لا صوت يعلو على صوت القلب

أكبر إنجاز إبداعي في أزمان الحرب هو البقاء على قيد الحياة

أريك ماريا ريمارك
أريك ماريا ريمارك
TT

لا صوت يعلو على صوت القلب

أريك ماريا ريمارك
أريك ماريا ريمارك

إحدى الروايات التي سحرتني منذ قراءاتي الأولى، والتي بالتأكيد شجعتني - ومن ضمن أعمال خالدة ألمانية أدبية أخرى - على دراسة الأدب الألماني في جامعة بغداد، قسم اللغات الأوروبية، في أواسط السبعينات، وربما هي وراء ذهابي إلى منفاي في ألمانيا. إنها رواية الألماني أريش ماريا ريمارك: «للحياة وقت... للموت وقت» (كما هو عنوان الأصل الألماني) أو «للحب وقت وللحياة وقت»، كما نقلها عن الفرنسية المصري سمير التنداوي، وصدرت عن «دار المعارف» المصرية بجزأين في بداية الستينات.

تدور أحداث الرواية في ربيع عام 1944، تاريخ الانعطافة الحاسمة في مجرى الحرب العالمية الثانية وبداية تقهقر الجيوش النازية وهزيمة أدولف هتلر، وقصف طائرات الحلفاء الغربيين للعاصمة الألمانية برلين عندئذ بالتوازي مع زحف الجيش الأحمر السوفياتي عليها، قبل سقوطها نهائياً في 8 مايو (أيار) 1945 وانتحار مدمر العالم هتلر قبلها بيومين أو بثلاثة أيام وربما أكثر!

الرواية تروي مغامرة الجندي أرنست غريبير، البالغ من العمر 23 عاماً، الذي يحصل على إجازة غير متوقعة قادماً من الجبهة الشرقية التي كان يقاتل عليها في الحرب العالمية الثانية في وحدة عسكرية تابعة للجيش السادس الألماني. الجندي الشاب غريبير الذي عاش للتو بنفسه هزيمة الجيش السادس على جبهة ستاليننغراد، ورأى الآلاف يموتون هناك، لم يكن يعلم أن عليه أن يعيش حطاماً آخر هذه المرة، حطام مدينته برلين، وكيف ترك قصف طائرات الحلفاء أثره البالغ في المدينة. بيوت محطمة وشوارع محفورة، وأسر مشردة تركت منازلها خوفاً من الموت تحت الأنقاض. حتى أسرته هو نفسه انتهى بها المطاف إلى الهروب من المدينة ومغادرتها إلى مكان مجهول. الجندي أرنست غريبير الذي سيبدأ بالدوران في المدينة مثل غريب، بحثاً عن مأوى أو عنوان لمعارف وأصدقاء له وللأسرة، لن يشعر بالفرحة، بالحياة، إلا بعد أن يلتقي مصادفة بإليزابيث، الفتاة التي انتهى أبوها «الشيوعي اليهودي» إلى معسكر للاعتقال النازي بسبب وشاية.

غلاف الرواية

كم من المصادفات يجب أن تحدث لكي تتشكل حياة إنسان في الاتجاه الذي تريده له الحياة!

أرنست غريبير وإليزابيت، كانا يسيران هائمين بلا هدف عبر حطام وخراب برلين، يتنقلان من مكان إلى آخر، كأنهما يبحثان عن مكان أو شيء لا يستطيعان منحه تعريفاً، وحين تتقاطع خطواتهما مصادفة، كان لا بد لهما أن يقعا في حب بعضهما البعض، وهي مسألة وقت ويقرران الزواج من بعضها البعض، كيف لا يفعلان ذلك، وقد وجد الاثنان السلوى ومعنى للحياة بوجودهما معاً، وهما اللذان تقاسما مائدة يأس واحدة؟ إنهما في مشروع زواجهما لا يفعلان شيئاً غير تلبية نداء القلب، يسيران هذه المرة باتجاه واحد، إلى هدف واحد، حيث يقودهما القلب.

