في خضم الصراعات السياسية والثقافية المحتدمة التي شهدها الغرب على هامش الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، يبدو مصطلح «معاداة السامية» وكأنه فقد حدوده التعريفية الواضحة، وتحول إلى ساحة معركة دلالية مسيّسة بأكثر مما هو توصيف لظاهرة تاريخية. كتاب المؤرخ البريطاني البارز وأستاذ التاريخ في جامعة كولومبيا، مارك مازور، «عن معاداة السامية: تأريخ للمصطلح» محاولة تفكيكية جريئة للمفهوم، لا يكتفي فيه بسرد تاريخ كراهية اليهود، وإنما يغوص في تاريخ «الكلمة» نفسها، وكيف تحولت من توصيف لحركة سياسية أوروبية في القرن التاسع عشر، إلى سلاح جيوسياسي في القرن الحادي والعشرين يُستخدم لخدمة سياسات دولة إسرائيل ضد الفلسطينيين والعرب.
ينقسم «عن معاداة السامية» إلى قسمين رئيسيين يعكسان التحولات الجذرية للمفهوم: الأول يتناول صعود وسقوط معاداة السامية كحركة سياسية أوروبية، بينما يعالج الثاني «النموذج المفاهيمي الجديد» الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية، وتحديداً منذ سبعينات القرن الماضي.

ينطلق مازور من تمييز جوهري وحاسم بين كراهية اليهود كظاهرة قديمة قدم التاريخ الديني في أوروبا، ومصطلح «معاداة السامية»، الاختراع الحديث نسبياً، الذي تم صكه في أواخر القرن التاسع عشر في ألمانيا، مع التشديد على خطورة الخلط غير البريء بين العداء الديني التقليدي والظاهرة الحديثة. ويرى أن معاداة السامية «الكلاسيكية» نشأت كحركة سياسية مضادة للحداثة، وجاءت كرد فعل مباشر على عصر التحرر الذي منح اليهود حقوق المواطنة المتساوية في الدول الأوروبية. هدف هذه الحركة تجاوز مستوى ترويج صور نمطية سلبية عن السكان اليهود، وسعت إلى إقناع الجمهور بأنهم أقلية تشكل تهديداً وجودياً يمس القضايا الاجتماعية والسياسية الجوهرية للدولة القومية الصاعدة.
في تلك الحقبة، تداخل المفهوم مع النظريات القومية والعرقية الزائفة التي سادت القارة القديمة، لتبلغ هذه الحركة ذروتها مع صعود النازية إلى السلطة في ألمانيا. وهنا يطرح مازور فكرة لافتة: إن هزيمة أدولف هتلر لم تنهِ التحيز ضد اليهود، وإنما أدت إلى «نزع الشرعية عن معاداة السامية كبرنامج سياسي إيجابي». بمعنى آخر، لم يتوقف الناس عن كراهية اليهود بعد عام 1945، لكن التباهي العلني بذلك والترويج له كمنصة انتخابية أصبح أمراً منبوذاً رسمياً وأخلاقياً في الغرب.
القسم الثاني، والأكثر إثارة للجدل، يتفرغ لمعالجة المعضلة المعاصرة، ويجادل بأن العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، وتحديداً بعد تأسيس إسرائيل عام 1948 وحرب 1967، شهدت تحولاً جذرياً في معنى ووظيفة المصطلح. ففي السابق، كان اليهود يُعرّفون بوصفهم أقلية مضطهدة في الشتات الأوروبي، لكن مع تأسيس دولة إسرائيل وانتقال مركز الثقل اليهودي إلى الولايات المتحدة وتل أبيب، بدأت عملية إعادة تشكيل للمفهوم. ويوضح مازور كيف تمت «صهينة» الحياة اليهودية الأميركية، بحيث أصبحت إسرائيل ركيزة أساسية للهوية اليهودية العلمانية. هذا الاندماج أدى إلى ولادة ما يُسمى «معاداة السامية الجديدة» في السبعينات، وهو نموذج مفاهيمي موتور ساوى بين «معاداة السامية» و«معاداة الصهيونية» أو النقد الجذري للدولة العبرية.
يوفر النص تحليلاً دقيقاً لهذا الانزلاق الدلالي، فيتحدث عن جهود مؤسسية، قادتها منظمات يهودية أميركية والحكومة الإسرائيلية، لترسيخ فكرة أن أي عداء لإسرائيل هو بالضرورة نابع من كراهية أزلية لليهود، ويشير أيضاً إلى دور لعبه الاتحاد السوفياتي في نشر «معاداة الصهيونية» كغطاء لمعاداة السامية التقليدية في الكتلة الشرقية، مما زاد المشهد تعقيداً، لكنه يرفض السردية التي تقول إن العداء العربي لإسرائيل هو مجرد امتداد لمعاداة السامية الأوروبية، ويستشهد باعترافات خاصة لديفيد بن غوريون، مؤسس إسرائيل، الذي أقر بأن العداء العربي نابع من نزاع على الأرض («لقد جئنا وسرقنا بلدهم»)، وليس من كراهية عرقية، رغم استغلال بعض النخب العربية أحياناً لنظريات المؤامرة الأوروبية في معرض تبريرها للهزائم العسكرية.
