أنسي الحاج... الصمت الناطق

«نفسي ليست صحراء»... عودة إلى زمن الحداثة الشعرية

أنسي الحاج
أنسي الحاج
TT

أنسي الحاج... الصمت الناطق

أنسي الحاج
أنسي الحاج

غادرنا أنسي الحاج قبل عقد ونيف، ولا يزال مريدوه ومحبوه يكتبون عنه ويقيمون له الاحتفاليات ويعيدون قراءة شعره ومساره وتأثيره على الحركة الشعرية. والكتاب الذي أصدره الشاعر إسكندر حبش عن «دار نلسن» بعنوان «نفسي ليست صحراء» يأتي في هذا السياق الاستعادي لشاعر «لن». فهو يتضمن مقابلتين طويلتين، كان قد أجراهما حبش مع أنسي الحاج، ونُشرتا في جريدة «السفير» التي توقفت عن الصدور، وأصبحت من الماضي، كما أنه يُلقي الضوء على بعض المعلومات الخاصة عن الشاعر، وطريقة تعاطيه مع المقابلات الصحافية. وفي الكتاب مقالتان، إحداهما عن أعمال أنسي الحاج، بعد أن أعادت «دار الجديد»، نشر كلّ كتبه التي سبقت «الوليمة»، وأخرى عن اللقاء الذي نظمته «دار نلسن» واجتمع له من تبقى من شعراء مجلة «شعر» حينها. وفي الختام «التحية» الوداعية، التي نشرها حبش غداة رحيل الشاعر.

غلاف الكتاب

مقابلتان ومقالتان

الحواران نُشرا في الكتاب، كما في «السفير»، ولم يخضعا لأي تعديلات، رغم أن التسجيل الصوتي لا يزال موجوداً. حبش أراد أن يبقى أميناً لرغبة أنسي الحاج، الذي حرص كعاداته في كل مقابلاته، على أن يقرأ النص قبل نشره، فيحذف ويضيف ويغيِّر وقد يختصر. ورغم أن حبش راودته نفسه أن يعود إلى تسجيلاته وينقذ ما حُذف منها فإنه يقول: خلصت إلى «أنني لن أتصرف إلا وفق رغبته (التي وافقت عليها مسبقاً قبل إجراء الحوارين)، من حيث نشر ما أراد هو أن يقوله، ومن حيث إيصال ما كان يرغب في إيصاله فقط».

يشرح الكاتب في مقدمته ظروف تعارفه بأنسى الحاج، وأن لقاءات عدة جمعت بينهما، وفي جعبته كثير مما يمكن أن يكتبه عن شخص الشاعر وما عرفه عنه، إلا أنه يترك البوح بما يعرف، ربما لمرات أخرى.

الصمت عن الشعر

قبل الحرب الأهلية (1975) كان أنسي الحاج كاتباً مُكْثراً؛ يكتب مقالاً أسبوعياً، ونشر خمس مجموعات، في فترة زمنية قصيرة نسبياً، لكنه دخل بعد ذلك في صمت طويل، استمر 17 عاماً، وانتهى بإصدار «خواتم» عام 1991، ليشكل «حدثاً استثنائياً». والفضل في هذه العودة التي لقيت احتفاء في الوسط الثقافي، يرجع إلى رياض الريس الذي أقنع أنسي بالكتابة في مجلته «الناقد». وما «خواتم» إلا حصيلة ما كتبه أنسي خلال هذه الفترة.

كان صمتاً عن النشر إذن، أكثر مما هو غياب عن الكتابة، علّله الشاعر بالحرب الأهلية التي طرحت عليه سؤالاً كبيراً حول جدوى الكتابة، في ظلّ القتل والدمار اللذين كانا يلفّان لبنان.

منذ عام 1975 لم يجمع أنسي الحاج قصائده في كتاب. صمتٌ عن الشعر، لكنه لم يكن متوقفاً عن الكتابة. «الشاعر كان لا يزال شاعراً، والعبارة لم تختلف عن العبارة بكل ما تحمله من حقد وحب، وقساوة وحنوٍّ، وصراخ وسكينة. عبارة مُشرّعة على انفجارات داخلية، يعرف الشاعر متى يدعها تَنعَم بالغفران».

من لقاءات مجلة شعر

صدمة الحرب

يشرح الشاعر: «لم أسكت لأنني ضائع، بل لأنني اضطُررت إلى إلهاء نفسي باختراعات كثيرة لأغيبَ عن وعي هذه الحالة التي كنت فيها. كان هناك موت. كان هناك استمرار للصَّلْب ما قبل الموت. لو كان موتاً لارتحت. كنت ميتاً وفي الوقت نفسه لم أرتح».

