أنسي الحاج... الصمت الناطق

«نفسي ليست صحراء»... عودة إلى زمن الحداثة الشعرية

أنسي الحاج
أنسي الحاج
TT

أنسي الحاج... الصمت الناطق

أنسي الحاج
أنسي الحاج

غادرنا أنسي الحاج قبل عقد ونيف، ولا يزال مريدوه ومحبوه يكتبون عنه ويقيمون له الاحتفاليات ويعيدون قراءة شعره ومساره وتأثيره على الحركة الشعرية. والكتاب الذي أصدره الشاعر إسكندر حبش عن «دار نلسن» بعنوان «نفسي ليست صحراء» يأتي في هذا السياق الاستعادي لشاعر «لن». فهو يتضمن مقابلتين طويلتين، كان قد أجراهما حبش مع أنسي الحاج، ونُشرتا في جريدة «السفير» التي توقفت عن الصدور، وأصبحت من الماضي، كما أنه يُلقي الضوء على بعض المعلومات الخاصة عن الشاعر، وطريقة تعاطيه مع المقابلات الصحافية. وفي الكتاب مقالتان، إحداهما عن أعمال أنسي الحاج، بعد أن أعادت «دار الجديد»، نشر كلّ كتبه التي سبقت «الوليمة»، وأخرى عن اللقاء الذي نظمته «دار نلسن» واجتمع له من تبقى من شعراء مجلة «شعر» حينها. وفي الختام «التحية» الوداعية، التي نشرها حبش غداة رحيل الشاعر.

غلاف الكتاب

مقابلتان ومقالتان

الحواران نُشرا في الكتاب، كما في «السفير»، ولم يخضعا لأي تعديلات، رغم أن التسجيل الصوتي لا يزال موجوداً. حبش أراد أن يبقى أميناً لرغبة أنسي الحاج، الذي حرص كعاداته في كل مقابلاته، على أن يقرأ النص قبل نشره، فيحذف ويضيف ويغيِّر وقد يختصر. ورغم أن حبش راودته نفسه أن يعود إلى تسجيلاته وينقذ ما حُذف منها فإنه يقول: خلصت إلى «أنني لن أتصرف إلا وفق رغبته (التي وافقت عليها مسبقاً قبل إجراء الحوارين)، من حيث نشر ما أراد هو أن يقوله، ومن حيث إيصال ما كان يرغب في إيصاله فقط».

يشرح الكاتب في مقدمته ظروف تعارفه بأنسى الحاج، وأن لقاءات عدة جمعت بينهما، وفي جعبته كثير مما يمكن أن يكتبه عن شخص الشاعر وما عرفه عنه، إلا أنه يترك البوح بما يعرف، ربما لمرات أخرى.

الصمت عن الشعر

قبل الحرب الأهلية (1975) كان أنسي الحاج كاتباً مُكْثراً؛ يكتب مقالاً أسبوعياً، ونشر خمس مجموعات، في فترة زمنية قصيرة نسبياً، لكنه دخل بعد ذلك في صمت طويل، استمر 17 عاماً، وانتهى بإصدار «خواتم» عام 1991، ليشكل «حدثاً استثنائياً». والفضل في هذه العودة التي لقيت احتفاء في الوسط الثقافي، يرجع إلى رياض الريس الذي أقنع أنسي بالكتابة في مجلته «الناقد». وما «خواتم» إلا حصيلة ما كتبه أنسي خلال هذه الفترة.

كان صمتاً عن النشر إذن، أكثر مما هو غياب عن الكتابة، علّله الشاعر بالحرب الأهلية التي طرحت عليه سؤالاً كبيراً حول جدوى الكتابة، في ظلّ القتل والدمار اللذين كانا يلفّان لبنان.

منذ عام 1975 لم يجمع أنسي الحاج قصائده في كتاب. صمتٌ عن الشعر، لكنه لم يكن متوقفاً عن الكتابة. «الشاعر كان لا يزال شاعراً، والعبارة لم تختلف عن العبارة بكل ما تحمله من حقد وحب، وقساوة وحنوٍّ، وصراخ وسكينة. عبارة مُشرّعة على انفجارات داخلية، يعرف الشاعر متى يدعها تَنعَم بالغفران».

