إعادة اكتشاف جماليات رواية «الحرام» ليوسف إدريس

الأكاديمي عايدي علي جمعة في كتابه «بناء الرواية»

إعادة اكتشاف جماليات رواية «الحرام» ليوسف إدريس
TT

إعادة اكتشاف جماليات رواية «الحرام» ليوسف إدريس

إعادة اكتشاف جماليات رواية «الحرام» ليوسف إدريس

يولي الباحث والأكاديمي الدكتور عايدي علي جمعة، في كتابه «بناء الرواية: دراسات في الراوي والنوع» الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب اهتماماً خاصاً برواية «الحرام» الصادرة عام 1959 ليوسف إدريس؛ حيث يسعى المؤلف إلى إعادة اكتشاف النص الشهير الذي تحول إلى فيلم سينمائي من إنتاج عام 1965، بطولة فاتن حمامة وإخراج هنري بركات. ويشير عايدي إلى أن البنية الكبرى للعمل تظهر من خلال عثور أحد الخفراء على شيء لفت نظره الضعيف، في أثناء عمله ذات صباح تحت شجرة وعلى جانب جسر الترعة التي كان يستحم فيها، وحينما أمعن النظر فيه مضى يصرخ: «الله حي، الله حي»، فقد كان جنيناً حديث الولادة مخنوقاً مفارقاً للحياة.

تبدأ عملية بحث كبيرة لكشف ملابسات الواقعة، خصوصاً من جانب «فكري أفندي» ناظر العزبة، عن صاحبة هذه الجريمة وشكه في عمال التراحيل الغرباء أو «الغرابوة» الذين جاءوا بنسائهم وأقاموا في العزبة الكبيرة من أجل العمل في تنقية محصول القطن مما يصيبه. وبعد عمليات بحث مضنية وشك طال الكثيرات، تبيّن أن إحدى عاملات التراحيل المتزوجات من رجل فقد صحته تماماً بسبب المرض هي من قامت بهذا الفعل؛ لأنها تخاف الفضيحة. والحكاية أن زوجها المقعد أبدى رغبته في أن يأكل ثمرة بطاطا، وعلى الفور أخذت فأسه الصدئة وذهبت إلى الحقل وحاولت أن تبحث عن «جدر بطاطا». وأثناء انهماكها في نبش التربة بالفأس بحثاً عن بغيتها، جاء «محمد بن قمرين» صاحب الحقل وحفر بدلاً منها وأعطاها بغيتها، ولكنها وقعت في حفرة من حفر الحقل، فذهب محمد بن قمرين لمساعدتها على النهوض وأثناء مساعدتها على النهوض، استيقظت فيه الرغبة فاحتضنها ليقعا في المحظور، فقد تذكرت فيه صورة زوجها حين كان بصحته. وأثمرت الخطيئة عن الحمل، وكانت النتيجة أنها فقدت حياتها بسبب ذلك.

يرى الباحث أن حركة السرد العارمة من أجل البحث عن أم الطفل اللقيط المخنوق شكّلت فضاءات سردية كاشفة عن بنية اجتماعية خاصة في بقعة مكانية تقع في شمال الدلتا حيث المعاناة الهائلة للمهمشين من أبناء الشعب المصري، وفضاء بصرياً لافتاً مهدت له بداية الرواية بمشهد الخفير عبد المطلب وحده في الترعة الكبيرة وقد غمر الماء جسده كله، ثم ما لبث أن ظهر الرأس منه ثم خرج عارياً من الماء على شاطئ الترعة حتى ارتدى ملابسه ثم يجد اللقيط. ويتوازى مع صورة الجنين في رحم أمه وهو مغمور بماء الرحم حتى يحمله، ثم سرعان ما تبدأ عملية ستر جسده وبذلك يظهر دور اللاوعي السردي في السرد.