شكَّلت الحرب صدمةً كبرى للشاعر الصاعد كالسهم، يرى أنها دمَّرت أوهامه وأحلامه «لأن الحرب عكس الحلم». ثم كيف لا يتغير وتتبدل كتابته والحروب أظهرت أن الأحداث هي عملية تزوير ضخمة؟ لا يريد المشاركة فيها، لأنها كذبة كبيرة. «حرب الخليج؛ ألم تكن كذبة عالمية لضرب العراق والكويت معاً؟ ليس لي أمام هذا التاريخ إلا وقفة احتقار».

وهو ما يفسّر، ربما، أن نصوص «خواتم» جاءت مختلفة عن سابقاتها. فبعد الشعر الذي كتبه أنسي في المرحلة الأولى، جاءت المقالة الصحافية، ثم في مرحلة ثالثة، حسب حبش، كان هذا النمط الكتابي الذي رافقه حتى النهاية.

«خواتم» التفكير في الوجود

ويصف حبش هذه الكتابة بأنها عبارة عن «شذرات تملك في قوة اختصارها طاقةً واسعةً، لا على الحلم فقط بل على قول الذي لا يُقال؛ كأن كلّ جملة فيها تأتي من اختصارات كتب شتى، من تجارب متراكمة، لتصل مباشرةً إلى غاية القول». هكذا يبدو أن كلّ ما كتبه أنسي الحاج، في «خواتم»، «كان هدفه إعادة التفكير في هذا الوجود - الحياة، ليعيد صوغه وفق رؤى، تراكَم فيها العمر، والخبرة والتجربة الطويلة».

هذا يشرحه أنسي نفسه معتبراً أنه لا يقوم بمحاولة كتابية جديدة في الشكل فقط: «إن دوافعي النفسية هي التي تُملي عليَّ تغيير نمط حياتي... أحبّ أن أجدد نفسي دائماً، وليس ذلك في سبيل القارئ، وإنما من أجل ذاتي، لأنني أملّ الأشياء التي كتبتها».

أين ذهبت الكتابة المجنونة؟

لكنه لم يكن سعيداً بهذا النمط الثالث الذي يتحدث عنه حبش، ويرى أن أسلوبه تغير كثيراً ولم تعد لديه الحماسة بنفس زخمها. يستذكر الكتابات الأولى بشيء من الحزن: «كانت كتابتي مجنونة، والآن لم تعد كذلك. كتاباتي الآن فيها كثير من الألم. مليئة بالجرح والخوف الشديد. خوفي من الوجود. كنا نقف على ألغام الحياة ولم نكن نعرف ذلك... حين أكتب اليوم، أعمل جاهداً حتى أستعيد تلك اللحظات التي كنت فيها قبلاً...».

لافتٌ أيضاً أن يُنكر كل ما قيل عنه من أنه شاعر «متمرد»، «مارق»، حين روَّج لقصيدة النثر: «لمّا كتبت قصيدة النثر، لم يكن همي التمرد أو التغيير، كنت أرغب في أن أكون أميناً لنفسي لا أكثر ولا أقل، بدليل أنه حين اقتضت نفسي السكوت سكتُّ ولم أكتب. فالصمت ليس لديه أي صورة كتابية». لا، بل ينفي أنه كان يلاحق التيارات الكتابية في العالم، أو يتأثر بها كما كتب تكراراً. أكثر من ذلك، في اعتراف جريء للغاية، يبوح بأنه قرأ كثيراً في فترة الصمت صحيح. لكن «أعترف... لم أقرأ، في الماضي، إلا القليل جداً من الشعر الذي كنا نتحدث عنه كل الوقت ونتجاذب أطراف النقاش والتخاصم حوله مع النقاد والشعراء». عمَّ كان يدور النقاش إذن؟ وهل روادنا كانوا يتحدثون عمّا لا يعلمون؟

الأب الشرعي الوحيد

وحين يُسأل إن كان يعجبه أن يُدعى «الأب الشرعي الوحيد» لقصيدة النثر، منذ ظهور ديوان «لن»، يجيب بأنه لا يعتقد أن ما يُنسَب إليه صحيح، ومع ذلك «شيء واحد يعجبني... هو أنه تبنٍّ لكائن لم يكن ولم يصبح وأرجو ألا يصير، كائن (شرعي) في معنى الارتباط بمؤسسة الواقع والانتماء إلى عالم المصنفات المحنطة». وذلك لأنه يريد هذه القصيدة كائناً متمرداً، «يستمد وجوده من محض الشّعر، من محض التجربة، بلا مرجع غير ذاته وذات قارئه - الذات المتواجهة مع شياطينها».

