«الشتاء»... تأملات في الفصل الأكثر غموضاً

باحث ألماني يتناول تجلياته في الشعر والأدب

«الشتاء»... تأملات في الفصل الأكثر غموضاً
TT

«الشتاء»... تأملات في الفصل الأكثر غموضاً

«الشتاء»... تأملات في الفصل الأكثر غموضاً

عُرف الباحث الألماني بيرند برونر، مواليد 1964، بكتبه التي تتناول ظواهر أساسية في حياتنا من من منظور إنساني يجمع بين الخلفية العلمية والأسلوب الأدبي، كما في مؤلفاته الشهيرة مثل «القمر»، و«الليل»، و«فن الاستلقاء».

ويأتي كتابه الجديد «الشتاء- تاريخ وفلسفة الفصل الأكثر غموضاً» الصادر عن دار «العربي» بالقاهرة، ترجمة: د. سمر منير، في هذا السياق؛ إذ يرصد تجليات هذا الفصل من زاويا مختلفة مثل الأدب والشعر والتفاوت الطبقي، في لغة تجمع بين الدقة العلمية والسرد التأملي الحر غير المرتبط بتقسيمات حادة.

ويلاحظ المؤلف أن الروس، على سبيل المثال، يشتهرون بعلاقتهم المتناقضة مع الشتاء، كما في قصة تولستوي الشهيرة «السيد والخادم» التي تدور حول أرستقراطي وخادمه تائهَين في عاصفة ثلجية، هنا يبرز الثلج تارةً بوصفه شيئاً مألوفاً وحميماً بل يحمل طابعاً رومانسياً، وتارةً أخرى يبدو كأنه وحش مخيف ينتظر ضحاياه في هدوء.

ويندهش المؤلف من أن المستكشفين الأوائل عدّوا بعض المناطق شيئاً فظيعاً لا يمكن أن يحتمله أحد، كما في شرق كندا و«نيو إنغلاند» التي تقع في المنطقة الشمالية الشرقية من الولايات المتحدة وتضم ست ولايات هي: كونيتيكت، ومين، وماساتشوستس، ونيو هامبشاير، ورود آيلاند، وفيرمونت. ووجه الدهشة هنا أن هناك سكاناً أصليين عاشوا قبل مجيء المستكشفين الأوروبيين بمئات وربما آلاف السنين.

فلطالما وُجدت شعوب تعرف كيف تعيش في ظروف الشتاء القارس، لكنَّ سكان المناطق المعتدلة غالباً ما تجاهلوها، وبنظرةٍ إلى الأدب النابع من منطقة «نيو إنغلاند» سنجده مليئاً بصور الشتاء مثل قصيدة الشاعر جون غرينليف ويتر الكئيبة «محاصَر في الثلج» التي يستهلها بالقول:

«حيث تشرق شمس عديمة البهجة فوق تلال رمادية»

لكن يمكن للشتاء أن يكون مصدر إلهام أيضاً بجماله الباهر، كما حدث مع روكويل كينت؛ فرغم كونه من نيويورك اندفع، نتيجة شغفه بالشتاء، إلى السفر إلى «نيو إنغلاند» و«نيو فاوندلاند» و«غرينلاند» و«ألاسكا»، حيث أنتج صوراً خلابة لمناظر الثلج المضيئة وصوراً درامية لانجرافات الجليد، مع تفاصيل إنسانية مؤثرة وحكايات مشوقة للغاية.

يوصف الشتاء في كثير من الأحيان بأنه معتم وعدو للحياة، إلا أنه يمكن أن يرتبط بلحظات من التجارب الفريدة، ومنها الهواء البارد الجليدي الذي يَخِزُ وجهك كأنه إبر، واللعب بالثلج بأيدٍ لا تتوافر لها وسائل حماية، فيصبح التمييز بين الشعور بالبرودة والحرارة بشكل واضح مستحيلاً على الأقل للحظات. وكذلك الشعور بالإرهاق العميق بعد التزلج على الثلج لمسافة طويلة عندما لا يفصل بين البرد والجسد المتعرق سوى بدلة رقيقة.