هناك حرام آخر على المستوى العام يتمثل في غياب العدالة الاجتماعية وتعرض شريحة من المواطنين للتهميش والقمع والاستعباد

ويؤكد الباحث أن لوجود كلمة «الحرام» في العنوان دوراً كبيراً في جعلها مركز ثقل يظهر بوضوح عبر صفحات الرواية وعلى ألسنة بعض شخصياتها حيث يتضح للقارئ أن فعل التحريم لا يقتصر على الإنجاب سفاحاً وارتكاب واقعة الزنا فقط، فهذه هو الحرام على المستوى الشخصي، وإنما هناك حرام آخر على المستوى العام يتمثل في غياب العدالة الاجتماعية، وتعرُّض شريحة من المواطنين للتهميش والقمع والاستعباد. ولم يكن الراوي في هذا العمل شخصية من شخصيات الرواية، بل كان صوتاً مفارقاً وكأنه صوت كوني يعبر عن الأحداث والشخصيات، ولذا لم تجد له اسماً أو وصفاً، وإنما يطالعنا صوته وكأننا نعرفه لأنه يبعدنا عن صوت «الأنا» المتضخمة ليجنح بالقص إلى الموضوعية.

وتعد «عزيزة» الشخصية المحورية في الرواية؛ لأن السرد يتتبعها منذ البداية، وإن كان ظهورها الحقيقي في الرواية قد جاء بعد صفحات طويلة، فقد ظهرت في الصفحة 80 من النص الذي يقع في 151 صفحة. ومع ذلك، فقد جعلتها حركة السرد في بؤرة الحدث نتيجة بحث كل الأطراف عنها منذ اللحظة الأولى. وانحاز السرد لتلك الشخصية بوصفها نموذجاً حياً للمُهمشين الذين يعانون من الفقر والعوز ويتلقّون طوال الوقت أسواط القهر اللاهبة على ظهورهم بلا رحمة.

ويخلص الدكتور جمعة إلى أن السارد العليم استطاع أن يعكس بعض مفاهيم علم النفس الحديث في هذه الرواية؛ من خلال التركيز على مفهوم العلاقة بين السلوك و«المثير» أو «الحافز»، فحركة محمد بن قمرين العفية وهو يضرب بفأسه الأرض باحثاً عن ثمرة البطاطا ظهرت كمثير حرّك الرغبة النائمة داخل عزيزة فتذكرت عرامة جسد زوجها وفحولته القديمة، وتحولت الفأس إلى مثير يستدعي صورة الذكر وهو يضرب الأرض وكأنه يناجى أنثاه. واتخذ السارد العليم من تلك الواقعة البسيطة مدخلاً لإدانة الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي قبل ثورة 1952، عبر كشف خطايا المجتمع كله قبل أن يكشف خطيئة امرأة ريفية بسيطة في تلك الحقبة الزمنية.


مقالات ذات صلة

العراق...مركز الحراك الحضاري وممر سهل لكل العابرين

كتب بارتل بول

العراق...مركز الحراك الحضاري وممر سهل لكل العابرين

تبدو فكرة كتابة تاريخ للعراق منذ بدايات الحضارات الأولى في حوض ما يعرف بمنطقة ما بين النهرين إلى اليوم ضمن متن كتاب واحد أقرب إلى مهمّة مستحيلة بحق.

ندى حطيط
كتب «حجيج البحر»... صراع النفس البشرية بين العزلة والخلاص

«حجيج البحر»... صراع النفس البشرية بين العزلة والخلاص

صدرت حديثاً عن «منشورات رامينا» في لندن رواية «حجيج البحر» للكاتب الكردي السوري ريدي مشّو، وهي عمل أدبي جديد يتناول فيه قضايا الوجود الإنساني والمعاناة الفردية

«الشرق الأوسط» (لندن)
خاص اكتشاف قاموس للهجة البدو في نجد بجامعة زيوريخ

خاص اكتشاف قاموس للهجة البدو في نجد بجامعة زيوريخ

رسالة نادرة تنشرها «الشرق الأوسط» توثق رحلة مجهولة قام بها موهق الغنّامي من مصر إلى سويسرا، وتوثق لهجات بادية نجد قبل أكثر من 100 عام.

