قراءة جديدة في الثورة الجزائرية

لقيت إجحافاً متعمَّداً من الكتّاب والمؤرخين الفرنسيين

قراءة جديدة في الثورة الجزائرية
TT
20

قراءة جديدة في الثورة الجزائرية

قراءة جديدة في الثورة الجزائرية

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب «دراسات في ثورة التحرير الجزائرية» (1954 - 1962). وهو مؤلف جماعي يضم مقدمة وخمسة عشر فصلاً لخمسة عشر باحثاً أكاديميّاً عربياً من اختصاصات متنوعة، منها التاريخ وعلم الاجتماع والفلسفة والاقتصاد والأنثروبولوجيا، فضلاً عن ملاحظات ختامية.

ويحاول الكتاب تقديم قراءة جديدة للثورة الجزائرية تلقي الضوء على موضوعات لا تزال مطموسة المعالم في تجربة ثورية قلَّ نظيرها، وشكَّلت منعطفاً تاريخياً لا في تاريخ الجزائر المعاصر فحسب، بل في المنطقة العربية برمتها.

فالثورةُ الجزائرية لا تقلّ أهميةً عن الثورات العالمية الكبرى، لكنّ إجحافاً متعمَّداً لحقها من الكتّاب والمؤرخين الفرنسيين، تمثَّلَ في فصلها عن تاريخ الجزائر الأشمل وعَدِّها «أحداثاً»، أو «حرباً» تجري من خلالها المساواة بين الضحية والجلّاد، متجاهلين بُعدَها التحرري. وفي ذكرى انتصار الثورة الجزائرية الستين، نظم المركز العربي للأبحاث مؤتمراً علمياً عربياً جامعاً، بعنوان «الثورة الجزائرية في ذكرى انتصارها الستين: إعادة قراءة لمسارها، ومكانتها، وما تراكم من سرديات عنها» (عُقد في 28 و29 مايو/ أيار 2022)؛ وجُمعت وحُررت أبرز أوراق المشاركين في هذا المؤتمر، وأضيفت إليها فصول أخرى محكّمة. وتولّى المؤرخان الجزائريان نصر الدين سعيدوني وفاطمة الزهراء قشي تحرير الكتاب تحريراً علمياً.

وأجمع المساهمون على أن الثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي (1954 - 1962) مثلت حدثاً رئيساً في تفكيك المشروع الاستعماري في الشرق والغرب، فتجربتها النضالية ضد الهيمنة الاستعمارية الممتدة منذ القرن التاسع عشر كرَّست قطيعة مع أساليب النضال السابقة؛ إذ جعلت هدفها الاستقلال التام، اعتماداً على طلائع ثورية مصممة على إنهاء الواقع الاستعماري مهما بلغت التضحيات، مع قلة الوسائل المادية واختلال موازين القوى.

ينقسم الكتاب إلى أربعة أقسام. يناقش القسم الأول فلسفة الثورة الجزائرية وبعدها الآيديولوجي. وهو يتعلق بالأبعاد الفكرية والمفهومية والفلسفية والجانب التنظيري لأحداث هذه الثورة وحيثياتها، ويندرج ضمن محاولات تفسير طبيعتها، من خلال طرق موضوعات كانت ولا تزال محل تجاذب بين رؤية الجزائريين للثورة الجزائرية وتقييم الآخرين لها ونظرتهم إليها. ويتضمن هذا القسم ثلاثة فصول: «الثورة الجزائرية من منظور الفلسفة الاجتماعية» للزواوي بغورة، و«مؤتمر الصومام: بين البعد الآيديولوجي والرؤية الاستراتيجية» لناصر الدين سعيدوني، و«الثورة الجزائرية: نشأة نقد الاستشراق وميلاد صراع الحضارات» لياسر درويش جزائرلي.