ويذكر المؤلف أنه من تلك التجارب الفريدة التي يمكن أن يوفرها الشتاء كذلك، عندما تظهر أنفاسك على شكل بخار وتنفخ سحابات بيضاء في الهواء وتشعر بألم في أذنيك وأنت تتسلق الجبل بعيداً عن المنحدرات الممهَّدة، وتستخدم زلاجات مغطاة بالفراء، التي لا يتعلق بها سوى الجزء الأمامي من قدميك فقط في الأربطة، وتتزلج بعد تثبيت كعبيك بالزلاجات وسط الثلج العميق... وبينما ترتدي حذاء الثلج يمكنك أن تتنزه فوق مستنقع متجمِّد كنت لتغوص فيه لو كنت في فصل الصيف.

هذا ما يمكن أن نطلق عليه «عالم الشتاء المثالي»، ونعثر عليه في منطقة مغطاة بالثلوج حتى مسافة عميقة ومناظر طبيعية ثلجية متلألئة، ومنازل خشبية وأبراج جرس جذابة وعربة تزلج تجرها الخيول. إذا كنت محظوظاً فستسمع صوت تساقط الثلوج بهدوء حيث يبدو كل شيء مرتباً، فالغطاء الأبيض الناعم الذي يتشكل أحياناً بفعل الريح يكسو كل ما يتحرك. هنا يبدو أن الوقت قد توقف وتتحول الشجرة المنحنية ذات الغطاء الثلجي الضخم إلى تمثال منحوت بطريقة مثيرة، فنهرب من الظلال حيث تُغرينا الشمس الدافئة التي قد تسطع لساعات شحيحة فتصنع بهجة مفاجئة.

ويرى برونر أن الشتاء مريح للحواس فهو يجمع كل شيء في مساحة واحدة ذات إيقاع هادئ، فحتى سطح ندفة الثلج ليس له شكل واحد، كما أن الثلج يمتص الضوضاء بطريقة مدهشة، وهناك كثير من التجاويف في الغطاء الثلجي حتى يكاد الصوت يموت إثر تردده بشكل مستمر. ومع تساقط الثلوج يصبح الجو أهدأ قليلاً مرة أخرى، فهو يزيد من كثافة الغلاف الجوي ويشكل ما يشبه العازل الذي يمنع الموجات الصوتية من اختراق الغلاف الجوي، وهذا يخفِّف من الضوضاء المحيطة بشكل إضافي.

وعلى العكس، حين يحل الشتاء في المدينة فإنه كثيراً ما يكون ضيفاً ثقيلاً، حيث تصير الشوارع غير قابلة للمرور فيها وتصبح طرق المشاة والأرصفة بمثابة منزلقات. توفر عندئذ المنتزهات إطلالة على مناظر طبيعية خلابة ذات حشائش وأشجار مكسوة باللون الأبيض. وفيما عدا ذلك يختلط الثلج بسرعة مع الغبار والأوساخ. لا يكون الثلج في المدينة جميلاً لو لم يُزحه الناس من الطرق، حيث تتمتع المدن بقدرة محدودة على تحمل كتل الثلوج التي تضع بنيتها التحتية موضع الاختبار. يجيد سكان المناطق الحضرية التفكير في الطرق التي ينوون أن يسلكوها قبل مغادرة المنازل الحصينة، ولا يستمتع شباب المدن الكبرى بالشتاء إلا بشكل محدود.

أدرج عالم اللغة النمساوي ألفرد بولجار شوَّاية ثمار الكستناء ضمن المتع المحدودة التي يوفرها الشتاء قائلاً: «إن فرنها الحديدي الصغير المغطى بالبخار والذي يتوهج منه اللون الأحمر يتمتع بجاذبية لدى الأطفال المتجمدين، أبناء طبقة العمال ذوي الملابس الرثة والمتسكعين، على عكس ما يحدث مع الأطفال من الطبقة الأرستقراطية الذين يسيرون وهم يمسكون بأيدي أمهاتهم المعتنيات بأمرهم وأيدي المربيات الذين يتناولون طعاماً جيداً ويرتدون تنانير وقفازات أنيقة».

عندما يفتح ماركو فالدو بطل رواية الأديب الإيطالي إيتالو كالفينو التي تحمل الاسم نفسه، النافذة في صباح شتوي، لا يكاد يصدِّق ما تراه عيناه؛ لم تعد المدينة موجودة، فقد حلَّت محلها قطعة قماش بيضاء. وعندما يصيح في زوجته قائلاً: «ثلج»، يبدو صوته مكتوماً على نحو غير عادي. لقد وضع الثلج بصماته على جميع الأصوات أيضاً، حتى على قدرة إصدار الأصوات، شأنها في ذلك شأن الخطوط والألوان والمناظر، فصارت الأصوات لا تُصدِر اهتزازات في الغرفة المبطنة.


