اكتشاف قاموس للهجة البدو في نجد بجامعة زيوريخ

«الشرق الأوسط» تنشر رسالة نادرة توثق لهجات محكيّة بالسعودية قبل 100 عام

غلاف الكتاب... صورة لافتة للراوي الرئيسي لمعلومات الكتاب (موهق الغنّامي العتيبي)
غلاف الكتاب... صورة لافتة للراوي الرئيسي لمعلومات الكتاب (موهق الغنّامي العتيبي)
TT

اكتشاف قاموس للهجة البدو في نجد بجامعة زيوريخ

غلاف الكتاب... صورة لافتة للراوي الرئيسي لمعلومات الكتاب (موهق الغنّامي العتيبي)
غلاف الكتاب... صورة لافتة للراوي الرئيسي لمعلومات الكتاب (موهق الغنّامي العتيبي)

قد لا يكون اسم الباحث الهولندي الدكتور مارسيل كوربرشوك الذي عُرف باهتمامه بثقافة الصحراء العربية، وتخصص في دراسة الشعر النبطي، غريباً على القارئ العربي عموماً، وعلى القارئ الخليجي خصوصاً، بحكم حضوره في وسائل الإعلام الخليجية، خاصة عندما كان يعمل أستاذاً في جامعة نيويورك في أبوظبي.

الباحث الهولندي د. مارسيل كوربرشوك مع الباحث السعودي قاسم الرويس

ولا ننسَ عمله العظيم «FROM CENTRAL ARABIA ORAL POETRY AND NARRATIVES » الذي أنجزه أثناء عمله في سفارة بلاده لدى السعودية، ونُشر في خمسة مجلدات خلال الفترة 1994-2005م، ثم إنه أصدر بعد ذلك كتاباً عن الشاعر حميدان الشويعر، وأتبعه بكتاب عن الشاعر عبد الله بن سبيّل، وأخيراً كتابه الذي صدر مؤخراً «شعراء النفود»، إضافة إلى أعمال أخرى.

تربطني بهذا الباحث الجاد صداقة وثّقها الاهتمام الثقافي المشترك، وكلي إعجاب بجَلَده ودأبه على تحمّل المشاق والسفر إلى أي مكان في سبيل شغفه بدراسة ثقافة صحراء الجزيرة العربية وآدابها.

قاموس لهجات البدو في نجد

في يوليو (تموز) 2023م أرسل لي هذا الصديق رسالة يزفّ لي فيها خبراً جميلاً حول اكتشافه قاموساً ضخماً مكتوباً بخط اليد عن لهجة بدو قبيلتَي «عتيبة» و«قحطان» القديمة للمستشرق السويسري يوهان جاكوب هيس Johann Jakob Hess (1866ـ1949م) الذي أقام في البلاد العربية عدة سنين عُني خلالها بثقافة ولهجات البدو في داخل الجزيرة العربية، وألّف في ذلك كتاباً نشره في عام 1938م تحت عنوان: «Von den Beduinen des Innern Arabiens: Erzählungen, Lieder, Sitten und Gebräuche».

وتظهر على غلاف الكتاب صورة لافتة للراوي الرئيسي لمعلومات الكتاب (موهق الغنّامي العتيبي) بشعره المدهون وضفائره المجدولة.

وقد تُرجم الكتاب في 2010م، ونشرته «دار الورّاق» في لندن تحت عنوان: «بدو وسط الجزيرة: عادات... تقاليد... حكايات وأغانٍ». هذا الكتاب كان الدليل الرئيسي لأعمال كوربرشوك الميدانية في المملكة العربية السعودية.

كما أن لهيس (Hess) جهوداً أخرى؛ فقد أعدّ بحثاً في «لهجة نجد الحالية» عُرض في مؤتمر المستشرقين الذي عُقد في فيينا عام 1912م، كما نشر مقالتين عن اللهجة الدوسرية حيث سُجّلت مادتها في الكويت، وله أيضاً بحث استقصائي حول رحلة داوتي إلى جزيرة العرب، كما أن له كتاباً قدّمه إلى أكاديمية «هايد لبرغ» للعلوم، وطُبع سنة 1912م تحت عنوان: «أسماء بدو من وسط الجزيرة العربية»، وهو عبارة عن معجم صغير لأسماء البدو، بدأت فكرته عندما جمع المؤلف في صيف 1909م نحو ثلاثمائة اسم من حضر نجد، حسب تعبيره، الذين كان يلتقيهم، ثم عمل على تدقيق هذه الأسماء مع بدو نجد وغرب الجزيرة، ثم أضاف إليها أسماء أخرى. وقد تُرجم هذا الكتاب إلى اللغة العربية في السنوات الأخيرة، ونشرته «دار الورّاق» بلندن.