من لقاءات مجلة شعر

صدمة الحرب

يشرح الشاعر: «لم أسكت لأنني ضائع، بل لأنني اضطُررت إلى إلهاء نفسي باختراعات كثيرة لأغيبَ عن وعي هذه الحالة التي كنت فيها. كان هناك موت. كان هناك استمرار للصَّلْب ما قبل الموت. لو كان موتاً لارتحت. كنت ميتاً وفي الوقت نفسه لم أرتح».

شكَّلت الحرب صدمةً كبرى للشاعر الصاعد كالسهم، يرى أنها دمَّرت أوهامه وأحلامه «لأن الحرب عكس الحلم». ثم كيف لا يتغير وتتبدل كتابته والحروب أظهرت أن الأحداث هي عملية تزوير ضخمة؟ لا يريد المشاركة فيها، لأنها كذبة كبيرة. «حرب الخليج؛ ألم تكن كذبة عالمية لضرب العراق والكويت معاً؟ ليس لي أمام هذا التاريخ إلا وقفة احتقار».

وهو ما يفسّر، ربما، أن نصوص «خواتم» جاءت مختلفة عن سابقاتها. فبعد الشعر الذي كتبه أنسي في المرحلة الأولى، جاءت المقالة الصحافية، ثم في مرحلة ثالثة، حسب حبش، كان هذا النمط الكتابي الذي رافقه حتى النهاية.

«خواتم» التفكير في الوجود

ويصف حبش هذه الكتابة بأنها عبارة عن «شذرات تملك في قوة اختصارها طاقةً واسعةً، لا على الحلم فقط بل على قول الذي لا يُقال؛ كأن كلّ جملة فيها تأتي من اختصارات كتب شتى، من تجارب متراكمة، لتصل مباشرةً إلى غاية القول». هكذا يبدو أن كلّ ما كتبه أنسي الحاج، في «خواتم»، «كان هدفه إعادة التفكير في هذا الوجود - الحياة، ليعيد صوغه وفق رؤى، تراكَم فيها العمر، والخبرة والتجربة الطويلة».

هذا يشرحه أنسي نفسه معتبراً أنه لا يقوم بمحاولة كتابية جديدة في الشكل فقط: «إن دوافعي النفسية هي التي تُملي عليَّ تغيير نمط حياتي... أحبّ أن أجدد نفسي دائماً، وليس ذلك في سبيل القارئ، وإنما من أجل ذاتي، لأنني أملّ الأشياء التي كتبتها».

أين ذهبت الكتابة المجنونة؟

لكنه لم يكن سعيداً بهذا النمط الثالث الذي يتحدث عنه حبش، ويرى أن أسلوبه تغير كثيراً ولم تعد لديه الحماسة بنفس زخمها. يستذكر الكتابات الأولى بشيء من الحزن: «كانت كتابتي مجنونة، والآن لم تعد كذلك. كتاباتي الآن فيها كثير من الألم. مليئة بالجرح والخوف الشديد. خوفي من الوجود. كنا نقف على ألغام الحياة ولم نكن نعرف ذلك... حين أكتب اليوم، أعمل جاهداً حتى أستعيد تلك اللحظات التي كنت فيها قبلاً...».

لافتٌ أيضاً أن يُنكر كل ما قيل عنه من أنه شاعر «متمرد»، «مارق»، حين روَّج لقصيدة النثر: «لمّا كتبت قصيدة النثر، لم يكن همي التمرد أو التغيير، كنت أرغب في أن أكون أميناً لنفسي لا أكثر ولا أقل، بدليل أنه حين اقتضت نفسي السكوت سكتُّ ولم أكتب. فالصمت ليس لديه أي صورة كتابية». لا، بل ينفي أنه كان يلاحق التيارات الكتابية في العالم، أو يتأثر بها كما كتب تكراراً. أكثر من ذلك، في اعتراف جريء للغاية، يبوح بأنه قرأ كثيراً في فترة الصمت صحيح. لكن «أعترف... لم أقرأ، في الماضي، إلا القليل جداً من الشعر الذي كنا نتحدث عنه كل الوقت ونتجاذب أطراف النقاش والتخاصم حوله مع النقاد والشعراء». عمَّ كان يدور النقاش إذن؟ وهل روادنا كانوا يتحدثون عمّا لا يعلمون؟