تلك هي المفارقة التي تجعلنا الرواية نعيشها: قصف المدينة يتواصل، القائد المجنون الذي اسمه هتلر ما زال مصراً على تنفيذ جريمته حتى النفس الأخير، يرسل الأطفال في آخر الأيام إلى جبهات الحرب، الناس تهرب، ليس أمامهم غير الموت تحت الأنقاض. فقط هما الاثنان، أرنست غريبير وإليزابيت لا يريدان المغادرة. إلى أين؟ هكذا يطوف الاثنان عبر شوارع برلين وأحيائها، محصنين بحبهما، وهما يلبيان نداء الحواس لا غير، وحين يحل المساء، يبدآن بالبحث عن مأوى يمكنهما اللجوء إليه، النوم تحت سقف يحميهما تحت ظلمة الليل، ولا يهم ماذا يكون المكان، قبواً كان أم خرابة بيت. اثنان غريبان في مدينتهما، يكافحان في سبيل قضيتهما الخاصة بهما، قضية لها علاقة بشؤون القلب، وليس لها علاقة بالوضع العام: الحرب!

إنهما يعيشان في عالمين في الوقت نفسه: النضال في سبيل قضية حبهما من جهة (عندما يقرران الزواج والاحتفال بليلة العرس مع زجاجة شمبانيا!)، ومن الجهة الأخرى الحرب بكل ما تحمله من عبثية وموت وخراب، وحيث لا أحد يوضح مَنْ هو المسؤول عن كل هذا الدمار الذي لحق بألمانيا والألمان، مَنْ هو المذنب في الحرب المدمرة تلك؟ حتى البروفيسور العجوز بولمان (قام بتمثيل الدور في الفيلم المأخوذ عن الرواية أريش ريمارك نفسه)، الذي يعرفه أرنست غريبير منذ أيام المدرسة لا يقدم له أي جواب كعزاء. «الذنب»، يقول بولمان بصوت رقيق، «لا أحد يعرف، أين يبدأ الذنب وأين ينتهي. إذا شئت فإنه يبدأ في كل مكان وينتهي في اللامكان. لكن ربما الأمر هو أيضاً بالعكس. أما الشراكة في الجريمة، فلا أحد يعرف ماذا يعني ذلك؟ الله وحده»، وحين يسأله غريبير مرة أخرى إن كان عليه الالتحاق بالجبهة بعد انتهاء إجازته أم لا، ليكون بهذا الشكل هو أيضاً شريكاً بالجريمة؟ يجيبه العجوز الحكيم: «ماذا أقول لك؟ إنها مسؤولية كبيرة. لا أستطيع اتخاذ القرار لك»، وعندما يلح أرنست غريبير بالسؤال: «هل يجب على كل واحد أن يقرر لنفسه؟»، يجيبه بولمان: «أظن نعم. ماذا يكون غير ذلك؟».

لقد رأى أرنست غريبير وسمع الكثير، «المرء يُقتل من أجل لا شيء في الجبهة»، وهو يعرف الجرائم التي تنطوي عليها الحرب: «الكذب، القمع، الظلم، العنف. الحرب، وكيف نخوضها، مع معسكرات العبودية ومعسكرات الاعتقال والقتل الجماعي للمدنيين». وهو يعلم أيضاً «أن الحرب قد خُسرت»، وأنهم «سيستمرون في القتال فقط لكي تبقى الحكومة والحزب وكل أولئك الذين تسببوا في كل هذا، لكي يبقوا في السلطة لفترة أطول، لكي يكونوا قادرين على التسبب في المزيد من البؤس». مع كل هذه المعرفة، يتساءل عما إذا كان ينبغي عليه العودة إلى الجبهة بعد إجازته، وبالتالي ربما يصبح شريكاً في الجريمة. «إلى أي مدى أصبح متواطئاً عندما أعرف أن الحرب لم تُخسر فحسب، بل أيضاً يجب أن نخسرها حتى تتوقف العبودية والقتل ومعسكرات الاعتقال وقوات الأمن الخاصة وقوات الصاعقة وفرق القتل الخاصة والإبادة الجماعية واللاإنسانية، إذا كنت أعرف ذلك وأخرج مرة أخرى في غضون أسبوعين لمواصلة القتال من أجلها؟».