اكتشاف جامعة زيوريخ

وفي حين يشير من ترجموا لهيس (Hess) إلى جمعه مواد غزيرة لوضع قاموس للهجات البدو في داخل الجزيرة العربية، فقد أكدوا أنه لم يطبع هذا القاموس إذا كان قد حرّره بشكل نهائي، إلا أنه لا أحد يعلم تفاصيل مادة هذا القاموس وحجمه أو مكان حفظه، حتى اكتشف هذا الكنز الثمين صديقنا مارسيل كوربرشوك في أقبية معهد «الشرق وآسيا» (the Orient und Asien Institut) في جامعة زيوريخ.

عقدت جامعة زيوريخ بعد هذا الاكتشاف مؤتمراً حول هيس وأعماله في سبتمبر (أيلول) 2023م ألقى فيه كوربرشوك الكلمة الافتتاحية عن اكتشافه، ثم إني التقيت به في مؤتمر «المروية العربية» الثاني الذي نظمه مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث الإسلامية في الرياض في 5-6 مايو (أيار) الماضي، فشرح لي قصة اكتشاف هذا الأرشيف الضخم وأهميته كأقدم شاهد على لهجات البدو في نجد في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

فذكر أنه في اليوم الأخير من عام 2019م أرسل رسالة إلى أمين مكتبة معهد «أورينت وآسيا» في جامعة زيوريخ، الدكتور يوهانس توهمان، يسأله فيها عن ملاحظات مكتوبة بخط اليد تركها يوهان جاكوب هيس. فتلقى رده خلال ساعة مخبراً بوجود ملفات وبطاقات كثيرة في أرشيف المعهد، لم يقم أحد حتى ذلك التاريخ بعمل جاد عليها.

كان هيس من الباحثين الدقيقين في التدوين الصوتي للغة العربية البدوية؛ ولذا تتميز أعماله بالجودة والإتقان الذي قلّ نظيره في ذلك الوقت المبكر الذي اعتمد فيه على السماع المباشر دون الاستعانة بجهاز تسجيل.

لقد وجد مارسيل كوربرشوك في أقبية المعهد أكثر من ثلاثة عشر ألف بطاقة تحتوي على معلومات لغوية وغيرها: مكتوبة باللغة الألمانية، بخط يد أنيق بقلم رصاص على بطاقات صنعها هيس بنفسه من ورق رقيق جداً، منظمة بشكل أو بآخر أبجدياً، وهي بالفعل مشروع غير مكتمل لقاموس اللهجات العربية البدوية. اشتمل جزء من البطاقات على مادة كتابه «بدو وسط الجزيرة»، ولكن هناك الآلاف من البطاقات الأخرى المثقلة بالمعلومات اللغوية والثقافية البدوية الأصلية، إنها كنز تاريخي مجهول لم يهتم به أحد منذ وفاة هيس في سنة 1949م.

جاء هيس في نحو عام 1900م إلى المنطقة العربية في وقت كانت فيه الثقافة الشفوية هي الوعاء الذي حفظ السمات القديمة للهجات والعادات والتقاليد والحكايات والأغاني، مثل «الماموث» المحفوظ في صقيع سيبيريا - على حد تعبير كوربرشوك - فعمل هيس على توثيق هذه الثقافة الشفوية قبل اندثارها؛ ولذا فإن هذا الإرث الذي تركه هيس فريد ولا يُقدر بثمن، خاصة أن الثقافة الشفوية في قلب الجزيرة في ذلك الوقت غير مكتشفة إلى حد كبير، وهو ما كان يمثل فراغاً علمياً وقصوراً معرفياً.

من موهق العتيبي إلى العمّ محمّد سلّمه الله ودام بقاه.

سلّم لي على عمرك، وعلى جارالله، وعلى عبدالله الموسى إن وجدته، وناصر السعود، وعلى دخيل الجِدَاع، وعلى كلّ الجماعة.

أنا في زوريخ أكبر بلد من سوَيسرا مريّح ومتعافي، ديرةٍ على أهلها طيّبة وعلى الغريب شينة: مطر وبرد واليا رحت أبا أسيّر يتليّمون عليّ الناس. أنا منحجْرٍ من البيت إلى الجنَينة.