عام 1993، أي بعد عامين من الحوار الأول، يصدر «الوليمة» الذي هو عودة إلى الشعر وينابيعه. «هو هنا، يعود إلى العين، إلى الأحلام، إلى الوعي، إلى اللاوعي، أي يعود إلى كل ما شكَّل غاباته وكهوفه»، فيما «خواتم» كان نصوصاً تقترب من الشعر، وتلامس الحكمة والتأمل.

شاعر غير محترف

بهذه المناسبة يطلب حبش من أنسي لقاءً صحافياً ثانياً، فيسارع إلى الموافقة. وكان قد عاد وقتها إلى العمل في جريدة «النهار»، لا لقناعة في نفسه بل لأنه لا يجيد فعل أي عمل آخر، كما كان يقول.

يحاول أنسي أن يشرح أنه ليس محترف كتابة شعر، بدليل أن مسافة زمنية كانت تفصل بين المجموعة والمجموعة، كما بين القصيدة والقصيدة. وها هو يعود من جديد: «حتى لا أظل أسمع سؤال: لماذا توقفت عن الكتابة؟ ولكن الآن، إذا ظل يلاحقني سؤال: لماذا عُدْتَ إلى الكتابة؟ فقد يكون الحل هو التوقف مجدداً».

وإذا كان أنسي يبدو كأنه يحب فك ارتباطه بكل ما حوله ولا يُبدي حماسة للدفاع عن شيء، فهو يدافع عن الشّعر العربي الحديث، ويرى أنه «هو الذي خلق اللغة التي يحاول بها إنسان العالم العربي اليوم أن يخرج من القبور ويدخل في صميم الحياة».

وهي لغة تصلح للوصول إلى الذات، وليست بالضرورة لإرضاء الآخر: «ما أكتبه، أكتبه ليُرضيني أولاً وأخيراً. وإذا أرضاني، فلماذا لا يُرضي سواي؟ أقصد قارئاً يشبهني، أو يكرهني، أو يحبني أكثر مما أحبه. في شِعري لا يعنيني قارئ الجريدة، ولا الأديب (العمومي)، ولا مثقف (الاختصاص)».

وهو إذ يبدو متبرماً، إلا أنه يرفض اليأس، يقول: «نفسي ليست صحراء... والأمل يومض ما دمت قادراً على الألم وعلى الحب».

حواران نُشرا في الكتاب، كما في «السفير»، لم يخضعا لأي تعديلات، رغم أن التسجيل الصوتي لا يزال موجوداً

بوح حول مجلة «شعر»

في الجزء المخصص للقاء مجلة «شعر»، يوم اجتمع مَن تبقى من شعرائها في بيروت، بمناسبة إعادة إصدار العدد الأول، نجد كل منهم يغمز من قناة الآخر. وهو ما لا يشبه في شيء الصورة الرومانسية التي تشكلت حول هؤلاء الرواد، ومجلة «شعر» تحديداً. أدونيس يقول: «أشك في أن يكون أحدنا كان يحب الآخر». أما أنسي الحاج فيقيم مراجعة صادمة: «لم يكن عندي الدور الكبير في المجلة، وأنا نادم على الجانب الذي ساهمت فيه. لذلك أشعر اليوم بفرح المغلوب على أمره، هو فرح كاذب... ربما سيأتي وقت يتخطانا فيه الجميع. هذا إن لم يكن قد تم تخطّينا». رياض الريس ليس أقل صراحةً، إذ يرى أنه كان «كومبارساً في المجلة، وسط حفنة من الشعراء، كانوا يجلسون في البلكون، أما أنا فكنت أجلس في الصالة». معترفاً بأن ما ربطه بالمجلة هو يوسف الخال.

يوسف الخال هو جامع الشمل، كما قال فؤاد رفقة، معلناً في خبر غير منتظر، أن قبره لم يعد موجوداً. أما أدونيس فقد وجد أن شخصية يوسف الخال «كانت شخصية مختلفاً عليها شعرياً فيما بيننا، وهو لم يكن رائياً شعرياً متميزاً فحسب بل كان رائياً ثقافياً أيضاً». أما شوقي أبي شقرا الذي كان يعد نفسه سبق الجميع إلى كتابة قصيدة النثر، فقد استعاد في كلمته روح مجلة «شعر» التي كانت تجد امتدادها مع روح العصر وروح يوسف الخال. هؤلاء الشعراء في غالبيتهم رحلوا، لكنهم في ذاك اللقاء يبدو أنهم نعوا مجلتهم، كأنهم يتبرأون منها.