بعد ذلك، يناقش القسم الثاني موضوع الثورة الجزائرية في الروايات الشفوية والتقارير والكتابات التاريخية؛ إذ يهتم بالجانب التوثيقي في هذه الثورة وبأدبياتها وسردياتها، من خلال الروايات المحلية أو الكتابات الأجنبية أو التقارير الدبلوماسية. ويشتمل هذا القسم على خمسة فصول: «من الذاكرة إلى التاريخ: قراءة في عيّنات من الأبحاث التاريخية في الجزائر» لفاطمة الزهراء قشي، و«الثورة الجزائرية بين القطيعة والتواصل: قراءة في شهادات بعض الفاعلين ومذكراتهم» لأحمد صاري، و«الثورة الجزائرية في اللسان الشعري النسوي في الولاية الثالثة (1954 - 1962)» ليسمينة سعودي، و«إشكالية التأريخ لحرب الجزائر وذاكرتها في فرنسا» لمسعود ديلمي، و«حرب التحرير الجزائرية في التقارير الدبلوماسية والكتابات الأكاديمية الأميركية» لمحمد مزيان.

أما القسم الثالث فيضمّ فصولاً تخص مجالات تفاعل الثورة الجزائرية وتأثيرها في محيطَيها القريب والبعيد، وكلّها تبرز قدرة هذه الثورة على التحكم في معطيات هذا المحيط، وكسب التأييد الدولي، خصوصاً تأييد البلدان المغاربية والعربية، واستمالة القوى العظمى، وكذلك العمل على نقل الثورة إلى ديار المستعمر واستغلال تناقضات المجتمع الفرنسي في فرنسا واستغلالها في الضغط على الحكومة الفرنسية، كما حدث بعد مسيرات 17 أكتوبر/ تشرين الأول 1961. ويضم هذا القسم خمسة فصول، هي: «مظاهرات أكتوبر 1961 وتطور الموقف الفرنسي: من الإنكار إلى الاعتراف» لخالد منّه، و«فرق المهاري الصحراوية في ثورة التحرير: رهان فرنسي لفصل صحراء الجزائر عن شمالها» لأحمد بوسعيد، و«تفاعل الثورة الجزائرية مع محيطها المغاربي (1954 – 1958)» لجمال برجي، و«تفاعل النخب الليبية مع الثورة الجزائرية» لصالح أبو الخير، و«تفاعل فدائيي فلسطين مع الثورة الجزائرية (1954 - 1962)» لبلال محمد شلش.

أخيراً، يتناول القسم الرابع إشكاليات العلاقة بين السياسي والعسكري قُبيْل الثورة الجزائرية وبُعيْدها، أي خلال السنوات التي قادت إلى تفجير الثورة، والتي شهدت تجاذبات بين تيارَي العمل المسلح والعمل السياسي ضمن الحركة الوطنية الجزائرية، وخلال السنوات التي تلت الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي وتأسيس الدولة الجزائرية. ويضم هذا القسم فصلين: «تحوُّل الكفاح الجزائري من النضال السياسي إلى العمل المسلح (1939 - 1954)» لرشيد ولد بوسيافة، و«أزمة صيف 1962: مؤسسات جبهة التحرير الوطني واتفاقيات إيفيان» لعمار محند عامر.

وتقدم خاتمة الكتاب جملة من التأملات بشأن آفاق البحث التاريخي، العابر لاختصاصات العلوم الاجتماعية، في الثورة الجزائرية في ذكرى انتصارها الستين. ويبرز فيها سعيدوني أن موضوعات الكتاب، في مجملها، تظهر تنوع الإشكاليات المتعلقة بهذه الثورة وتشعبها، وغنى المقاربات والمنهجيات. فدراسة أحداث الثورة تمثل فضاءً بحثياً واسعاً لا يزال في حاجة إلى جهود المؤرخين خصوصاً والباحثين في العلوم الاجتماعية والإنسانية عموماً، بخاصة بعد مرور أكثر من ستين عاماً على انتهائها وتوافر المدى الزمني الكافي الذي يتيح للباحثين من الأجيال التي لم تعش أحداثها تناول مواضيعها بمنهجية علمية مجدّدة بعيداً عن الخطاب الحماسي والتسييس، لتقدم وجهة النظر الجزائرية الوطنية الأصيلة، وتخلق نوعاً من التوازن بين الإنتاج الأكاديمي في ضفتَي المتوسط كماً ونوعاً؛ إذ لا تزال الكفّة حتى الآن لفائدة الضفة الشمالية.