يوم سافرنا جات مسافرتنا زَينة. سفرنا على أكبر وابور اللي في البحر المتوسّط. بعد ثلاثة أيام من إسكندرية حصّلنا لمينا تَرْيَستا من بلاد نِمسا. ومنها سافرنا غرب إلى قريةٍ اسمها البندقية، يقولون أصل البنادق طالعةٍ منها، وهي وسط بحر تحوّل من السفينة في فم البيت، وأفكروني كيف بنوها، والبندقية من إيطاليا.

ومنها غيّرنا وابور سِكّة في بلد اسمها ميلانو. ثم ركبنا وابور سِكّه، ثم عطى بنا مع وسط الجبال عليها الثلج. خشّينا في وسط الجبال المشَقّقة يمشي نصّ ساعة والبابور من تحت الجبل. وفِتنا ثلاثة بحَيرات حِلوة، وطبَّينا بلاد الخواجة.

الخواجة والسِتّ يسلّمون عليك سلامٍ كثير مكيّفين.

الفقع اللي عطيته الخواجة نطبخ منه، لقيناه أحسن أكل. حنا ناخذ خمسين يوم ونتوجّه لمصر إن شاء الله. والخواجة متوصٍّ بي مع البَرّ والبحر. تأريخه ثمانية من فطر أوّل

رسالة موهق العتيبي

كان المصدر الرئيسي لهيس هو موهق الغنّامي الذي ظل مقيماً في مصر، وقد دوّن قصة حياته في كتابه «Von den Beduinen» كما رواها له. كان موهق أيضاً شاعراً جيداً، وكان متمكناً من لهجات البدو وتعبيراتهم، ولديه إلمام بالعادات والتقاليد، والقصص والأساطير، وطبيعة الصحراء وتضاريسها، وأعراف البدو وأخلاقهم.

ويرى كوربرشوك أن عمل هيس تفوّق على ما قام به السويسريان ألبرت سوسين وجون لويس بوركهارت، وغيرهما من الرحّالة والمستشرقين؛ لأن نصوصه كانت أول نصوص للغة العربية البدوية في الجزيرة نفسها استناداً إلى مصادر شفوية، ولأن هيس استخدم منهجاً دقيقاً في ترجمته للنصوص؛ فالأبجدية العربية ليست ملائمة كوسيلة لتمثيل المتغيرات المنطوقة. لهذا السبب، يستخدم اللغويون الترجمة النصية بالأبجدية اللاتينية، مع إضافة بعض الرموز الخاصة. فكانت جودة تدويناته الصوتية لا تضاهَى في زمنه، ولمدة طويلة بعد ذلك.

ويشير كوربرشوك إلى أن هيس سجّل بعض الملاحظات على بطاقات المعلومات كمتخصص في علم المصريات، في حين كانت ملاحظاته حول اللهجة البدوية مليئة بالإشارات إلى العبرية، والأكادية، والأرامية، والآشورية، والبابلية، والتركية، والفارسية، والسنسكريتية، حتى الصينية، ناهيك عن اليونانية، واللاتينية، واللغات الأوروبية الحديثة. وبدا أنه مطلع على جميع الأعمال الأكاديمية والرحلات المتعلقة بالجزيرة العربية حتى نهاية الثلاثينات. حيثما لاحظ أخطاء أو أخطاء مطبعية في أعمال الآخرين، قام بتصحيحها إما في ملاحظاته المنشورة أو في بطاقاته. كان يعيش البحث العلمي كمؤسسة جماعية.

يضيف هيس في بطاقاته ملاحظة إذا كانت التعبيرات تستخدم في الشعر بدلاً من الكلام العام، وغالباً ما يتم تحديد مصادر غير موهق، وينسب الكلمات إلى قبائل محددة، وينبّه إذا كانت الكلمات مستخدمة من قبل الحاضرة. ويستخدم مجموعة من الاختصارات للإشارة إلى الباحثين الأوروبيين وأعمالهم في العربية الكلاسيكية. وفي أحيان كثيرة كان هيس يستعين بالرسومات لتوضيح الأوصاف. لقد أظهرت بعض الأوراق أن هيس كان قريباً من تحويل مجموعته إلى قاموس حقيقي، ولكن لا نعلم ما هي الأسباب التي جعلت هيس لا يكمل هذا المشروع الرائع، أو حتى يكتب خطته لتنفيذه النهائي. ولعلنا نتساءل بعد ذلك عما يمكن فعله لإنقاذ هذا القاموس وإخراجه من غياهب النسيان بعد مرور نحو مائة وعشرين عاماً على كتابته ليضيف مزيداً من الوعي والمعرفة حول ثقافتنا وتاريخنا، في ظل ما قام به كوربرشوك من جهد مشكور في رقمنة بطاقات هيس وترتيبها بشكل أبجدي تقريبي. ومن الجميل أن تهتم الجهات الثقافية العلمية في السعودية بهذا القاموس بالتعاون مع جامعة زيوريخ.