كتاب جديد عن أنسي الحاج، يرمي حجراً في مياه الحداثة الشعرية وركودها الذي طال.


مقالات ذات صلة

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

كتب لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام.

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «هيئة الكتاب» المصرية تنشر أعمال شكري عياد وشاكر عبد الحميد وعبد الحكيم راضي

«هيئة الكتاب» المصرية تنشر أعمال شكري عياد وشاكر عبد الحميد وعبد الحكيم راضي

تعاقدت «الهيئة المصرية العامة للكتاب» مع أسرة الناقد والأديب الراحل الدكتور شكري عيّاد؛ لإصدار وإتاحة مؤلفاته الكاملة ضمن خطط الهيئة لإحياء التراث النقدي العربي

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «لا مفاتيح هناك»... المدينة حين تتحول إلى مسرح عبثي

«لا مفاتيح هناك»... المدينة حين تتحول إلى مسرح عبثي

تتخذ رواية «لا مفاتيح هناك»، للروائي المصري أشرف الصباغ، من السخرية نهجاً لها، سخرية من الذات ومن العالم، ومن المدينة الكبيرة التي لا ترحم.

عمر شهريار

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية
TT

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام (1931- 1987) والذي يتناول التأثير اللافت لهذا المفكر النمساوي على الفلسفة المعاصرة.

وُلد فتجنشتاين في فيينا لأسرة صناعية ثرية ومثقفة، ثم اتجه إلى دراسة هندسة الطيران في مدينة «مانشستر» الإنجليزية، قبل أن يتخلى عن هذا الاتجاه ويتحول تماماً إلى المنطق والرياضيات في جامعة «كامبريدج» متأثراً بالمفكر البريطاني برتراند راسل الذي أشرف على دراسته للفلسفة. تطوع في جيش بلاده خلال الحرب العالمية الأولى وأمضى فترة معلماً في قرية نمساوية، ثم عاد لاحقاً إلى بريطانيا كأستاذ.

ويعد كتابه «رسالة فلسفية منطقية» أبرز مؤلفاته والذي نُشر لأول مرة عام 1921 ويذهب فيه إلى أن حدود اللغة هي حدود عالمنا، وما لا يمكن التعبير عنه بها يجب الصمت عنه، أما «تحقيقات فلسفية» فنشر بعد وفاته عام 1951 ويؤكد فيه على أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت، وهي الفكرة التي كان لها تأثير بالغ على مجلات أخرى كالأدب وعلم النفس.

ويشير المؤلف إلى أنه حصل على أطروحة الدكتوراه في فلسفة المفكر النمساوي لأن أفكاره كانت نقطة تحول حاسمة في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث ويرجع ذلك إلى أهمية المنهج الذي تبناه، وهو المنهج التحليلي المنطقي، يتناول عبارات اللغة التي نصوغ فيها الأسئلة والمشكلات الفلسفية، حيث أثبت أن معظم هذه المشكلات ليست بمشكلات حقيقية وأنها لم تنتج إلا عن سوء استخدام اللغة.

أصبح إسهام فتجنشتاين أشبه ما يكون بالثورة الهادئة على الفلسفة التقليدية، وذلك لأنها غيرت من مفهومها ومجالها ووظيفتها فأصبحت الفلسفة لديه عبارة عن تحليل للغة وانتقل مجال البحث فيها من البحث في الأشياء في ذاتها كالوجود من حيث هو موجود أو العلة أو المطلق أو الجوهر أو اللامتناهي أو العدم إلى البحث في العبارات والألفاظ التي يقولها الفلاسفة وتحليلها لبيان ما له معنى منها وما لا معنى له، أو لبيان الصحيح منها والخاطئ بناء على اتفاقها أو اختلافها مع قواعد الاستخدام العادي المنطقي. ومن ثم تغيرت مهمة الفلسفة فأصبحت تنصب على تحليل مشكلات الفلسفة بدلاً من إقامة أنساق فكرية أو ميتافيزيقية جديدة. وتأثر بأفكاره بشدة عموم التيار الفكري الوضعي التحليلي.

واعتمد المؤلف في دراسته لفلسفة فتجنشتاين على مؤلفاته نفسها فضلاً عن بعض محاضراته بالجامعة، وكذلك محاضراته الخاصة التي نشرت في الكتابين «الأزرق» و«البني»، وأيضاً ملاحظاته عن المنطق والرياضيات كما رجع كذلك إلى ما نشر من رسائله إلى براترند راسل، ولم يكن ذلك بالمهمة اليسيرة نظراً لصعوبة كتاباته وتعقيداتها حتى إن كثيرين من تلامذته والباحثين عموماً كانوا يصفونه بـ«الفيلسوف المتعب للغاية».