مقالات ذات صلة

«البيت الفارغ» الفائزة بجائزة الغونكور... رحلة في أعماق الذاكرة العائلية

ثقافة وفنون «البيت الفارغ» الفائزة بجائزة الغونكور... رحلة في أعماق الذاكرة العائلية

«البيت الفارغ» الفائزة بجائزة الغونكور... رحلة في أعماق الذاكرة العائلية

فاز الروائي الفرنسي لوران موفينييه بجائزة الغونكور إحدى أرفع الجوائز الأدبية في فرنسا عن روايته «البيت الفارغ» (دار نشر مينوي).

أنيسة مخالدي (باريس)
ثقافة وفنون سر جاذبية إرث جلال الدين الرومي

سر جاذبية إرث جلال الدين الرومي

يتناول دكتور حمدي النورج، أستاذ النقد وتحليل الخطاب بأكاديمية الفنون المصرية، في كتابه «الخطاب العرفاني – مقاربات حضارية»، سر جاذبية إرث جلال الدين الرومي.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق محمد سلماوي يلقي كلمته في معرض الشارقة للكتاب (إدارة المعرض)

محمد سلماوي: المثقفون العرب قادرون على التأثير

قال الكاتب المصري محمد سلماوي إن «الهوية القومية العربية شرط لوجودنا، والثقافة كانت وستظل دوماً عنوان هويتنا العربية».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب «انتصار العواطف»: الجغرافيا السياسية بين المشاعر والمصالح

«انتصار العواطف»: الجغرافيا السياسية بين المشاعر والمصالح

بعد خمسة عشر عاماً من طرحه نظرية «صراع العواطف» في كتابه المؤثر «الجغرافيا السياسية للعواطف»، يعود دومينيك مويسي ليطلق حكماً قاطعاً في عمله الجديد.

ندى حطيط
كتب «سقوط جنتلمان» مواجهة الحياة على الحافة

«سقوط جنتلمان» مواجهة الحياة على الحافة

تطرح رواية «سقوط جنتلمان» للكاتب الأميركي هربرت كلايد لويس سؤالاً عن اختبار الإنسان حين يُنتزع فجأةً من سياقه، فيجد نفسه وجهاً لوجهٍ مع الفراغ

منى أبو النصر (القاهرة)

فوز الكاتب البريطاني المجري ديفيد سالوي بجائزة بوكر عن روايته «فلِش»

الكاتب البريطاني المجري ديفيد سالوي بعيد نيله جائزة بوكر البريطانية (أ.ب)
الكاتب البريطاني المجري ديفيد سالوي بعيد نيله جائزة بوكر البريطانية (أ.ب)
TT

فوز الكاتب البريطاني المجري ديفيد سالوي بجائزة بوكر عن روايته «فلِش»

الكاتب البريطاني المجري ديفيد سالوي بعيد نيله جائزة بوكر البريطانية (أ.ب)
الكاتب البريطاني المجري ديفيد سالوي بعيد نيله جائزة بوكر البريطانية (أ.ب)

فاز الكاتب البريطاني المجري ديفيد سالوي الاثنين بجائزة بوكر البريطانية المرموقة التي تكافئ الأعمال الروائية المكتوبة باللغة الإنكليزية، عن روايته «فلِش».

وتفوق سالوي (52 عاما) على الروائية الهندية كيران ديساي التي فازت بالجائزة عام 2006 والبريطاني أندرو ميلر، ليحصل على الجائزة البالغة قيمتها 50 ألف جنيه استرليني (65500 دولار) والتي أعلنت في حفلة بلندن. ومن بين الروائيين الستة الذين تأهلوا الروائية الأميركية وراقصة الباليه السابقة كاتي كيتامورا وبن ماركوفيتس وسوزان تشوي.

وكان سالوي رشِح سابقا للقائمة القصيرة للجائزة عام 2016 عن عمله «آل ذات مان إز». وتدور رواية «فلِش»، وهي السادسة لسالوي، حول رجل مجري من الطبقة العاملة ينتقل من الخدمة العسكرية في وطنه إلى العمل مع أثرى الأثرياء في لندن. وتشمل حياته المعذبة علاقاته بنساء أكبر منه سنا والقتال في العراق.