أي عمل في وقت الحرب غير معني بالحرب هو نوع من المقاومة. في عمل ريمارك، يصبح الحب كفعل إنساني بسيط بمثابة رمز تحدٍ لإحدى «جماليات المقاومة» ضد الديكتاتورية والحرب، لكي نستعير قول بيتر فايس، رائد ألماني آخر، اضطر أيضاً للذهاب إلى المنفى بعد استيلاء النازيين على السلطة. القلب أقدس من الوطن، من أي وطنية اخترعت فقط لإقناع الناس بإرسالهم إلى الحرب ونزف الدم من أجل القرارات التي يتخذها الأقوياء والمتسلطون. مَنْ منا لم يعرف ذلك وهو يقاوم العيش في بلاد وادي الخرابين أو في أي بلاد أخرى عاشت خرائب شبيهة لها؟

لقد مرت سبعون عاماً على صدور الرواية وثمانون عاماً على القصة التي ترويها، وعلى ما حدث من خراب طال مدن ألمانيا، وأولها العاصمة برلين. عندما كنت مراهقاً قرأت عدداً لا يُحصى من الروايات عن الحرب العالمية الثانية، لكن «للحياة وقت... وللموت وقت» وبطلها حفرا نفسيهما بشكل خاص في أعماق ذاكرتي. ربما يكون أرنست غريبير هو السبب الذي دفعني دون وعي إلى رفض الذهاب إلى الجبهة عندما اندلعت الحرب العراقية الإيرانية في 22 سبتمبر (أيلول)، وأنني تمردت على الذهاب إلى الجبهة وغادرت إلى المنفى، إلى ألمانيا بلد أرنست غريبير وأريك ريمارك؟

تدور أحداث «للحب وقت... للموت وقت» في ربيع عام 1944 تاريخ الانعطافة الحاسمة في مجرى الحرب العالمية الثانية وبداية تقهقر الجيوش النازية وهزيمة أدولف هتلر

النازيون عرفوا مبكراً قوة روايات أريش ريمارك. إحدى أولى الروايات التي رموها للنار في جريمة حرقهم للكتب في 10 مايو 1933، كانت الرواية الأولى لريمارك «كل شيء هادئ في الميدان الغربي»، رواية مضادة للحرب بامتياز، وكانت إلى ذلك الوقت «بيست سيلر» بيعت بالملايين. ليس من الغريب أيضاً أن يكون أيريش ماريا ريمارك هو أحد أوائل الكتّاب الألمان الذين غادروا ألمانيا مباشرة بعد تسلم هتلر للسلطة عام 1933.