ولد لودفيغ يوهان فتجنشتاين في السادس والعشرين من أبريل (نيسان) 1889 وكان والده مهندساً مرموقاً يشغل منصباً قيادياً في صناعة الحديد والصلب بالنمسا، كما كان لأم فتجنشتين أثر بالغ في خلق الميل الفني القوي في الأسرة، فقد كانت هي وزوجها موسيقيين من الدرجة الأولى حتى لقد أصبح المنزل في وقت ما مركزاً لحياة موسيقية جميلة وخاصة حينما كان يتردد عليهم صديق الأسرة الحميم يوهان برامز، الموسيقار العالمي الشهير.

اهتم فتجنشتاين أثناء دراسته في «كامبريدج» بالفلسفة وبأسس الرياضيات الحديثة اهتماماً كبيراً كما استفاد من النشاط الفكري الضخم الذي كان موجوداً في الجامعة قبيل الحرب العالمية الأولى، إذ كان راسل في أوج تفكيره الفلسفي والمنطقي وأخرج هو وألفريد نورث هوايتهد كتابهما «مبادئ الرياضيات» الذي يعد أحد العلامات المميزة في تاريخ المنطق.

على الرغم من اكتساب فتجنشتاين في إنجلترا للجنسية الإنجليزية، فإنه لم يكن معجباً بأساليب الإنجليز في الحياة كما كان يكره الجو الأكاديمي في كامبريدج في ذلك الوقت وحينما انتهت مدة زمالته في كلية ترينتي عام 1930 فكر في زيارة الاتحاد السوفياتي وزاره بالفعل مع أحد أصدقائه. وحين توفي في 29 أبريل 1951 في منزل الطبيب الذي كان يعالجه في بريطانيا، كانت آخر عبارة قالها لزوجة الطبيب: «قولي لهم إنني قد عشت حياة رائعة».

مال إلى البساطة في كل شيء وكان ذلك واضحاً من ملابسه ومن أثاث حجراته في الجامعة، فلم يكن يتمسك في ملابسه بالطريقة التقليدية مثل الأساتذة بل كان يرتدي دائماً بنطلوناً خفيفاً وقميصاً مفتوح الصدر بلا رباط عنق. وتكشف طريقته في إلقاء محاضراته عن أكثر من جانب من جوانب شخصيته، مثل البساطة والجدية والإخلاص للعمل والحب الشديد للحق وأحياناً الخشونة والجفاء والقسوة.

يؤكد فتجنشتاين أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت

لم تكن محاضراته تأخذ الطابع التقليدي، وإنما كانت أشبه باجتماعات برغم إصراره على تسميتها بالمحاضرات. كان يتكلم بلغة إنجليزية وبلهجة الرجل الإنجليزي المثقف وكان صوته رناناً عالي النبرة، وإن لم يكن منفراً، ولم تكن الكلمات تخرج من فمه متدفقة، بل بعد جهد كبير. وجهه كان سريع الحركة بطريقة ملحوظة كما كان معبراً جداً أثناء الحديث وكانت عيناه عميقتين، وغالباً ما كانتا تحملان شيئاً من القسوة في التعبير.

لم تكن مؤلفات فتجنشتاين كثيرة متعددة حتى إنه لم ينشر في حياته إلا كتاباً واحداً هو «رسالة منطقية فلسفية» ومقالاً له بعنوان «بعض ملاحظات على الصورة المنطقية» وبقية ما نشر عدا ذلك كان كله بعد وفاته.

وأهم ما يلاحظ في كتاباته خلوها تماماً من كل زخرفة أدبية أو رطانة في الأسلوب، فنجدها بسيطة قوية تعتمد على خصوبة الخيال، وهو ما تأثر بها كثير من الأدباء لاحقاً. استخدم التحليل كمنهج في الفلسفة لا كغاية، فهو لا يستهدف التحليل لمجرد تقسيم العالم إلى مجموعة من الوقائع أو رد اللغة إلى عدة قضايا أو رد المعنى إلى طريقة استخدامنا للألفاظ، إنما هو يستخدمه لكي يوصله إلى غاية أبعد من ذلك، وهي توضيح المشكلات الفلسفية التي إذا ما وضع معظمها تحت مجهر التحليل زال عنها كل غموض، واتضح أنها مشكلات زائفة أو أنها ليست بمشكلات أصلاً، على حد تعبيره.