قاسم الرويس (الرياض )
ثقافة وفنون الشعر حين يتحول إلى فعل مقاومة

الشعر حين يتحول إلى فعل مقاومة

يحتضن الشاعر المصري كريم عبد السلام، فلسطين، في ديوانه الذي وسمه باسمها «أكتب فلسطين - متجاهلاً ما بعد الحداثة»، ويكشف أقنعة المواقف والسياسات المتخاذلة.....

جمال القصاص
كتب أريك ماريا ريمارك

لا صوت يعلو على صوت القلب

إحدى الروايات التي سحرتني منذ قراءاتي الأولى، والتي بالتأكيد شجعتني - ومن ضمن أعمال خالدة ألمانية أدبية أخرى - على دراسة الأدب الألماني في جامعة بغداد

نجم والي

القائمة الأولى لـ«الغونكور»... حضور مميّز للكتاب الأفارقة

محمد مبوغار صار
محمد مبوغار صار
TT

القائمة الأولى لـ«الغونكور»... حضور مميّز للكتاب الأفارقة

محمد مبوغار صار
محمد مبوغار صار

بعد أيام من انطلاق الموسم الأدبي، كشفت أكاديمية «الغونكور» عن القائمة الأولى للكتاب المرشحين للفوز بالجائزة الأدبية هذه السنة. وضمت القائمة 16 عملاً روائياً، تليها قائمة ثانية من 8 أسماء ثم القائمة الأخيرة من 4 أسماء إلى أن يتم أخيراً الإعلان عن اسم الفائز في الرابع من شهر نوفمبر (تشرين الثاني).

القائمة الأولى تميزت بحضور قوي لكتاب من أفريقيا، طغت على أعمالهم إشكاليات الذاكرة والهوية والمنفى والحداثة من منظور تجاربهم الشخصية والثقافية. أبرز هؤلاء: الجزائري كمال داود عن روايته «الحور» (دار نشر غاليمار)، وغاييل فاي وروايته «الجاكرندا» (دار نشر غراسي) والمغربيان عبد الله الطايع عن روايته «معقل الدموع» (دار نشر غوليار)، وروبين باروك عن عمله «كل ضجيج كليز» (دار نشر ألبان ميشيل).

كمال داود

هذه الأعمال الروائية لفتت انتباه النقاد فأشادوا بقيمتها الأدبية، ومعها بالتأثير المتزايد للأقلام الأفريقية ومساهمتها الإيجابية في بعث الحيوية في المشهد الأدبي الفرنكفوني. اثنان من الروائيين الأربعة مرشحان للفوز بجائزة «الغونكور» لسنة 2024، حيث نقلت كثير من وسائل الإعلام أن كلاً من غاييل فاي وكمال داود يملكان حظوظاً قوية للفوز بالجائزة الأدبية هذه السنة. وقد سبق للكاتب غاييل فاي (42 سنة) أن فاز بعدة جوائز عن روايته الأخيرة «وطني الصغير» (دار نشر غراسي) التي استحضر فيها معاناة طفل حاصّرته ذكريات الطفولة والأحداث البهيجة والمأساوية التي عاشها قبل أن يغرق وطنه الأم رواندا في بحر من المجازر الدموية. غاييل فاي عاد هذه السنة وبعد غياب دام ثمانية أعوام برواية «جاكاراندا» التي يواصل فيها استكشاف إشكالات المنفى والذاكرة والهويات المتعددة من موطنه رواندا التي يعيش فيها الآن.

في حوار مع صحيفة «لوموند» بعنوان: «الجاكرندا المسلسل الأدبي...»، وصف غاييل فاي عمله الأخير بما يلي: «جذور شجرة الجاكرندا تغوص في أراض كثيرة مثل قصّة حياتي، وأزهارها البنفسجية الجميلة تشهد على ميلاد مزيج جميل من المنفى والقدرة على التأقلم».