الأب الشرعي الوحيد

وحين يُسأل إن كان يعجبه أن يُدعى «الأب الشرعي الوحيد» لقصيدة النثر، منذ ظهور ديوان «لن»، يجيب بأنه لا يعتقد أن ما يُنسَب إليه صحيح، ومع ذلك «شيء واحد يعجبني... هو أنه تبنٍّ لكائن لم يكن ولم يصبح وأرجو ألا يصير، كائن (شرعي) في معنى الارتباط بمؤسسة الواقع والانتماء إلى عالم المصنفات المحنطة». وذلك لأنه يريد هذه القصيدة كائناً متمرداً، «يستمد وجوده من محض الشّعر، من محض التجربة، بلا مرجع غير ذاته وذات قارئه - الذات المتواجهة مع شياطينها».

عام 1993، أي بعد عامين من الحوار الأول، يصدر «الوليمة» الذي هو عودة إلى الشعر وينابيعه. «هو هنا، يعود إلى العين، إلى الأحلام، إلى الوعي، إلى اللاوعي، أي يعود إلى كل ما شكَّل غاباته وكهوفه»، فيما «خواتم» كان نصوصاً تقترب من الشعر، وتلامس الحكمة والتأمل.

شاعر غير محترف

بهذه المناسبة يطلب حبش من أنسي لقاءً صحافياً ثانياً، فيسارع إلى الموافقة. وكان قد عاد وقتها إلى العمل في جريدة «النهار»، لا لقناعة في نفسه بل لأنه لا يجيد فعل أي عمل آخر، كما كان يقول.

يحاول أنسي أن يشرح أنه ليس محترف كتابة شعر، بدليل أن مسافة زمنية كانت تفصل بين المجموعة والمجموعة، كما بين القصيدة والقصيدة. وها هو يعود من جديد: «حتى لا أظل أسمع سؤال: لماذا توقفت عن الكتابة؟ ولكن الآن، إذا ظل يلاحقني سؤال: لماذا عُدْتَ إلى الكتابة؟ فقد يكون الحل هو التوقف مجدداً».

وإذا كان أنسي يبدو كأنه يحب فك ارتباطه بكل ما حوله ولا يُبدي حماسة للدفاع عن شيء، فهو يدافع عن الشّعر العربي الحديث، ويرى أنه «هو الذي خلق اللغة التي يحاول بها إنسان العالم العربي اليوم أن يخرج من القبور ويدخل في صميم الحياة».

وهي لغة تصلح للوصول إلى الذات، وليست بالضرورة لإرضاء الآخر: «ما أكتبه، أكتبه ليُرضيني أولاً وأخيراً. وإذا أرضاني، فلماذا لا يُرضي سواي؟ أقصد قارئاً يشبهني، أو يكرهني، أو يحبني أكثر مما أحبه. في شِعري لا يعنيني قارئ الجريدة، ولا الأديب (العمومي)، ولا مثقف (الاختصاص)».

وهو إذ يبدو متبرماً، إلا أنه يرفض اليأس، يقول: «نفسي ليست صحراء... والأمل يومض ما دمت قادراً على الألم وعلى الحب».

حواران نُشرا في الكتاب، كما في «السفير»، لم يخضعا لأي تعديلات، رغم أن التسجيل الصوتي لا يزال موجوداً

بوح حول مجلة «شعر»

في الجزء المخصص للقاء مجلة «شعر»، يوم اجتمع مَن تبقى من شعرائها في بيروت، بمناسبة إعادة إصدار العدد الأول، نجد كل منهم يغمز من قناة الآخر. وهو ما لا يشبه في شيء الصورة الرومانسية التي تشكلت حول هؤلاء الرواد، ومجلة «شعر» تحديداً. أدونيس يقول: «أشك في أن يكون أحدنا كان يحب الآخر». أما أنسي الحاج فيقيم مراجعة صادمة: «لم يكن عندي الدور الكبير في المجلة، وأنا نادم على الجانب الذي ساهمت فيه. لذلك أشعر اليوم بفرح المغلوب على أمره، هو فرح كاذب... ربما سيأتي وقت يتخطانا فيه الجميع. هذا إن لم يكن قد تم تخطّينا». رياض الريس ليس أقل صراحةً، إذ يرى أنه كان «كومبارساً في المجلة، وسط حفنة من الشعراء، كانوا يجلسون في البلكون، أما أنا فكنت أجلس في الصالة». معترفاً بأن ما ربطه بالمجلة هو يوسف الخال.