وقد عبر عن هذا المعنى تعبيراً دقيقاً بقوله: «إن معظم القضايا والأسئلة التي كُتبت عن أمور فلسفية ليست كاذبة، بل هي خالية من المعنى، فلسنا نستطيع إذن أن نجيب عن أسئلة من هذا القبيل، وكل ما يسعنا هو أن نقرر عنها أنها خالية من المعنى، فمعظم الأسئلة والقضايا التي يقولها الفلاسفة إنما تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا، فهي أسئلة من نوع السؤال الذي يبحث فيما إذا كان الخير هو نفسه الشيء الجميل على وجه التقريب، وإذن فلا عجب إذا عرفنا أن أعمق المشكلات ليست في حقيقتها مشكلات على الإطلاق».


«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية
TT

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل في حياة ومسيرة عدد من المبدعين والمفكرين والفنانين المؤثرين في مجالاتهم، مستخدماً الصورة القلمية في رسم ملامحهم الثقافية والشخصية، مازجاً المعلومة بالتأويل، ومطوفاً حول عدد من الرموز الثقافية منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهايات القرن العشرين، في مجالات معرفية مختلفة، كنوع من التحية لهم ولمنجزهم وتراثهم، الذي يمثل زاداً ثقافياً مهماً لمن جاء بعدهم من أجيال لاحقة، حتى لو اختلفوا مع تلك المنجزات.

الكتاب الصادر في القاهرة عن «دار المعارف» يبتعد فيه مؤلفه عن الكتابة الأكاديمية والنقدية التي يتوقعها القارئ من ناقد وأكاديمي، مفضلاً أن يقدم أسلافه عبر لغة رشيقة ومكثفة، لا تخلو من التقدير والإعجاب والتأثر بهؤلاء الرموز، لكن دون تقديس، يقول في المقدمة: «لم يتحمس الكتاب للشخصيات وإن لم ينكر محبتها، ولم يرتد ثوب الدفاع عنها، وإن اعترف بوجود مثالب فيها، وتعامل مع العيوب والنقائص بوصفها جزءاً من طبيعتها البشرية، وركز على أبعاد الإنجاز لديها، واعتبرها مكمن التميز وسط أمواج من العاديين»، فقد حاول الجابري رسم صور لشخصيات احتلت في قلوب الأجيال وعقولها مكانة رائقة، لاستكشاف مفتاح كل شخصية.

يقدم الكتاب بورتريهات عن 16 شخصية ثقافية شهيرة، هم: أمينة السعيد، مي زيادة، جمال الدين الأفغاني، رجاء النقاش، سهير القلماوي، عبد الحميد جودة السحار، عبد الرحمن شكري، لطيفة الزيات، أحمد أمين، يحيى حقي، محمد عبده، جورجي زيدان، أسامة أنور عكاشة، سعد الله ونوس، ميخائيل نعيمة، وعاطف الطيب.

يبدأ الكتاب ببورتريه عن الصحافية المصرية الرائدة، والناشطة النسوية، أمينة السعيد، التي كانت ضمن أول دفعة جامعية تضم فتيات، والتي ترأست دار الهلال العريقة، فكانت أول امرأة تترأس مؤسسة صحافية، وتولت رئاسة تحرير مجلة «حواء»، كما كانت وكيلة نقابة الصحافيين في سابقة لا تتكرر كثيراً. وبعيداً عن الصحافة، كتبت القصة القصيرة، وكانت في أعمالها الأدبية تركز على المثالب الاجتماعية ونقد المجتمع ومشكلاته ومناقشة عاداته المتجمدة وعيوبه الداخلية. ويركز المؤلف على علاقتها بأبيها الذي أصر على أن تكمل دراستها الجامعية ولا تتزوج قبل إنهائها، وكان هذا وعدها له، ثم علاقته بزوجها بعد ذلك، ويرى الجابري أنه بسبب هذه العوامل «لا تجد عند أمينة السعيد نزق النسويين الجدد، أو كراهية مخبوءة للرجل دون داع».

وينتقل الكتاب إلى مي زيادة، وأثرها في الحياة الثقافية العربية، رغم محاولة حبسها في الرسائل المتبادلة بينها وبين العديد من المثقفين، ويرى المؤلف أن مي «لم يجن عليها شيء مثل انفتاحها على الآخرين فتعددت صورها، حتى لم يبق إلا ظلال لا تعكس شيئاً قاطعاً، فمي التي رسمها العقاد تختلف عن التي رسمها شبلي شميل، عن صورتها لدى الأب أنستاس الكرملي، عنها لدى الرافعي وطه حسين وسلامة موسى ولطفي السيد وولي الدين يكن وأنطون الجميل وغيرهم. لقد اقتربوا جميعاً منها، وكل منهم رآها من وجهة نظره هو، فظن أن روايته هي الزاوية الفاصلة الحقيقية الوحيدة، حتى كأن الإنسانة ليس لها وجود، وإنما هناك وجود لظلالها، وانعكاسات لرسمها، وأشكال لسطورها على الورق».