وتضمنت لجنة التحكيم رئيسها والفائز السابق بالجائزة رودي دويل والممثلة سارة جيسيكا باركر بطلة مسلسل «سكس أند ذي سيتي».


بجسدٍ معطّل وعقلٍ لمّاح... غسان جبرا يُنجز كتاباً يروي رحلته مع الضمور العضلي

أصدر غسان جبرا كتاباً عن رحلته الجسدية والروحية مع الضمور العضلي (الشرق الأوسط)
أصدر غسان جبرا كتاباً عن رحلته الجسدية والروحية مع الضمور العضلي (الشرق الأوسط)
TT

بجسدٍ معطّل وعقلٍ لمّاح... غسان جبرا يُنجز كتاباً يروي رحلته مع الضمور العضلي

أصدر غسان جبرا كتاباً عن رحلته الجسدية والروحية مع الضمور العضلي (الشرق الأوسط)
أصدر غسان جبرا كتاباً عن رحلته الجسدية والروحية مع الضمور العضلي (الشرق الأوسط)

«علمياً وطبياً، لا يجب أن أكون على قيد الحياة. لكن لأنني أحب الحياة فأنا على قيدها، وهذا أعظم إنجازاتي». إنها حكمة غسان جبرا الذي بدأ جسده بالتلاشي قبل أن يبلغ الـ10 من عمره. اليوم، على مشارف الـ40، ما زال الشاب السوري اللبناني يبتسم للحياة من على كرسيّه الكهربائي النقّال المحصّن بأجهزة التنفّس.

الضمور العضلي الذي يعانيه منذ الطفولة لم يهزم ابتسامته ولا فكرَه. فثاني أعظم الإنجازات في رصيده حتى اليوم، كتابٌ نشره قبل أشهر بعنوان «كلمة على ورق». سيرةُ حياةٍ غير اعتيادية رواها جبرا دامجاً ما بين أحداث مفصلية طبعت مشواره، ومعانٍ روحية وإنسانية استقاها من تلك الرحلة المحفوفة بالآلام والآمال.

«كلمة على ورق» تجربة حياة استثنائية يرويها غسان جبرا (الشرق الأوسط)

في بيته الثاني، جمعيّة «أنت أخي» اللبنانية، حيث يقيم ويتلقّى الحب والرعاية والعلاج، عمل جبرا على كتابه خلال 5 سنوات. وبما أنه لا يستطيع تحريك سوى عينَيه وشفتَيه، أملى ذكرياته وخواطره وأفكاره على معاونين ومتطوعين سكبوها على الورق، ثم أعادوا صياغتها.

«أجمل أيام حياتي كان اليوم الذي تلقّيت فيه النسخة الأولى من الكتاب، واكتملت الفرحة خلال حفل التوقيع في معرض بيروت للكتاب»، يخبر جبرا «الشرق الأوسط». في الحفل الذي حضره رفاق غسان وأقرباؤه وزملاؤه في الجمعية وشخصيات إعلامية وثقافية، شعر وكأن الإنجاز ليس فردياً بل لكل فردٍ من عائلة «أنت أخي».

من حفل توقيع كتاب غسان جبرا في معرض بيروت العربي والدولي (جمعية أنت أخي)

طفلاً، بدأت ملامح الضمور العضلي تظهر على غسان. كان يسقط أرضاً ويفقد تدريجياً قدرته على المشي. ومع مرور السنوات وتعطّل العضلات واحدةً تلو أخرى، انتقل إلى مؤسسة «سيسوبيل» التي تعنى بالأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، ومنها لاحقاً إلى «أنت أخي»، حيث تبدّلت الاحتياجات مع تفاقم الإعاقة.

في تلك الآونة، أصبح غسان جبرا أسير الكرسيّ إلا أن أجنحةً بدأت تنبت له. «سقطت كل الأقنعة في المؤسسة. تجرّدت من كل شيء وصرتُ أنا. أصبحت قادراً على أن أتكلّم أكثر عن طفولتي وما عدت أخجل من أصولي السورية ولا من فقري. تحررتُ من نفسي»، يروي الشاب في كتابه. وقد حصل ذلك بفضل التنشئة الحياتية والروحية التي بدأ يتلقّاها.