في «عن معاداة السامية» مساحة مهمة لنقد «الأرثوذكسية الجديدة» التي هيمنت على الخطاب الغربي في القرن الحادي والعشرين. هذه الأرثوذكسية، المدعومة بوزارات الخارجية الغربية، تسعى لتعقب معاداة السامية اعتماداً على تعريفات فضفاضة، أبرزها تعريف «التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست» (IHRA). الذي ينتقده مازور بشدة، عادّاً إياه أداة إدارية غامضة أكثر منه تعريفاً علمياً دقيقاً، ويرى خطورته في كونه شاملاً وغير دقيق، ما يسمح باستخدامه لقمع الخطاب السياسي المشروع.
وبالفعل، وبدلاً من حماية اليهود من العنصرية الحقيقية، تحول المصطلح إلى وسيلة لحماية دولة إسرائيل من النقد السياسي. وللمفارقة تقوم أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا (التي جددت تراث الفاشية) واليمين المسيحي في أميركا بتبني مواقف داعمة لإسرائيل بشدة، ما يسمح لهم، وهم مُعادو السامية التقليديين، بغسل سمعتهم عبر توجيه تهمة معاداة السامية نحو اليسار والنشطاء الحقوقيين والطلاب الذين ينتقدون السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين. لقد أصبح اتهام الجامعات الأميركية بأنها «بؤر لمعاداة السامية» تكتيكاً أساسياً في حرب ثقافية أوسع يشنها اليمين ضد المؤسسات الأكاديمية والتقدمية.
ويرى المؤلف بوصفه يهودياً تأثر بأحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول) والحرب على غزة، أن المبالغة في استخدام المصطلح وتوسيع دلالته، يؤديان في النهاية إلى إفراغه من معناه وتقويض النضال الحقيقي ضد الكراهية. لكنه لا يكتفي بالتشخيص، بل يحاول تقديم مخرج من هذا المأزق المفاهيمي عبر العمل ضمن مسارين متوازيين؛ أولهما التعامل مع معاداة السامية كشكل من أشكال العنصرية والتحيز العرقي - الديني الذي يجب محاربته ضمن استراتيجية أوسع لمناهضة العنصرية بأشكالها كافة، وثانيهما التعامل مع الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني صراعاً سياسياً ونزاعاً على الأرض والسيادة وحقوق الإنسان، وهو مجال قابل للنقاش والنقد السياسي الحاد دون أن يوصم ذلك بالضرورة بمعاداة السامية. ويؤكد أنه من الممكن التعبير عن الغضب إزاء مقتل المدنيين في غزة، والمطالبة بالعدالة للفلسطينيين دون الانزلاق إلى نظريات المؤامرة القديمة حول «النفوذ اليهودي العالمي». إذ ينتهي الخلط بين الأمرين إلى خدمة أغراض المتطرفين من الجانبين: أولئك الذين يريدون تحصين إسرائيل من أي نقد، وأولئك الذين يريدون تبرير كراهيتهم لليهود بغطاء سياسي.
يتميز أسلوب مازور بالدقة التاريخية والابتعاد عن الانفعال في محاولته النبيلة لتفكيك طبقات تراكمات تاريخية سياسية غلفت استعمال هذا المصطلح الخطير، ولعل أهم ما يقدمه هو تحذيره الرؤيوي من أن «معاداة - معاداة السامية» بصيغتها الحالية، قد تتحول إلى آيديولوجيا قمعية تغلق باب النقاش، وتضر في نهاية المطاف باليهود أنفسهم عبر عزلهم عن حلفائهم الطبيعيين في حركات العدالة الاجتماعية، وربط مصيرهم بشكل حصري بسياسات دولة واحدة.
«عن معاداة السامية» كتاب عالي القيمة يدعونا إلى ألا ننصاع للتوظيف الآيديولوجي للمصطلحات، بل علينا مساءلتها وفهم سياقاتها، لضمان ألا تصبح اللغة أداة للقمع بدلاً من كونها وسيلة للفهم، لكنه يتطلب بالضرورة جمهوراً مستعداً للتخلي عن الاستكانة التي توفرها الشعارات الجاهزة، وتقبل تعقيدات التاريخ والسياسة.
عن معاداة السامية: تأريخ للمصطلح
On Antisemitism: A Word in History by Mark Mazower, Allen Lane,2025
المؤلف: مارك مازور
الناشر: ألن لين