ويبدأ بورتريه جمال الدين الأفغاني بمشهد شديد الجدة، وهو مشهد أحفاده وهم يتعلقون بالطائرة الأميركية هرباً مما يخشون منه في بلادهم، ورغبة في الهرب منها فوق طائرة المستعمر، في حين كان جدهم الأفغاني يحمل على عاتقه طوال مسيرته مناهضة الاستعمار، وانتقل بين مصر والهند وعدة دول أخرى منادياً بالتحرر من الاستعمار، ويعرج المؤلف على جهوده في الصحافة والفكر والتجديد، وعلاقته بتلاميذه مثل الإمام محمد عبده وغيره، وكراهية الحكام له، وطرده من أكثر من بلد، لأنه كان مصدر خطر لكثير منهم، ويرتابون في وجوده في بلادهم.

ينتقل الكتاب بعد ذلك للناقد والصحافي المصري رجاء النقاش، المعروف عنه أنه كان مكتشف الأصوات الإبداعية الجديدة، فقد كتب عن الطيب صالح ومحمود درويش في بداياتهما، وكانت كتابته النقدية نموذجاً للتوسط بين الأكاديمية الجافة والتغطية الصحافية السريعة، وكتب عن الشعر والقصة والرواية والمسرح، وقد ترأس مجلتي الهلال والكواكب في مصر، و«الراية» و«الدوحة» في قطر، وتنقل بين صحف ومجلات روزاليوسف والأخبار، وأحيا الصحافة الثقافية بعد ركودها لفترة.

وفي بورتريه عن الأكاديمية والناقدة سهير القلماوي، يرصد الجابري مواطن رياداتها المتعددة وقتالها على جبهات لا تنتهي، فقد كانت أول فتاة تحصل على الماجستير تحت إشراف طه حسين في جامعة القاهرة، فكانت تلميذته النجيبة، وسافرت إلى فرنسا لإعداد رسالتها للدكتوراه عن «ألف ليلة وليلة»، وقد كافحت للاعتراف بالأدب الشعبي إلى جوار الآداب الرسمية، كما كانت أول أستاذة في جامعة القاهرة وأول امرأة تتولى رئاسة قسم اللغة العربية، وأول رئيسة للهيئة العامة للكتاب، وهي التي أطلقت معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1969، كما كانت لها الريادة في أدب الأطفال، والكتابة فيه، والمطالبة بالاهتمام به، فضلاً عن حضورها الثقافي خارج جدران الجامعة، ومحاولة مواكبة أحدث المناهج النقدية التي كانت جديدة آنذاك.

ويرسم الكتاب صورة للكاتبة والمترجمة والمناضلة اليسارية الدكتورة لطيفة الزيات، التي «جسدت حياتها مرحلة من الجهد النسائي، حتى شكلت حضوراً طاغياً لوجوهها المتعددة؛ مناضلة سياسية أو مترجمة أو أستاذة جامعية أو مبدعة سرد من عيار فريد»، ويتوقف عند أهمية عدد من أعمالها الأدبية والسيرية مثل «الباب المفتوح» و«الشيخوخة» و«حملة تفتيش» و«أوراق شخصية» و«صاحبة البيت» و«الرجل الذي عرف تهمته»، وكذلك عند منهجها في النقد.

وعن يحيى حقي، الموظف ذي الأصول التركية والهوى الصعيدي، يقول إنه خرج من تجربة عمله في وزارة الخارجية برؤية أكثر اتساعاً، فزار تركيا وإيطاليا وفرنسا والسعودية، بما أتاح بعداً إنسانياً واضحاً لتجربته، تجاور فيها الغربي مع غيره من التأثيرات، هذا الخليط الذي جمع المتفرقات، فتعلم التركية والألمانية والإيطالية، مضيفاً إلى الموروث المصريٍ نظيره العربي، الذي يحل بالقوة داخل الوعي المصري وظواهره، وكلك أثر الثقافة العربية على سواها.