رسالة موهق الغنّامي

رسالة نادرة

 

وقبل أسابيع زوّدني الدكتور مارسيل كوربرشوك بنموذج يؤكد أهمية أرشيف هيس في جامعة زيوريخ الذي تحدثنا عنه، وهي رسالة نادرة ظريفة توثق رحلة مجهولة قام بها موهق الغنّامي من مصر إلى سويسرا لزيارة هيس الذي كان يعمل أستاذاً في جامعة زيوريخ، وهي رسالة وجّهها بعد وصوله إلى التاجر محمد العلي الذي كان يعمل لديه، وفيها يحكي بلهجته تفاصيل رحلته بالباخرة من الإسكندرية، ثم القطار حتى وصوله إلى سويسرا، مروراً بالنمسا وإيطاليا في ضيافة هيس. وعلى الرغم من أن موهق قد أرّخ رسالته باليوم والشهر «تأريخه ثمانية من فطر أوّل»؛ أي الثامن من شوّال، فإن السنة مجهولة، ويترجّح أن رحلته كانت بين سنة 1331هـ/1913م وسنة 1336هـ/1918م. وهذا نَص الخطاب كما فرّغه مارسيل كوربرشوك من النص المكتوب بالأحرف اللاتينية كتابةً صوتية.


مقالات ذات صلة

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «جدة تقرأ» عنوان معرض الكتاب 2024 (المركز الإعلامي)

الكتاب الورقي ينتصر على الأجهزة الرقمية في معرض جدة

في ظل التطور التقني والاعتماد المتزايد على الكتب الإلكترونية، حسم زوار معرض جدة للكتاب 2024 الجدل لصالح الكتاب الورقي

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق دور النشر شهدت إقبالاً كبيراً من الزوار من مختلف الأعمار (هيئة الأدب والنشر والترجمة)

«جدة للكتاب»... مزيج غني بالمعرفة والإبداع بأحدث الإصدارات الأدبية

يعايش الزائر لـ«معرض جدة للكتاب 2024» مزيجاً غنياً من المعرفة والإبداع يستكشف عبره أحدث الإصدارات الأدبية، ويشهد العديد من الندوات وورش العمل والجلسات الحوارية.

إبراهيم القرشي (جدة)

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»
TT

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة أو أن تُحسب دراسته، على الرغم من التفصيل والإسهاب في مادة البحث، أحدَ الإسهامات في حقل النسوية والجندر، قدر ما يكشف فيها عن الآليات الآيديولوجية العامة المتحكمة في العالمَين القديم والجديد على حد سواء، أو كما تابع المؤلف عبر أبحاثه السابقة خلال أطروحته النظرية «العالم... الحيز الدائري» الذي يشتمل على أعراف وتقاليد وحقائق متواصلة منذ عصور قديمة وحديثة مشتركة ومتداخلة، وتأتي في عداد اليقين؛ لكنها لا تعدو في النهاية أوهاماً متنقلة من حقبة إلى أخرى، وقابلة للنبذ والنقض والتجدد ضمن حَيِّزَيها التاريخي والاجتماعي، من مرحلة الصيد إلى مرحلة الرعي، ومنهما إلى العصرَين الزراعي والصناعي؛ من الكهف إلى البيت، ومن القبيلة إلى الدولة، ومن الوحشية إلى البربرية، ومنهما إلى المجهول وغبار التاريخ.

ويشترك الكتاب، الصادر حديثاً عن دار «الياسمين» بالقاهرة، مع أصداء ما تطرحه الدراسات الحديثة في بناء السلام وحقوق الإنسان والعلوم الإنسانية المتجاورة التي تنشد قطيعة معرفية مع ثقافة العصور الحداثية السابقة، وتنشئ تصوراتها الجديدة في المعرفة.

لم يكن اختيار الباحث فالح مهدي إحدى الظواهر الإنسانية، وهي «المرأة»، ورصد أدوارها في وادي الرافدين ومصر وأفريقيا في العالمَين القديم والجديد، سوى تعبير عن استكمال وتعزيز أطروحته النظرية لما يمكن أن يسمَى «التنافذ الحقوقي والسياسي والقانوني والسكاني بين العصور»، وتتبع المعطيات العامة في تأسس النظم العائلية الأبوية، والأُمّوية أو الذرية، وما ينجم عن فضائها التاريخي من قرارات حاكمة لها طابع تواصلي بين السابق واللاحق من طرائق الأحياز المكانية والزمانية والإنسانية.