اختبر غسان جبرا ولادة جديدة في جمعية «أنت أخي» (صور الجمعية)

«تعلّمتُ من خلال التنشئة ألّا أركّز على ما فقدت، بل على ما أملك. وأكبر طاقة موجودة لديّ ولدى كل إنسان، هي طاقة الحب التي لا يستطيع أي شيء أن يمسّ بها، ولا حتى الإعاقة». قد يصعب على كثيرين التصديق أنّ هكذا كلام صادرٌ عن شابٍ لم يعرف من الحياة سوى الألم الجسدي، والبقاء رهينة كرسيّ نقّال طيلة العمر. بين نفَسٍ وآخر يسحبه من أنبوب الأوكسيجين المعلّق بكرسيّه، يقول جبرا: «عندما أدركت ما هي رسالتي على هذه الأرض، تمسكت بالحياة وأردت أن أساعد غيري على المستوى الروحي».

يقضي الضمور العضليّ على كل عضلة في الجسد، بما في ذلك الرئتَان والقلب. أما المصابون به فينخفض متوسط العمر لديهم وغالباً ما يفارقون الحياة في سن الشباب، على غرار ما حصل مع شقيق غسان. كان وقعُ رحيل أخيه (غريب) ثقيلاً عليه، ثم جاء التحدّي الأصعب الذي أدخله في دوّامة من الكآبة والإحباط؛ «حين ما عاد باستطاعتي مضغ الطعام وصار عليّ تناوله مطحوناً، لم أتقبّل الأمر»، يخبر جبرا. إلا أنّ قصة حبٍ جمعته برفيقة له في المؤسسة كانت حبل الخلاص الذي أخرجه من الدوّامة، إذ استطاعت الفتاة إقناعه بأسلوب الأكل الجديد.

مع أحد رفاقه في حفل التوقيع الكتاب (جمعية أنت أخي)

اليوم، لا يملك غسان جبرا سوى صوته المتقطّع للتعبير عمّا يكتنز عقله وروحه. له أيضاً عينان تصّران على الابتسام. أما باقي أعضاء جسده فمعطّل. لا يستطيع أن يقوم بأي شيءٍ بمفرده، لا الأكل ولا الاستحمام ولا التقاطَ غرضٍ ما، وهو يمضي معظم يومه مستلقياً على السرير. لذلك، فإنّ مرافقاً يلازمه ليل نهار، وقد تحوّل هذا الارتباط الوثيق والحيوي بالمرافقين إلى درس حياة بالنسبة إليه، إذ طوّر من خلاله علاقته بالآخرين.

إلا أن أكثر ما حفر في غسان وصنع منه إنساناً جديداً يحلّق بفِكره وروحه فوق جماد الكرسيّ والعضل الذابل، التنشئة الروحية والإنسانية التي تلقّاها في «أنت أخي». تستند التنشئة إلى مبادئ وحقائق وجودية على غرار: «الله يحبني كيفما كنت». يقول غسان إن هكذا حقائق تحولت إلى حصانة في حياته بوجه الصعوبات. وهو صار حالياً جزءاً أساسياً من برنامج التنشئة هذا، بما أنه أحد أهم الشهود على ثمارها.

«لديّ حصة ثابتة في برنامج التنشئة حيث أنقل خبراتي الحياتية والروحية إلى أشخاص أصحّاء ومن ذوي الاحتياجات الخاصة كذلك»، يوضح جبرا.

يهوى غسان جبرا لعبة طاولة الزهر ويحلم بتأسيس مقهى (جمعية أنت أخي)

لديه إيمانٌ راسخ يعبّر عنه في يومياته وفي الكتاب، بأن الحياة حمّلته رسالة يؤدّيها. «فهمت أن رسالتي هي أن أشهد أن الحياة جميلة وتستحق أن نعيشها بالرغم من صعوباتها وتعقيداتها. عندما يرى الآخر أنني سعيد في حياتي، يساعده ذلك على أن يستمر في حياته، كما أفعل أنا». يتابع: «لديّ هدف وحلم أحققه، وهو أن أعكس الفرح والسلام لكل من يراني. علّمتني التنشئة الوجودية أن أعرف دوري ورسالتي في الحياة».