وتتوالى البورتريهات التي تحاول التقاط ما هو جوهري في كل شخصية من التي يتناولها الكتاب، بعناوين تحاول تلخيص روح كل شخصية، مثل «عبد الحميد جودة السحار... حتمية التقاء السينما بالأدب»، و«عبد الرحمن شكري... الرائد المنسي والمنسحب النبيل»، و«أحمد أمين يسدد الكثير من ديون التراث»، و«الإمام محمد عبده الإصلاحي الذي رحل سريعاً»، و«جورجي زيدان أو الناهض للتحيزات»، و«أسامة أنور عكاشة... سيناريست بدرجة مناضل»، و«سعد الله ونوس... أمواج مسرحية وموسيقار كبير»، و«ميخائيل نعيمة والتمرد على النمط»، و«عاطف الطيب... العزف بالكاميرا».


صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر
TT

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض، عن الغياب والبحث عن الحكايات التي تقال، وتلك التي تظل مدفونة في الحجر والجسد والخرائط القديمة، عبر سرد يمتزج فيه التاريخ بالأسطورة، والسياسة بالروح، والقرية بالميناء، في نسيج سردي نابض بالحياة، ويلامس أسئلة الإنسان الكبرى: عن العدالة والخلاص والمعنى.

في مصر أثناء القرن التاسع عشر، بين انتشار الطاعون، والصراع الخفي بين الإمبراطوريات، يصل الطبيب الإنجليزي كامبل إلى الإسكندرية، باحثاً عن رائحة الأرض الحقيقية، وحقيقة نفسه الممزقة بين الحنين والخسارة، إذ تلاحقه ذكرى ابنته «ليزا» التي اختفت مع أمها، ويقوده قدره إلى أعماق مجتمع مكلوم، تتشابك فيه خرافات الخلاص مع يقين العلم، وتلتبس فيه المعجزة بالداء. وفي قلب هذا العالم، يقف الروزنامجي، كاتب الضرائب الذي يعرف كيف تباع القرى وتوزع الأحلام، ليسجل بأمانة زائفة تقسيم البلاد والعباد.

الرواية حافلة بالشخصيات مختلفة المرجعيات الثقافية والاجتماعية والعرقية والدينية، بما يجعلها ساحة للحوار والجدل الثقافي والسياسي، خصوصاً في لحظات سياسية مأزومة، ووباء يطارد الجميع، فضلاً عن الأزمات الشخصية والوجودية لكل منهم، وتساؤلاته الروحية العميقة، وتتوزع الأحداث على خمسة فصول رئيسة، كل منها له عنوان، وهي: كامبل الإنجليزي، حياة النفوس، دلال الحبشية، المتصاحبون، الروزنامجي. وعلى مدار هذ الفصول يتنامى الصراع على السلطة والوجود والأفكار والمكتسبات، بل على الحياة، إذ تفتتح الرواية أحداثها على الوباء وانتشاره، واحتجاز الناس في محجر صحي انتظاراً للموت الذي يفتك بهم، دون العثور على دواء مناسب يعطي بعضاً من الأمل، وفي ظل هذه الأجواء يتصارع الوعي الخرافي والعقل العلمي.

يذكر أن هشام البواردي روائي مصري، من مواليد 1977 بمحافظة المنصورة، شمال القاهرة، وحاصل على بكالوريوس الصيدلة من جامعة الأزهر عام 2000، وحصل على المركز الأول في مسابقة إحسان عبد القدوس الأدبية عن روايته «الحياة عند عتبات الموت»، كما وصلت روايته «الرجل النملة» للقائمة القصيرة لجائزة ساويرس الأدبية عام 2017.

من أجواء الرواية: «تحولت الأمتعة والملابس إلى كتلة من رماد أسود، يعبث به الهواء ويطير، أمرهم كامبل ألا يدخلوا الدير مرة أخرى، وألا يقربوه، وألا يقيموا حتى صلواتهم على عتباته، وأن يتفرقوا في الأرض لو أحبوا. فزعوا من طلبه، وجُنُّوا حين طالبهم بإحضار الجير والتحاريق حتى يطهر الدير. فتح حقيبته وبحث عن قلم، عن دهان، عن لون يرسم به العلامة النكدة على بابه، وأخبرهم أن المكان موبوء، ويجب فعل هذا حفاظاً على الإنسان والحياة. اندفع الرهبان، جميعهم، ناحية كامبل، وحملوه، وقذفوا به بعيداً عن باب الدير. وتسلح كل واحد منهم بكل ما استطاع من أسلحة للاعتداء عليه لو نهاهم، وقالوا في نفس واحد: من أنت حتى تحظر بيت الرب وتمنع الخراف من دخوله؟! لم تقدر على فعل شيء للخادم أيها العاجز، فلتفعل شيئاً يُذهب الطاعون، لو تقدر».