يوسف الخال هو جامع الشمل، كما قال فؤاد رفقة، معلناً في خبر غير منتظر، أن قبره لم يعد موجوداً. أما أدونيس فقد وجد أن شخصية يوسف الخال «كانت شخصية مختلفاً عليها شعرياً فيما بيننا، وهو لم يكن رائياً شعرياً متميزاً فحسب بل كان رائياً ثقافياً أيضاً». أما شوقي أبي شقرا الذي كان يعد نفسه سبق الجميع إلى كتابة قصيدة النثر، فقد استعاد في كلمته روح مجلة «شعر» التي كانت تجد امتدادها مع روح العصر وروح يوسف الخال. هؤلاء الشعراء في غالبيتهم رحلوا، لكنهم في ذاك اللقاء يبدو أنهم نعوا مجلتهم، كأنهم يتبرأون منها.

كتاب جديد عن أنسي الحاج، يرمي حجراً في مياه الحداثة الشعرية وركودها الذي طال.


مقالات ذات صلة

ما سر الإقبال على روايات الطبيبة المتخفية وراء اسم مستعار؟

كتب أغلفة بعض روايات فريدا ماكفادن

ما سر الإقبال على روايات الطبيبة المتخفية وراء اسم مستعار؟

هل يعني تصدر قوائم «البيست سيلر» بالضرورة أننا أمام عمل أدبي يزخر بالعمق الفني، والجمال اللغوي، والأصالة الفكرية؟

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «ليس عزاءً بل ضوءاً»... استعادة فلسفة سيمون فاي

«ليس عزاءً بل ضوءاً»... استعادة فلسفة سيمون فاي

يطرح الكاتب المصري مينا ناجي سؤالاً مركزياً هو: «كيف نحب في حياة صعبة كهذه؟»، ليتأمل في ظواهر الحب والروحانيات والتاريخ

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب رحلة البحث عن أمل ضائع

رحلة البحث عن أمل ضائع

في وقت مضى، ليس بعيداً، كتبتُ مقالة بعنوان «زمن الرواية الليبية» نشرت في موقع صحيفة «بوابة الوسط».

جمعة بوكليب
ثقافة وفنون مشهد من فيلم «الختم السابع»

«الحبكة المقدسة»... السينما والثقافة الأخلاقية

يناقش كتاب «الحبكة المقدسة»، الصادر عن دار «إيبيدي» بالقاهرة، للباحث أسعد سليم، تناول الشاشة الفضية للموضوعات ذات البعد الديني الأخلاقي

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون «مدائح تائهة»... نصّ يتمرد على التصنيفات الأدبية

«مدائح تائهة»... نصّ يتمرد على التصنيفات الأدبية

«الإنسان حيوان مدّاح»، يقول رائد العيد في كتابه الجديد «مدائح تائهة»، عادَّاً أن «تأمل الأشياء من حولنا نوع من ممارسة الخشوع»

سوسن الأبطح (بيروت)