ليس من الغريب إذن أنني أحببت هذه الرواية منذ قراءتي لها وأنا شاب يافع، كأنني كنت أعرف، أن بغداد ستعيش ذات يوم الدمار نفسه الذي عاشته برلين، كأنني كنت أعرف أن دماراً سيلحق بنا جميعاً أينما سنكون، كأنني كنت أعرف أن أجيالاً ستموت في الحروب، وأن أجيالاً أخرى ستأتي، تحلم بالحب، بالزواج، بالسعادة، لكنها ستموت بطلقة طائشة، بقذيفة دبابة أو مدفعية، بقصف طيران يلقي حممه على الجميع أو بصاروخ لا يفرق بين مبنى أو إنسان، بسقف بيت ينهد على الرؤوس ويطمر أسراً بأكملها، كأنني كنت أعرف، أنه لا حاجة لكتابة ما يكفي من روايات الحرب وتذكير أجيال قادمة بماذا تعنيه الحرب، ماذا يعنيه الخراب، كلا، لأن الناس سيعيشون كل ذلك بأنفسهم، بل كأنني كنت أعرف، أن لا أرضاً ولا زاوية في العالم إلا وتتحول إلى ساحة حرب، وأن لا مكان سينجي الناس من الموت تحت قذيفة سلاح مصنع في هذا البلد أو ذاك... وحين تنشب الحرب، أو حين تُطلق قذيفة أو طلقة أو صاروخ ويموت إنسان، ليس من المهم السؤال، طلقة مَنْ هي التي أُطلقت هناك، أو لأي هوية، لأي دين أو لأي قومية دُمغت بها أشلاء قتلى الحروب وصرعى الإطلاقات، كلا، ليس ذلك هو المهم، المهم هو ألا يُقتل إنسان، ومن يقول غير ذلك، ويتغنى منشداً مع العسكر، مدمرين العالم، «لا صوت يعلو على صوت المعركة»، عليه التعلم من جندي المشاة العاشق أرنست غريبير وحبيبته العاشقة إليزابيت في رواية «للحياة وقت... وللموت وقت»، عليه التعلم: أن أكبر إنجاز إبداعي في أزمان الحرب هو البقاء على قيد الحياة، وأن لا مفر أمامنا، لكي نعيش حياتنا بسلام، من غير أن ننشد بصوت أعلى من كل صوت آخر: «لا صوت يعلو على صوت القلب وشؤونه» وكل ما عدا ذلك: هو خراب في خراب.


مقالات ذات صلة

لماذا وكيف ينبغي أن نقرأ جبران اليوم؟

كتب جبران خليل جبران

لماذا وكيف ينبغي أن نقرأ جبران اليوم؟

من قوة إلى قوة تسيرُ سلسلة «دراسات إدنبرة في الأدب العربي الحديث»، التي تصدر باللغة الإنجليزية عن مطبعة جامعة إدنبرة في أسكوتلندا

د. ماهر شفيق فريد
ثقافة وفنون النقش التصويري الذي يظهر على الوجه الجنوبي لحصاة بن صلت، مع رسم توثيقي له

حصاة بن صلت... أهي قبلة بيت الصلاة؟

وصل العالم الجيولوجي الأميركي روبرت كولمان إلى عُمان في خريف 1973 لإنجاز دراسة علمية معمّقة تتناول تكوين طبقات أرض هذه البلاد، وعاد إلى موطنه في شتاء 1974

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون «نداء القرنفل» لمصطفى موسى

«نداء القرنفل» لمصطفى موسى

صدر حديثاً عن دار «نوفل- هاشيت أنطوان» رواية «نداء القرنفل» للكاتب المصري مصطفى موسى، التي يطعّمها الكاتب بالأحداث السياسية من دون أن تحضر التواريخ بشكل مباشر.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

سرد الفيلسوف اليوناني أفلاطون في كتابه «الجمهوريّة» حكاية الكهف الرمزيّة، التي ما لبثت أن أصبحت الصورة الأكثر شهرة عن «الجهل» في مجمل تاريخ الفلسفة.

ندى حطيط
ثقافة وفنون سركون بولص (يمين) ووديع سعادة في «مهرجان لوديف» عام 2007

«رسائل وقصائد بين سركون بولص ووديع سعادة» تبصر النور

تعرّف الشاعر اللبناني وديع سعادة إلى سركون بولص في السنة التي وصل فيها الشاعر العراقي إلى لبنان سنة 1968، بحسب ما يروي، قاطعاً الصحراء سيراً على الأقدام.