يقع الكتاب في ‏‏528 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرساً عامّاً.‏


مقالات ذات صلة

«سيرة الفيض العبثية»... الرواية بوصفها تأريخاً اجتماعياً

ثقافة وفنون «سيرة الفيض العبثية»... الرواية بوصفها تأريخاً اجتماعياً

«سيرة الفيض العبثية»... الرواية بوصفها تأريخاً اجتماعياً

في روايته الأحدث «سيرة الفيض العبثية»، الصادرة عن دار «الفرجاني» في القاهرة، يسعى الروائي الليبي صالح السنوسي لتأريخ مرحلة تاريخية ممتدة في سيرة منطقة «الفيض»

عمر شهريار
ثقافة وفنون رواية عن الزنازين السورية

رواية عن الزنازين السورية

في عمله الروائي الجديد «جدران تنزف ضوءاً»، ينقل الكاتب السوري الكردي ماهر حسن القارئ إلى قلب الزنازين السورية، حيث يتحول المكان الضيق إلى عالم متكامل

«الشرق الأوسط» (برلين)
الولايات المتحدة​ غلاف كتاب «كيرلس بيبول» Careless People (أناس مهمِلون) لسارة وين وليامز (أ.ب)

كتاب مثير للجدل لموظفة سابقة في «ميتا» يتصدر المبيعات في أميركا

تصدّر كتاب لموظفة سابقة في شركة «ميتا» يتناول بطريقة سلبية عدداً كبيراً من المسؤولين في المجموعة الأميركية بينهم مارك زوكربيرغ ، المبيعات في الولايات المتحدة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
كتب  راي كيرزويل

آلاتٌ ذكية قد تنقذنا من غبائنا البشري

يبدو الذكاء الاصطناعي لمعظمنا لعبة فاوستية معاصرة مؤذِنة بانتهاء عصر الإنسان العاقل.

لطفية الدليمي
كتب «أرسطو في ثوبه العربي»... تجليات فلسفية في عصر العباسيين

«أرسطو في ثوبه العربي»... تجليات فلسفية في عصر العباسيين

يتناول كتاب «أرسطو في ثوبه العربي» الصادر عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة للباحث د. عمار العساف تأثر الثقافة العربية في عصر العباسيين.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

«أرسطو في ثوبه العربي»... تجليات فلسفية في عصر العباسيين

«أرسطو في ثوبه العربي»... تجليات فلسفية في عصر العباسيين
TT
20

«أرسطو في ثوبه العربي»... تجليات فلسفية في عصر العباسيين

«أرسطو في ثوبه العربي»... تجليات فلسفية في عصر العباسيين

يتناول كتاب «أرسطو في ثوبه العربي» الصادر عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة للباحث د. عمار العساف تأثر الثقافة العربية في عصر العباسيين، نتيجة حركة الترجمة الهائلة، بفكر الفيلسوف اليوناني المعلم أرسطو، لا سيما فيما يتعلق بأفكاره في المنطق والجدل والمحاججة، فضلاً عن تصوراته لدور الإنسان والحيوان على كوكب الأرض.

ويشير المؤلف إلى أن شخصية أرسطو لم تكن مجهولة تماماً قبل العصر العباسي، بل كانت حاضرة في الثقافة العربية وإن بصورة مختلفة عما هي عليه في الواقع، فقد رُسمت له صورة أسطورية تبالغ في قدراته السياسية باعتباره وزير الإسكندر المقدوني الذي يجمع بين الحكمة والدهاء.

وفي بداية العصر العباسي، تُرجمت مؤلفات أرسطو الأخرى وبذلك نضجت صورته حكيماً وفيلسوفاً ومنطقياً ليجسد شخصية العالم الموسوعي الذي تخطى حدود التخصص، فكان له من كل علم نصيب وتعاظمت شهرته شيئاً فشيئاً حتى أضحى شخصية مرموقة عند العرب.