ما زالت الأحلام كثيرة في بال غسان. «أولاً أريد أن أدخل كتاب غينيس كأول شخص يعيش أكبر عدد من السنوات وهو في الحالة هذه». حلمٌ آخر يراوده، بما أنه عاشقٌ للعبة طاولة الزهر أو النرد، فهو يرغب في تأسيس مقهى تراثي يلعب فيه الروّاد النرد، ويتبادلون الأحاديث الإنسانية، ويستمعون إلى تجربته الاستثنائية التي حرمته تحريك الحجارة إلا أنها رمت له زهرَ البصيرة والارتقاء الروحي.


«انتصار العواطف»: الجغرافيا السياسية بين المشاعر والمصالح

دومينيك مويسي
دومينيك مويسي
TT

«انتصار العواطف»: الجغرافيا السياسية بين المشاعر والمصالح

دومينيك مويسي
دومينيك مويسي

بعد خمسة عشر عاماً من طرحه نظرية «صراع العواطف» في كتابه المؤثر «الجغرافيا السياسية للعواطف»، يعود المفكر الفرنسي البارز دومينيك مويسي ليطلق حكماً قاطعاً في عمله الجديد «انتصار العواطف: الجغرافيا السياسية في عصر الاستياء والغضب والخوف». وإذا كان الأول تشخيصاً وتحذيراً، فالأخير يبدو كشهادة استسلام حزينة؛ فالعواطف لم تعد مجرد عامل مؤثر، بل لقد «انتصرت»، والعالم اليوم أقرب بكثير إلى «سيناريو أسوأ الحالات» الذي كان قد تخيله سابقاً.

يأتي «انتصار العواطف» في لحظة فارقة، تتزامن مع عودة الحرب إلى أوروبا، وتصاعد التوتر بين الولايات المتحدة والصين، وتشظي السياسات الداخلية في الديمقراطيات الغربية. يقدم مويسي، الذي يصف نفسه بأنه «واقعي قادر على المثالية»، إطاراً جديداً لفهم هذا العالم المضطرب، متجاوزاً التحليلات التقليدية القائمة على المصالح والقوة العسكرية، ليغوص في محيط المشاعر الجمعية التي، من وجهة نظره، باتت المحرك الرئيسي للأحداث.

ينطلق من فرضية أن الخريطة العاطفية للعالم قد تغيرت وأصبحت أكثر قتامة وتعقيداً. ففي عام 2009، كان «الأمل» قد ملأ آسيا الصاعدة، فيما استحكم «الإذلال» في العالم العربي الإسلامي، وانتشر «الخوف» في الغرب. أما اليوم، فقد تضاعفت هذه المشاعر وتداخلت، وولدت مشاعر أكثر بدائية مثل «الغضب والاستياء، إن لم يكن الحنق والكراهية».

لمواكبة هذا التحول، يقترح النظر إلى العالم بوصفه نظاماً عالمياً ثلاثي الأقطاب، لا يقوم على الجغرافيا الصرفة، بل على حالة عاطفية مشتركة: غرب عالميّ -يضم أميركا الشمالية وأوروبا واليابان وكوريا الجنوبية- تهيمن عليه مشاعر الخوف ويبحث عن طرائق للتكيّف، وشرق عالمي –الصين وروسيا ومعهما دول مارقة في المفهوم الغربي مثل كوريا الشمالية وإيران- تسيطر عليه مشاعر الإذلال والغضب، وجنوب عالمي -يضم القوى الصاعدة مثل الهند والبرازيل ودول أفريقيا- تتصارع فيه مشاعر الأمل والاستياء.

الغرب لم يعد مركز العالم كما كان عليه الحال لقرون. إنه خائف ويتوجس من تراجع نفوذه، وتحديات الهجرة وتغير المناخ، ولكنه مرعوب أكثر من تفككه الداخلي بسبب الاستقطاب السياسي وصعود الشعبوية.

أما الشرق فأُمم تستخدم شعور الإذلال التاريخي سلاحاً لتبرير سياساتها العدوانية -وفق المؤلف دائماً- داخلياً وخارجياً، فيما الجنوب يشعر بالتفاؤل إزاء مستقبله الاقتصادي والديمغرافي، لكنه في الوقت ذاته مستاء بشدة من الغرب بسبب الإرث الاستعماري وازدواجية المعايير التي يراها في النظام الدولي الحالي.