إن هذه الآليات تعمل، في ما يدرسه الكتاب، بوصفها موجِّهاً في مسيرة بشرية نحو المجهول، ومبتغى الباحث هو الكشف عن هذا المجهول عبر ما سماه «بين غبار التاريخ وصورة الحاضر المتقدم».

كان الباحث فالح مهدي معنياً بالدرجة الأساسية، عبر تناول مسهب لـ«المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ، بأن يؤكد أن كل ما ابتكره العالم من قيم وأعراف هو من صنع هيمنة واستقطاب الآليات الآيديولوجية، وما يعنيه بشكل مباشر أن نفهم ونفسر طبيعةَ وتَشكُّلَ هذه الآيديولوجيا تاريخياً ودورها التحويلي في جميع الظواهر؛ لأنها تعيد باستمرار بناء الحيز الدائري (مفهوم الباحث كما قلت في المقدمة) ومركزة السلطة وربطها بالأرباب لتتخذ طابعاً عمودياً، ويغدو معها العالم القديم مشتركاً ومتوافقاً مع الجديد.

إن مهدي يحاول أن يستقرئ صور «غبار التاريخ» كما يراها في مرحلتَي الصيد والرعي القديمتين، ويحللها تبعاً لمسارها في العهد الحداثي الزراعي الذي أنتج النظم العائلية، وبدورها أسفرت عن استقرار الدول والإمبراطوريات والعالم الجديد.

يرصد الكتاب عبر تناول مسهب «المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ في ظل استقطاب آيديولوجيات زائفة أثرت عليها بأشكال شتى

ويخلص إلى أن العصر الزراعي هو جوهر الوجود الإنساني، وأن «كل المعطيات العظيمة التي رسمت مسيرة الإنسان، من دين وفلسفة وعلوم وآداب وثقافة، كانت من نتاج هذا العصر»، ولكن هذا الجوهر الوجودي نفسه قد تضافر مع المرحلة السابقة في عملية بناء النظم العائلية، وأدى إليها بواسطة البيئة وعوامل الجغرافيا، بمعنى أن ما اضطلع به الإنسان من سعي نحو ارتقائه في مرحلتَي الصيد والرعي، آتى أكله في مرحلة الزراعة اللاحقة، ومن ثم ما استُنْبِتَ في الحيز الزراعي نضج في الحيز الصناعي بمسار جديد نحو حيز آخر.

ومن الحتم أن تضطلع المعطيات العظيمة التي أشار إليها المؤلف؛ من دين وفلسفة وعلوم وآداب زراعية؛ أي التي أنتجها العالم الزراعي، بدورها الآخر نحو المجهول وتكشف عن غبارها التاريخي في العصرَين الصناعي والإلكتروني.

إن «غبار التاريخ» يبحث عن جلاء «الحيز الدائري» في تقفي البؤس الأنثوي عبر العصور، سواء أكان، في بداية القرن العشرين، عن طريق سلوك المرأة العادية المسنّة التي قالت إنه «لا أحد يندم على إعطاء وتزويج المرأة بكلب»، أم كان لدى الباحثة المتعلمة التي تصدر كتاباً باللغة الإنجليزية وتؤكد فيه على نحو علمي، كما تعتقد، أن ختان الإناث «تأكيد على هويتهن».

وفي السياق نفسه، تتراسل دلالياً العلوم والفلسفات والكهنوت والقوانين في قاسم عضوي مشترك واحد للنظر في الظواهر الإنسانية؛ لأنها من آليات إنتاج العصر الزراعي؛ إذ تغدو الفرويدية جزءاً من المركزية الأبوية، والديكارتية غير منفصلة عن إقصاء الجسد عن الفكر، كما في الكهنوت والأرسطية في مدار التسلط والطغيان... وهي الغبار والرماد اللذان ينجليان بوصفهما صوراً مشتركة بين نظام العبودية والاسترقاق القديم، وتجدده على نحو «تَسْلِيع الإنسان» في العالم الرأسمالي الحديث.

إن مسار البؤس التاريخي للمرأة هو نتيجة مترتبة، وفقاً لهذا التواصل، على ما دقّ من الرماد التاريخي بين الثقافة والطبيعة، والمكتسب والمتوارث... حتى كان ما تؤكده الفلسفة في سياق التواصل مع العصر الزراعي، وتنفيه الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا في كشف صورة الغبار في غمار نهاية العصر الصناعي.