ما سر الإقبال على روايات الطبيبة المتخفية وراء اسم مستعار؟

أغلفة بعض روايات فريدا ماكفادن
أغلفة بعض روايات فريدا ماكفادن
TT

ما سر الإقبال على روايات الطبيبة المتخفية وراء اسم مستعار؟

أغلفة بعض روايات فريدا ماكفادن
أغلفة بعض روايات فريدا ماكفادن

هل يعني تصدر قوائم «البيست سيلر» بالضرورة أننا أمام عمل أدبي يزخر بالعمق الفني، والجمال اللغوي، والأصالة الفكرية؟ قطعاً لا، فمفهوم «الرواج» قد انفصل في عصرنا هذا عن معيار «الجودة الأدبية»، وغالباً ما أصبح يعكس استجابة لمتطلبات السوق وتوقعات القارئ الباحث عن الترفيه السريع والتشويق العابر. في سياق هذا الجدل الدائر حول العلاقة بين الرواج التجاري والقيمة الأدبية، تبرز أسماء معينة لتُشكل حالة لافتة، من بينها حالة الكاتبة الأميركية فريدا ماكفادن التي استطاعت في سنوات قليلة أن تُحقق نجاحاً ساحقاً، وتُسيطر على قوائم الكتب الأكثر مبيعاً برواياتها التي تنتمي إلى أدب التشويق النفسي.

الأرقام التي تتداولها وسائل الإعلام تبدو خرافية: 40 مليون نسخة من روايتها بيعت في العالم منذ 2022، منها 7 ملايين باللغة الإنجليزية و3 ملايين باللغة الفرنسية. روايتها الشهيرة «الخادمة» (أو ثي هاوس مايد) احتلت صدارة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في موقع «أمازون» لمدة 83 أسبوعاً على التوالي و60 أسبوعاً في قائمة «النيويورك تايمز» المرموقة. في فرنسا وبلجيكا يبقى الإقبال قويّاً على أعمالها منذ صدور «الخادمة»: إحصاءات معهد «جي إف كا» مع صحيفة «ليفر إبدو» تتحدث عن 30 ألف نسخة تباع أسبوعياً. في 2024، كتاب من بين كل كتابين بيعا في فرنسا كانا من إمضاء فريدا ماكفادن، علماً بأن هذه الأرقام مرشّحة للارتفاع بعد صدور روايتها الأخيرة «الطبيبة النفسية» في أبريل (نيسان) الماضي.

الظاهرة أثارت اهتمام الصحافة الأدبية التي لم تستوعب سرّ هذا النجاح، فعلى الرغم من النجاح الجماهيري اللافت الذي حققته فريدا ماكفادن، لم تَسلم أعمالها من النقد الذي طال جوانب بنيوية وفنية في رواياتها. فقد رأى بعض النقاد أنها تميل إلى التكرار في البناء السّردي مما يجعل نهايات قصّصها متوقعة لدى القارئ المتمرّس، في حين تبدو بعض الحبكات قائمة على عنصر المفاجأة المجردة من العمق الدرامي. كما وُجهت لها ملحوظات بشأن سطحية رسم الشخصيات، إذ تفتقر في بعض الأحيان إلى تقديم دوافع نفسية متينة، مما يُضعف من واقعية أبطالها ويُقلل من قدرة القارئ على التماهي معهم.

أما على مستوى اللغة، فقد اعتُبر أسلوبها مباشراً إلى حدّ التبسيط، يفتقر إلى المجاز والرمزية التي تُثري الأدب النفسي، وهو ما يجعل بعض رواياتها تبدو أقرب إلى القراءة السريعة منها إلى التأمل الأدبي العميق.

يُضاف إلى ذلك، اعتمادها المتكرر على قوالب نمطية مألوفة في أدب التشويق، مثل «الزوجة الغامضة» و«المنزل المريب»، ما أثار تساؤلات حول مدى التجديد والابتكار في أعمالها... صحيفة «نوفيل أبسورفاتور» تساءلت بمرارة: «فريدا ماكفادن تكتسح سوق الكتب، لكن ما الذي يجده القرّاء فيها؟»، وبعد حوارات مع العديد من قرّائها وصل كاتب المقال إلى النتيجة التالية: من أسرار رواج ماكفادن قدرتها على الوصول إلى جمهور واسع، بدءاً من الشباب ووصولاً إلى كبار السّن بقصّص تلامس الهموم الإنسانية المشتركة كالوحدة والتوتر النفسي والانفصال والفقر. لكن الصحيفة الفرنسية ركزّت على عنصر مهم هو إتقان الكاتبة لفن التلاعب بالقارئ وبراعتها في فن الحبكة الدرامية القائمة على التشويق التدريجي، فهي لا تكتفي ببناء قصّة مشوقة فحسب، بل تُتقن فن قلب التوقعات، حيث تأتي النهاية محمّلة بانعطافات درامية غير متوقعة تغيّر فهم القارئ لما قرأه من قبل. هذا الأسلوب يجعل القارئ يعيد التفكير في الأحداث السابقة من منظور جديد، مما يمنح الرواية عمقاً إضافياً ويزيد من تأثيرها العاطفي والنفسي.