سوسن الأبطح (بيروت)

الكاتبة السعودية عائشة مختار في «الريح لا تستثني أحداً»

غلاف الرواية
غلاف الرواية
TT

الكاتبة السعودية عائشة مختار في «الريح لا تستثني أحداً»

غلاف الرواية
غلاف الرواية

تقدم الكاتبة السعودية عائشة مختار عملها «الريح لا تستثني أحداً» بوصفه «مُتتالية قصصية»، ينهض معمارها على فن القصة القصيرة المُكثفة، إلا أن دائرتها السردية لا تكتمل سوى بتوالي الأحداث التي تتشارك فضاء الحدث.

تلعب قصص المجموعة، الصادرة عن دار «حياة»، على رمزية الريح التي تمنحها الكاتبة سلطة غاشمة وسحرية، وفي المقابل يبدو البشر محض هشيم في قبضتها، فتكون «ليلة الريح الأولى» هي الحدث المركزي الذي تظل تبعاته الكابوسية تلاحق أهالي القرية وتجلب معها الأهوال. وأولها أنهم لم يعودوا يتذكرون شيئاً مما جرى ليلتها، في تلميح مبكر لما يحمله تشوّش الذاكرة من لعنة، ثم سرعان ما تستحوذ «الرائحة» بطاقتها الحسيّة على زمام الأمور، فتزيد من غبش الرؤية، بعدما تسود رائحة «طاغية لا مثيل لها» فضاء القرية في أعقاب تلك الليلة، بما لها من خواص غرائبية، فلا تشمها النساء، فيما تُزكم أنوف الرجال، فيكون ظهورها واختفاؤها بعد ذلك دليلاً على ما غيّرته الريح في أجوائها، والسطور التي خطّتها ومحتها، ولا تختفي تلك الرائحة سوى بمولد طفلين بعد 9 أشهر من تلك الليلة، ليكونا طفلي الريح، وحاملي سرّ الأم التي اختفت في سنوات طفولتهما الأولى، وتبدو فصاحتهما المُبكرة وظروف نشأتهما الغريبة كفيلة بأن تجعل أهل القرية يصفونهما بـ«المبروكين»، فيقطعان على مدار المتتالية القصصية دروباً تأملية في اقتفاء الحكمة، وتلمّس النبوءة، وأسرار الكلمات، كما يصبحان قبلة لأهل القرية من «السائلين»، الذين تُخرجهم الريح من رقودهم، لتوقظ داخلهم الألم، والشعور العارِم بالذنب.

قلوب مثقوبة

تتفرع الحكايات عبر 3 فصول رئيسية هي: «الرجل الذي تكلّم ثم صمت» و«الرجل الذي سيُحب التجوال»، و«الفتاة التي لم يعرف أحدٌ اسمها». تواصل الحكايات تقاطعها على مدار المتتالية القصصية مع ثيمات العمل الرئيسية وأبرزها الفقد والانتظار، فـ«الرجل الذي تكلّم ثم صمت» يظّل مع تقدمه في العمر يتوّسل «طيف» أمه التي غابت في طفولته، وتظل حيثيات غيابها مُغبشة ومثيرة لتوالد الحكايات، بما يزيد من عزلته واغترابه، وتظل «الريح» على مدار المُتتالية هي صاحبة السطوة السردية، فالسرد يبدأ بها، ثم تباغت أهل القرية مرة أخرى مع نهاياته، لتترك الحياة بينهما وبعدهما غارقة في الهشاشة، فهي لم تترك البشر عُراة من أسمالهم فحسب، بل كشفت عن ندوبهم الغائرة، لا سيما تلك التي تسكن الأمهات، ويبدو ثمة آصرة بين الرجلين أبناء الريح وبين أمهات القرية المكلومات، الباحثات عن رتق لـ«قلوبهن المثقوبة» بفقد أبنائهن، فتبدو لعنة أمهم الغائبة، أو الأم «الأولى»، وكأنها تُلاحق أمهات القرية من بعدها، متوسلات أن يرشدهم أحد لأبنائهن ويمتص ملوحة قلوبهن. ويصف «الرجل الذي سيُحب التجوال» جرح الأمومة باعتباره الألم الوحيد المستعصي: «أُعد وصفات لأهالي القرية طوال 13 عاماً، وصفات حلّت أحوالهم المعقدة، أعد قلباً صلصالياً، ومسحوقاً للنسيان، ودواءً للحقيقة، أعد أدوية لكل من طلب، لكنه الآن يعجز أمام الأمهات اللاتي أردن استرداد أبنائهن ذوي العيون الرمادية، السوداء، البنية، الزرقاء، الخضراء الصغيرة»، وهي الفكرة التي تتردد على مدار المتتالية، بتراوحات فنية تفيض من رحم الأمومة، وتعود أدراجها له من جديد في قصة أم أخرى.