غاييل فاي

الكاتب الجزائري كمال داود يعد أيضاً من أقوى المرشحين، وكان قد اقترب من الجائزة دون أن يفوز بها عام 2014 بفضل نجاح روايته المثيرة للجدل «مرسو القضية المضادة» (دار نشر غاليمار) التي كان قد استوحاها من رواية ألبير كامو ذائعة الصيت (الغريب 1942) معيداً سرد أحداث الرواية من وجهة نظر الضحية. في عمله الجديد «الحور» (دار نشر غاليمار) يستكشف الكاتب الجزائري التوترات بين التقاليد والتحولات التي تمر بها المجتمعات العربية من خلال قصّة «فجر»، وهي فتاة تنجو من الذبح في عملية إرهابية تعرضت لها وهي طفلة، فتعيش خرساء لكنها تصبح صوتاً لضحايا العشرية السوداء التي مرت بها الجزائر في حقبة التسعينات.

عبد الله الطايع

رواية الكاتب المغربي عبد الله الطايع «معقل الدموع» (دار نشر غوليار) لاقت هي الأخرى اهتمام النقاد وهي تروي بشجاعة وحساسية إشكاليات الحب والتهميش في مجتمع مغربي لا يزال محافظاً للغاية. خلال عرض تقديمي لكتابه، قال الكاتب المغربي المقيم في فرنسا: «(معقل الدموع) صرخة ونداء للإنسانية. إنها قصّة أناس يحبون ويعيشون بشكل مختلف، ويبحثون رغم كل شيء عن مكانهم في عالم لا يفهمهم دائماً».

الروايات الأفريقية المرشحة تعالج إشكالات الذاكرة والهوية والمنفى والحداثة

ويُكمل هذه القائمة روبن باروك، وهو كاتب من أصول يهودية سيفاردية وقد نقل من خلال روايته الجديدة «مع كل ضجيج كليز» (دار نشر ألبان ميشيل) صورة حيّة لمدينة مراكش التي عرفت مولد أجداده. تميز العمل بتحليل دقيق للتحولات التي يشهدها المجتمع المغربي عامة والجالية السيفاردية بصّفة خاصة من خلال شخصية جدتّه بوليت. الحضور القوي للكتاب ذوي الأصول الأفريقية في قوائم المرشحين لـ«جائزة الغونكور» ليس وليد اليوم، بل هو جزء من تقليد قديم وعلامة قوية على الاعتراف المتزايد بالأدب الأفريقي على الساحة العالمية بصفة عامة ومساهمته في إثراء الأدب الفرنكفوني بصفة خاصة. وقد كان رينيه ماران أول كاتب أسود يفوز بـ«جائزة الغونكور» عام 1921 عن روايته «باتوالا»، التي انتقد فيها الاستعمار بشّدة وشكلت نقطة تحول في تاريخ الأدب الفرنسي، ثم الكاتب المغربي الطاهر بن جلون في 1987 عن روايته «الليلة المقدّسة». وآخرهم كان الكاتب السنغالي محمد مبوغار صار الذي حاز على الجائزة الأدبية المرموقة سنة 2021 عن روايته: «الذاكرة الأكثر سرّية للرجال» (دار نشر فيليب راي)، حيث استكشفت الرواية المستوحاة من قصّة «كاتب أفريقي منسي» بأسلوب أشاد به النّقاد إشكالات الذاكرة والأدب وهويات ما بعد الاستعمار، في الوقت الذي نسجت فيه روابط معقدة بين أفريقيا والغرب. ورغم أن الفائز لا يحصل على أي مكافأة مالية كبيرة، فإن جائزة «الغونكور»، إضافة لأنها تجسيد لاعتراف الوسط الأدبي، فهي أيضاً مرادفة لنجاح شعبي ومادي كبير. فوفقاً لأرقام معهد «أديستا» وصلت مبيعات الرواية الأخيرة الفائزة «الاعتناء بها» للكاتب جان باتيست أندريا إلى 570 ألف نسخة وقبله رواية محمد مبوغار صار «ذاكرة الرجال» بـ560 ألف نسخة رغم أن الكاتب لم يكن معروفاً قبلها.