أما صحيفة «ليبراسيون»، فقد وصفت أعمالها بأنها «روايات تُلتهم مثل الوجبات السريعة»، بينما شبّهتها «لو فيغارو» بـ«أدب المحطة» في إشارة إلى أسلوبها البسيط، فخلافاً لكثير من الكتّاب الذين يستخدمون وصفاً مطوّلاً، تعتمد ماكفادن على سرّد مباشر وسهل الفهم. جملها قصيرة، وأسلوبها خالٍ من الزخرفة أو التعقيد، مما يجعل القارئ يدخل في قلب القصة بسرعة، ويشعر وكأنه يقرأ تفاصيل حياة حقيقية وليست مجرد رواية خيالية. هذا الأسلوب البسيط هو ما يمنح أعمالها قوةً وتأثيراً نفسياً كبيراً، لأن القارئ لا ينشغل باللغة أو الأسلوب، بل يركّز على القصة والأحداث. كثير من التقارير أشارت إلى الدور المحوري الذي تلعبه مجتمعات القراءة الرقمية ومنصّات التواصل الاجتماعي في انتشار أعمالها، كمراجعات القرّاء التي تُترك على منصّة «غود ريدس» و«أمازون»، التي لا تقّل أهمية عن المراجعات النقدية الأكاديمية، حيث تساهم بشكل كبير في بناء سمعة الكاتب، إضافة إلى التفاعل الجماهيري المستمر مع القرّاء عبر منصّات مثل «إنستغرام» و«فيسبوك» وخصوصاً «تيك توك» من خلال ما يُعرف بـ«البوك توك» (BookTok)، وهي مجتمعات رقمية يتداول فيها القراء ترشيحات الكتب بطريقة جذابة، مما ساهم في تضاعف مبيعاتها وانتشار اسمها عالمياً.

40 مليون نسخة من روايات ماكفادن بيعت في العالم منذ 2022 منها 7 ملايين باللغة الإنجليزية و3 ملايين بالفرنسية

البعض عدَّ أن التسويق الذكي الذي حظيت به أعمال ماكفادن كان فعالاً وهو يبدأ من الغموض الذي يكتنف شخصية الكاتبة نفسها، الذي أصبح بمثابة «علامتها التجارية». فخلف الاسم المستعار (والشعر المستعار) تُخبئ الكاتبة هويتها الحقيقية كطبيبة متخصّصة في إصابات الدماغ، وكل ما يعرف عنها أنها تسكن مدينة بوسطن مع زوجها وولديها، فهي ترفض باستمرار دعوات الظهور في المعارض الأدبية الكبرى، وتتجنب المقابلات الصحافية حتى شكّكك البعض في وجودها ولمحوا إلى احتمال أن تكون من ابتكار الذكاء الاصطناعي.

في حوار نادر عبر الهاتف لصحيفة «لوبرزيان»، قالت الكاتبة الأميركية إنها تتفادى صخب الصحافة وأضواء الشهرة لأنها تعاني من الفوبيا الاجتماعية، وتُفضل أن تكون «الكاتبة» التي تُقرأ أعمالها، لا «الشخصية العامة» التي تُلاحقها الكاميرات وتُحلل حياتها الشخصية.

كانت الكاتبة الأميركية قد بدأت مسيرتها الأدبية عام 2013 بكتابة مدونات شخصية، وفي عام 2013، نشرت روايتها الأولى «الشيطان يرتدي ملابس العمل» مستلهمةً إياها من عملها طبيبةً، ثم واصلت نشر أعمالها في منصات التواصل و«أمازون»، حتى جاءت نقطة التحول الكبرى في عام 2019 مع رواية «الخادمة» التي حققت نجاحاً هائلاً غير مسبوق عند نشرها ورقياً في عام 2022. هذا النجاح دفع دور النشر الكبرى للاهتمام بأعمالها السابقة واللاحقة.