ولعل قوته الأساس تكمن في لغة وأسلوب الصياغة الشخصي الجذاب. فهو لا يتردد في مشاركة المتلقي حكاياته وتجاربه، من نقاش حاد في سنغافورة حول «القيم الآسيوية» إلى إدراكه المفاجئ بعد غزو أوكرانيا أن أصوله ليست «يهودية روسية» بل «يهودية أوكرانية». هذه اللمسات الشخصية تجعل مُنتجه مقالاً طويلاً وممتعاً أكثر منه دراسة أكاديمية جافة، وتمنح أفكاره وزناً إنسانياً يتجاوز مجرد التحليل الجيوسياسي.

كما ينجح ببراعة، في تشخيص أزمة الغرب الداخلية، خصوصاً الانقسام العميق في الولايات المتحدة. تحليله للعلاقة بين هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، واقتحام الكابيتول في 6 يناير (كانون الأول) 2021.

كما يقدم رؤية ثاقبة لكيفية تحول التهديد الخارجي إلى وقود للاستقطاب الداخلي، ووصفه إسرائيل بأنها «طليعة ما يعرّض النموذج الديمقراطي الغربي للخطر» هو كذلك ملاحظة جريئة وقوية من كاتب يهودي.

لكنَّ هذا الأسلوب الشخصي قد يُرى أيضاً بعين التقييم الأكاديمي على أنه مصدر ضعف، إذ يبدو أحياناً تجميعاً لردود فعل مؤلفه العاطفية الداخلية في شكل مكتوب. فالتحليل يعتمد بشكل كبير على انطباعاته ومشاعره، مع غياب شبه تام للأدلة المنهجية أو البيانات المسحية التي تدعم تعميماته الواسعة المطلقة.

يتزامن الكتاب مع عودة شبح الحرب الباردة وتصاعد التوتر بين أميركا والصين وتشظي السياسات الداخلية في الديمقراطيات الغربية

وهنا تحديداً تبرز إشكالية التعميم كأكبر عيب في طروحاته. فهل يمكن حقاً اختزال مشاعر مليارات البشر فيما يسمى «الجنوب العالمي» في كلمتي «الأمل والاستياء»؟ وهل كل دول «الشرق العالمي» غاضبة بنفس الدرجة ولنفس الأسباب؟ إن هذا التبسيط المفرط يخاطر بتحويل كتل بشرية وحضارات معقدة إلى مجرد رسوم كاريكاتورية عاطفية، وهو ما يُضعف من القوة التحليلية للإطار الذي يقترحه، رغم أهميته كمكوّن -على مستوى ما- من مكونات الصورة الكليّة.

العيب الآخر هو المركزية الغربية الواضحة. على الرغم من اعترافه بتراجع هيمنة الغرب، فإن مويسي يظل أسيراً لسردياته. يصف زيلينسكي -الرئيس الأوكراني- بأنه «شبيه تشرشل»، ويرى الحرب في أوكرانيا صراعاً أخلاقياً واضحاً بين ثنائية شديدة التبسيط بين خير وشر، بينما يتعامل مع استياء الجنوب العالمي من الاستعمار على أنها عاطفة طفولية يجب تجاوزها. هذا التحيز، غير المقصود على الأرجح، يجعل من الصعب في مكان أن يكون جسراً حقيقياً لفهم وجهات نظر الآخرين، بل يكرس «الطلاق العاطفي» الذي يسعى لوصفه.

في الخلاصة، «انتصار العواطف» نتاج مهم ومستفز فكرياً، ينجح في التقاط روح العصر المضطرب الذي نعيشه، إذ يبدو أن الهويات والانفعالات تتفوق على النقاشات العقلانية. إنه نافذة ممتازة على عقلية النخبة الليبرالية الأوروبية وهي تحاول فهم عالم يخرج عن سيطرتها، ويتفلت من هيمنتها التاريخية.

ومع ذلك، لا ينبغي قراءته على أنه دليل موضوعي لفهم الجغرافيا السياسية. فضعفه المنهجي وتحيزاته الكامنة يجعلان منه أداة تحليلية محدودة القيمة. ربما يكون الإرث الأكبر له أنه هو نفسه دليل على الظاهرة التي يصفها؛ فهو عمل انتصرت فيه السردية العاطفية للمؤلف على التحليل المنهجي الصارم. «انتصار العواطف» لا غنى عنه لقراءة وفهم نوازع القلق الغربي المعاصر، ولكنه قاصر عن تقديم فهم عميق ومتوازن لبقية العالم.

The Triumph of Emotions: Geopolitics in an Age of Resentment, Anger and Fear

By Dominique Moïsi, Polity Press 2025