«استنطاق الصامت» يختصر أبحاثاً طويلة في بضعة سطور

مشير عون يأخذ القارئ برحلة فكرية في الاجتماع والدين والسياسة

«استنطاق الصامت» يختصر أبحاثاً طويلة في بضعة سطور
TT

«استنطاق الصامت» يختصر أبحاثاً طويلة في بضعة سطور

«استنطاق الصامت» يختصر أبحاثاً طويلة في بضعة سطور

يأخذ المفكر اللبناني مشير باسيل عون قارئه، في مؤلفه الجديد «استنطاق الصامت: مفاتحات فلسفية في الاجتماع والدين والسياسة» الصادر حديثاً عن دار «سائر المشرق»، في رحلة إلى عمق شخصيته وفكره ونظريته الفلسفية.

فأستاذ الفلسفة الألمانية في الجامعة اللبنانية درج على أخذ قرائه إلى أفكار كبار الفلاسفة والمفكرين، عبر أكثر من 30 كتاباً وعدد من الأبحاث وضعها خلال 40 عاماً، لكنه أراد لكتابه الجديد (207 صفحات من القطع الوسط) أن يكون رسالته المباشرة إلى القارئ، بلغته ونهجه ومفرداته، التي حمّلها أفكاره ورؤيته الفلسفية عبر استنطاقات (حوارات) أجراها معه باحثون ليعرفوا، وينشروا، خلاصة التصورات التي «استقرت في وعيي على تعاقب سنوات البحث الفلسفي والتعليم الجامعي والنضال الوجودي في جميع أبعاده».

مشير باسيل عون

وقبل أن يدخل القارئ إلى مفاتحات عون، يجده يطلب منه أن ينحي أفكاره المسبقة جانباً وألا يسلك طريقته الخاصة في النقاش والحوار والأحكام القَبْلية؛ لأن «كل واحد منا إذا راجع طريقته في محاورة الآخرين، اتضح له أنه، في كثير من الأحيان، يغترف الدليل من أنظومته الدينية، وفي ظنّه أنه يستمده من الشرعة الحقوقية العالمية التي يعترف بها معظم الناس. حينئذٍ يتعثّر الحوار، وتضطرب العلاقة، وتسوء النيات، وتفسد المقاصد. أما لو بذلنا جهداً يسيراً في استجلاء مصادر تصوراتنا وأفكارنا واقتناعاتنا، لتبين لنا أننا غالباً ما نفرض على الآخرين ما نعده أمراً مسلّماً به أو حقيقة ساطعة سطوع الشمس. وحده مثل هذا التمييز يجعل الناس والمختلفين يرتاحون إلى المجالسة والمحاورة والمباحثة، وفي يقينهم أن التلاقي تسوده رغبة الاحترام الصادق المتبادل وتؤيده مشيئة التقابس المغني».

وفي مقدمة كتابه أيضاً، يقول عون لقارئه أن يبحث عما يريد قوله في ثنايا فقراته وعليه أن «يضاعف اليقظة ويحبس الانتباه حتى يتقصى المرمى ويدرك المغزى المستتر في ثنايا الآراء المرسلة»، عازياً السبب إلى أنه يختصر في بضعة سطور أبحاثاً طويلة «أضناني إنشاؤها وأرهقني صوغها».

يذهب عون إلى القضايا الإنسانية، وربما أعسرها، محلياً وعالمياً، موضحاً أن «الفرق واضح بين الإفصاح عن الموقف الفلسفي العام، والدفاع عن بعض الأفكار الفلسفية في قضايا الوجود التاريخي، لا سيما في قرائن الاجتماع اللبناني والعربي».

فما هي هذه الأفكار التي يتبناها عون ويدافع عنها؟ يعنى عون، ومنذ سنوات طويلة من الانخراط الفكري في أوروبا ولبنان، بـ«تأصيل التعددية الكونية تأصيلاً فلسفياً». فهو يقول بأنثروبولوجيا الماهية الإنسانية المشرعة؛ أي بضرورة النظر في جوهر الإنسان نظراً تاريخياً يراعي التطور المطرد الذي يصيب كل الكائنات و«من جراء تسارع وتيرة الفتوحات العلمية، أعتقد أننا لن ننتظر طويلاً حتى نعاين صورة أخرى عن الإنسان الآتي في المقبل من العقود»، وفق تعبيره.

ويقول إنه عمد إلى البحث عن أفضل الأنظمة الحضارية التي تتيح للناس أن يتدبروا اختلافاتهم «فإذا بي أصوغ مفهوم العلمانية التي تميّز الحقل الاقتناعي الذاتي الشخصي الخاص من الحقل التنظيمي التدبيري التقني الجماعي المشترك العام».

