركات الظلام والقتل والإرهاب من «القاعدة» إلى «داعش» إلى «النصرة» إلى «بوكو حرام» إلى «الطالبان»... إلخ. وأصبحت النهضة العربية حلماً بعيد المنال. ولكنها ستعود حتماً، بل إنها عادت بعد سقوط «ربيع الإخوان المسلمين» وتجاوز الموجة الأصولية الظلامية كلها. ما بعد حلكة الظلام المطبقة إلا انبلاج الفجر! أخيراً، فإن العلمانية تعني حرية الضمير والمعتقد، أي حرية أن تتدين أو لا تتدين ومع ذلك تظل مواطناً لك كافة الحقوق وعليك كافة الواجبات. كل متدين مواطن بالضرورة ولكن ليس كل مواطن متديناً بالضرورة. هذه مسألة شخصية بينك وبين ربك. الدولة لا تحاسبك إذا لم تذهب إلى الكنيسة يوم الأحد لحضور القداس والصلاة. هذه مسألة شخصية تخصك وحدك. ولكنها تحاسبك إذا ما قصرت في عملك كمدرس أو طبيب أو مهندس أو وزير أو زبال حتى رئيس جمهورية!


مقالات ذات صلة

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

كتب لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام.

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «هيئة الكتاب» المصرية تنشر أعمال شكري عياد وشاكر عبد الحميد وعبد الحكيم راضي

«هيئة الكتاب» المصرية تنشر أعمال شكري عياد وشاكر عبد الحميد وعبد الحكيم راضي

تعاقدت «الهيئة المصرية العامة للكتاب» مع أسرة الناقد والأديب الراحل الدكتور شكري عيّاد؛ لإصدار وإتاحة مؤلفاته الكاملة ضمن خطط الهيئة لإحياء التراث النقدي العربي

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «لا مفاتيح هناك»... المدينة حين تتحول إلى مسرح عبثي

«لا مفاتيح هناك»... المدينة حين تتحول إلى مسرح عبثي

تتخذ رواية «لا مفاتيح هناك»، للروائي المصري أشرف الصباغ، من السخرية نهجاً لها، سخرية من الذات ومن العالم، ومن المدينة الكبيرة التي لا ترحم.

عمر شهريار

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.