تشتق المُتتالية القصصية من جماليات اللغة مكونات لبناء مُتخيلها الحكائي الذي ينهل من الحكايات وقوة تأثيرها

اختلاط الزمن

تشتق المُتتالية القصصية، التي حازت جائزة الشارقة للإبداع العربي، من جماليات اللغة مكونات لبناء مُتخيلها الحكائي الذي ينهل من الحكايات، وقوة تأثيرها، واللعب بالكلمات، فنرى رجلاً أصابته لعنة اللغة، ولكنه للمفارقة كلما كان «يفقد حرفاً زادت كلماته وزادت فصاحته»، كما تشتق من مفردات البيئة البدائية دلالات بلاغية، فنجد الكلمات تندفع كـ«العواصف الرملية»، وهو ما يمكن فهمه ضمن اجتراح العمل لإيقاعه وقوانينه الخاصة، فالمكان برغم تأطيره الظاهر بحدود القرية والصحراء فإنه سيّال، يفيض على هامش الواقع وفي عمق المُخيلة، حيث «المنامات» مكان للقاء الأحبة، والصحراء مكان لابتلاعهم، أما الزمن فيُفتته السرد في سعي لتوظيف دلالته وأثره على أبطاله، حيث نجد هناك: «زمن الصمت، زمن الكلام، زمن الانتباه، زمن الانتظار...»، فالزمن يختلط كالكوابيس، ويفقد أفقيته المنطقية وواقعيته وهو يعود أدراجه معكوساً، كما نرى الأبناء الذين يعودون أجنّة، والعيون تتحوّل لحُفر فارغة، وحتى نمش الوجوه يكبر ويصغر، وكأنه يحوم في مدار زمني معزول يخص سيرة أصحابه وحكاياتهم.

وفي حين تنحاز الكاتبة عائشة مختار للنزعة السحرية في بناء عالمها السردي، فإنها في الوقت نفسه تتلمس هُوية ذاتية تتقاطع مع الموروث الشعبي في كثير من محطات المُتتالية، فالشخصيات تنتظر «الكرامات» في مناماتهم، وتقطع المسافات من أجل الحصول على مشروب سحري يضمن لهم الحب، في استثمار لطاقات الغرابة في قواميس الوصفات السحرية الشرقية، التي تفيض برائحة «الأبخرة والأهازيج والتمائم»، في توسّل لأسئلة وجودية مؤرقة لدى أبطال المُتتالية، بداية من الموت، وحتى الحب، والنوم، والأحلام، والاستبدال، وأهوال الخطيئة، وهو الأرق الذي وجد مُتنفسه في طرح الأسئلة التي لا تخلو من غضب، فالراوي يتقمص صوت «الفتاة التي لم يعُد يعرف أحد اسمها»، ويسأل: «أما جمالها فما المغزى منه إذا كان قد حُكِم عليها بالتعاسة؟ والطيور التي حاولت أخذها إلى المجهول لماذا لم تُحاوِل مرّة ثانية؟ والعدل أين اختفى!».