ولم يلق تعاظم تأثيره العربي مقاومة في البداية، لأن نتاجه لم يوظف في القضايا ذات الصبغة الفقهية، بيد أن سياسة الخليفة المأمون التي اتبعها في الحكم أثرت في موقف العرب من أرسطو، فقد تم إقحام المنطق في البحوث والقضايا الفقهية فأصبح الفيلسوف الإغريقي بمثابة المرجع الأول في الجدل والحوار حتى في المسائل شبه الدينية التي اتسم البحث فيها بالطابع العقلاني والأسس المنطقية.

في عهد المأمون تحديداً، حاول البعض استنتاج الأحكام الفقهية انطلاقاً من أسس فلسفية ومرجعيات منطقية وكان ذلك مصدر قلق للفقهاء ومنهم الإمام الشافعي الذي كان أول من عبر عن قلقه من تعاظم دور أرسطو في العالم العربي، فأراد أن ينأى بالفقه عن نتاج المنطق، وقام بوضع الأساس العلمي والديني لعلم أصول الفقه.

بذلك كان الشافعي أول من وضع حداً لتدخل المنطق الأرسطي في القضايا التي كان يخوضها المعتزلة الذين استلهموا تراث اليونان، وراحوا يتناقشون في قضاياه، ويمزجون بينها وبين شواغل الفقه الإسلامي.

ويكشف المؤلف كيف كان الجاحظ في كتابه الرائد «البيان والتبيين»، الذي يبرز فيه مزايا البلاغة العربية وتفوقها على غيرها، على دراية كافية بأفكار أرسطو حتى أنه هاجمه شخصياً، واتهمه بعدم البلاغة وعدم الفصاحة قائلاً: «ولليونانيين فلسفة وصناعة ومنطق، وكان صاحب المنطق نفسه بكيّ اللسان، غير موصوف بالبيان، مع علمه بتمييز الكلام وتفصيله ومعانيه وبخصائصه».

وحسب الجاحظ، فإن أرسطو لم يكن يهتم بالإجادة الفنية في كتاباته كأفلاطون مثلاً، وإنما كان عالماً قبل كل شيء، يهجم على موضوعه هجوماً دون أن يدور حوله بالحوار والمناقشة، ويُعنى بالفكرة قبل أن يُعنى باللفظ الذي يصوغها فيه. ومن هنا لم تكن كتب أرسطو ككتب أفلاطون نموذجاً فنياً للإجادة البلاغية، وإنما هي نموذج خالد للإجادة في البحث العقلي. ولكن هذا لا يعني أن أرسطو، كما يقول المؤلف، لم يكن يعي فنون البلاغة، فهو صاحب فلسفة ومنطق بالأخير، وجل ما يقصده الجاحظ التأكيد على عدم اكتراثه بترصيع الكلام وزخرفته.

واشتد عود أنصار اليونانيين في القرن الرابع الهجري، لا سيما بعد أن استوعبوا نتاج أرسطو فبدأوا بالترويج لمؤلفاته وعقدوا الحلقات الأدبية وتدارسوا الموضوعات الفلسفية والمنطقية والأدبية في تراثه. واستفاد هؤلاء من المنطق الأرسطي في نثرهم الفني ومناظراتهم التي انتعشت في العصر العباسي. واكتسب المتناظر أداة فعالة في إفحام الخصوم، كما استخدم بعض المتناظرين القياس المضمر فكان سلاحاً عظيماً في المناظرات التي مالت إلى التفكير المجرد. وكان من نتائج ذلك أن أصبح «التلوين العقلي» صفة لبلاغة المتناظرين وسمة تميزهم عن غيرهم.

واستلهم بعض مشاهير النثر العربي موضوعات عديدة ومتنوعة من مؤلفات أرسطو، فكتب التوحيدي عن «الصداقة» متأثراً بمفهوم الفيلسوف الإغريقي عنها، كما كتب نوادر عن عالم الحيوان فأكثر من النقل من كتاب أرسطو «الحيوان». ولم يكتف بعضهم بهذا النقل، وإنما استلهم أفكاراً كاملة من أرسطو مثلما فعل مسكويه عندما وضع كتاب «تهذيب الأخلاق»، محاكياً بذلك أرسطو في كتاب «الأخلاق».