وانطلاقاً من ذلك، ينصرف عون في أبحاثه إلى بناء نظرية فلسفية تقوم على 3 أصول:

التسالمية الحضارية المقترنة بالتعددية الكونية، وتكاملية القيم الإنسانية في تناولاتها التأويلية المتباينة، والحيادية الحاضنة في العلمانية الهنية.

لكن ما هي «العلمانية الهنية»؟ يجيب عون قائلاً صفة «الهنية» تجعل العلمانية ترعى بالحياد المتعاطف اختبارات الإنسان من غير أن تسوغ له فرضها على الآخرين، و«العلمانية الهنية وحدها تتيح للناس أن يصونوا اقتناعاتهم الإيمانية، ولكن من غير أن يفرضوا تفسيراتها القانونية وأحكامها التشريعية وتطبيقاتها المسلكية العملية (...) في نطاق المجال العمومي المشترك».

ولا يرى عون إلى هذا الأمر سوى الفلسفة سبيلاً «بالرغم من المشهد المأساوي».

إذا كان للفلسفة اليوم من رسالة استنهاض تلائم واقع العالم العربي فإنها رسالة تحرير الذات العربية من ذاتها

ولكن ما الذي يمكن أن تقدّمه الفلسفة للعالم العربي؟ يجيب عون، على الرغم من أن واقع الفلسفة في العالم العربي لا يشجعه على التفاؤل، قائلاً: «إذا كان للفلسفة اليوم من رسالة استنهاض تلائم واقع العالم العربي فإنها رسالة تحرير الذات العربية من ذاتها (...) وحدها الفلسفة، على ما تختزنه من طاقات تحرير الذات العربية، قادرة على استنهاض العالم العربي والتوثب به إلى آفاق التجديد والإبداع».

ويرى أن الفلسفة العربية المقبلة لن تقوم على الفتح الإبستمولوجي العالمي؛ لأن مختبرات العالم الأول تسلطت، فيما يشبه الاحتكار، على مصادر المعرفة العلمية المتطورة، ولن تنهض أيضاً على أسس القوميات الملتبسة لأن المجتمعات المعاصرة لم تعد تثق بالانتماء القومي حافزاً على الإبداع الثقافي، وطفقت تنحو اليوم منحى الأخوة الإنسانية المسكونية التي تتجاوز حدود العرق والمنبت واللغة، داعياً الإنسان العربي إلى «نحت هوية جديدة تستصفي أفضل ما في التراث من قيم وتعتمد أرفع ما في الحداثة من مكتسبات».

ولا يخفي عون دعوته إلى حوار مسيحي - إسلامي، موضحاً أن هذا الحوار يجب أن يكون سياسي المنحى ولا «يفلح فيثمر إلا إذا نشبت جذوره في حوار لاهوتي رصين موضوعي مجرد من غايات الاقتناص والاستعلاء والاحتواء»، ومستشهداً بزمن عربي قديم استطاع فيه المسيحيون والمسلمون أن يتحاوروا في صدق و«لا سيما في حقبات التسامح الديني الإسلامي».

ودعوته إلى هذا الحوار تستند إلى تجربة شخصية خاضها في إدارة مركز الأبحاث في الحوار المسيحي - الإسلامي؛ حيث عكف على استجلاء مسألة الحقيقة الدينية ومقامها في نطاق الأنظومة الفكرية التي تبتنيها الأديان التوحيدية الثلاثة (اليهودية والمسيحية والإسلام)، وخلص إلى «الاستنتاج اللاهوتي الذي يميّز بين الحق الإلهي في ذاته، والحق الإلهي في تجلياته»، مبتكراً اصطلاحاً لاهوتياً حوارياً سمّاه «الإطلاقية النسبية».


مقالات ذات صلة

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «جدة تقرأ» عنوان معرض الكتاب 2024 (المركز الإعلامي)

الكتاب الورقي ينتصر على الأجهزة الرقمية في معرض جدة

في ظل التطور التقني والاعتماد المتزايد على الكتب الإلكترونية، حسم زوار معرض جدة للكتاب 2024 الجدل لصالح الكتاب الورقي

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق دور النشر شهدت إقبالاً كبيراً من الزوار من مختلف الأعمار (هيئة الأدب والنشر والترجمة)

«جدة للكتاب»... مزيج غني بالمعرفة والإبداع بأحدث الإصدارات الأدبية

يعايش الزائر لـ«معرض جدة للكتاب 2024» مزيجاً غنياً من المعرفة والإبداع يستكشف عبره أحدث الإصدارات الأدبية، ويشهد العديد من الندوات وورش العمل والجلسات الحوارية.

إبراهيم القرشي (جدة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.