الحياة على هامش الوحدة

محمد البرمي في مجموعته «يجذب المعادن ويحب الكلاب»

الحياة على هامش الوحدة
TT

الحياة على هامش الوحدة

الحياة على هامش الوحدة

في مجموعته القصصية الجديدة «يجذب المعادن ويحب الكلاب»، يلعب الكاتب والقاص المصري محمد البرمي على مفارقات الوحدة، فيجعل صوتها هاجساً يطارد أبطال قصصه حدّ الاشتباك مع الجنون، ولا يبدو انتظار الحب هو الوجه الوحيد لوحدتهم، وإن كان غيابه يؤرق واقعهم، وتصوراتهم الذاتية عن الحياة.

صدرت المجموعة أخيراً عن دار «الكتب خان» للنشر بالقاهرة، وعبر 15 قصة يبدو الأبطال محاصرين داخل دوائرهم اليومية البسيطة والمعتادة التي يراهنون فيها على «الروتين» كصمام أمان يتشبثون بطقوسه الرتيبة من ساعات عمل مكتبية، تتبعها ساعات تحضير لليوم التالي، في دائرة زمنية مُغلقة على أصحابها، فبطل قصة «شارع سنان» الغارِق في روتين وحدته، وساعات العمل الطويلة، يتلمس مع انتقاله لسكن جديد البحث عن بدايات جديدة، فيتعامل مع المكان الجديد بشاعرية وهو يستمع لصوت أم كلثوم في شرفته باحثاً عن أي أثر للحياة وصِلات مع جيران جُدد، وسرعان ما يكتشف أنه ساكن وحيد في جزيرة معزولة جديدة، فينفتح السرد على مفارقات كابوسية، ويجد البطل نفسه مُتهماً بارتكاب جريمة في بيت أحد الجيران، فتبدو العزلة وكأنه تقوده إلى مراوحات ذهنية مشدودة بين الواقع والهلوسة.

مسرح الخيالات

يستعين الكاتب محمد البرمي بالأحلام بأبعادها الميتافيزيقية، ومساحة الضلالات والأوهام، كتقنية فنية في سرد مجموعته، وأداة يتحرى بها العالم الداخلي الثائر لأبطاله خلف القشرة الزائفة لتماسك علاقتهم مع العالم الخارجي، بما فيها العلاقات الحميمة، ففي قصة «أزواج وقتلة» ينطلق القاص من «كابوس» يتلبس الزوجة التي ترى في منامها أن زوجها يقوم بخيانتها وقتلها، فتنقلب حياتهما الهادئة بسبب هذا الكابوس المتكرر، وسط محاولات من الزوج لاستيعاب غرابته، ثم سرعان ما يلاحقه هو الآخر كابوس أن زوجته تقوم بقتله وهو يخونها مع غيرها، فتتحوّل عندها الأحلام لقرائن عبثية تقود حياتهما الواقعية إلى الجحيم، وتكشف ما بها من عطب وهشاشة تخص علاقتهما المشتركة، فيصف البطل حياته مع زوجته بـ«الروتين» مستنداً على حجة تبرر ذلك وهي «أن تستمر الحياة على روتينها أفضل من ألا تستمر»، ويجعل القاص محمد البرمي مخرج أزمة البطلين وهواجس القتل المُخيّمة عليهما تنتقل إلى فضاء فانتازي، حيث يتحوّل البيت إلى مسرح مفتوح على الخيالات، فتبدو الأحلام وكأنها تتوالد، حتى تبتلع الزوج والزوجة داخل فقاعة حلم مشترك لا يخلو من عبثية.

ويبدو أبطال المجموعة غير قادرين على التكيّف أو استيعاب المسافة بين الأمنيات والمستحيلات، فبطل قصة «وقائع مقتل السيدة مرسيدس» الذي يعمل أميناً للمخازن يعيش تحت مظلة خياله وشطحاته، فهو يستمتع بتأليف حكايات خرافية ساذجة، ويؤمن في قرارة نفسه أن الشيء الوحيد الذي ينقصه ليصبح «ماركيز» هو دعم زوجته له كما فعلت «مرسيدس» مع زوجها الأديب العالمي الشهير، فيظل البطل على مدار القصة يتأرجح ما بين لوم نفسه ولوم زوجته على عدم كتابته للأدب السحري الخيالي، فيقول: «لماذا لا أكتب رواية؟ طالما أنني أعايرها دائماً بأنها ليست مرسيدس، فلماذا لا أكون ماركيز»، ويبدو في حالة مناورة دائمة مع أحلام يقظته، واضعاً زوجته محل اتهام لعدم لمعان موهبته وتركه «يصنع عالماً يشكله كما يريد»، ويفجر السرد مفارقته الساخرة، كاشفاً أن البطل لم يقرأ لماركيز في حياته، وأنه لم يطالع سوى منشور على «فيس بوك» يتحدث عن دعم مرسيدس لماركيز خلال كتابته لرواية «مائة عام من العزلة»، بما يحيل إلى الأحلام الخيالية التي تعززها وسائل التواصل، والحواجز التي تبنيها تلك الأحلام بين البشر وواقعهم.

استقبال الحب

كما يستعير البطل هنا قناع «ماركيز» في محاولة لاستشعار جدارته، فيجعله السرد مُعادلاً للكشف عن تصورات البطل عن نفسه، فإن السارد في قصة «الفتاة التي تُشبه إيمي واينهاوس» يؤسس آصرة بين النجمة البريطانية الراحلة إيمي واينهاوس أو «إيمي الحزينة»، كما يصفها الراوي، و«زينب» بطلة القصة التي يجمعها شبه بالمغنية البريطانية التي ماتت في أوج نجوميتها: «رغم صخبها، امرأة حزينة تموت في السابعة والعشرين من عمرها، علاقات الحب البائسة الأحزان التي لا تنتهي، الاضطراب الذي يحتل مساحة لا بأس بها داخلنا»، ويُخرج السارد من رحم قصة إيمي واينهاوس البائسة قصة أخرى لبطلة تشبهها شكلاً، وسرعان ما يجمعهما الخيال الأدبي في مصير الموت المُبكر، وحسرة الحب.

فهكذا، ينقسم أبطال المجموعة بين أبطال يتخبطون بحثاً عما يريدونه من الحياة، وآخرين يؤرقهم وعيهم التام بما يريدون، فبطل قصة «سبيل محمد علي» يريد أن يتبادل الحب مع فتاة وهو يقترب من الثلاثين من عمره، مأزوماً بالصراع بين مشاعر الحب ورغبة الجسد، والشعور بالذنب، في سياق مجتمعي ضاغط يجعله يتطرف في استقبال الحب.

أما بطل قصة «يجذب المعادن ويُحِب الكلاب» فيستبصر أزمته بشاعِرية تُفلسف الشدائد والفقد، فالبطل يتوقف أمام استقبال جسده خلال فتراته الأخيرة لشرائح ومسامير معدنية شتى، إثر إصلاحات وصيانة لكسور العظام وعطب الأسنان، فيجتر لحظة إصابته برصاصة خلال ثورة يناير المصرية، التي ظلّت في جسده بعد نصيحة طبيب بعدم إخراجها، وتركها ليتأقلم الجسد معها، فيبدو تحسس مكان الرصاصة كل مرة وكأنه تحسس لما تحمله معها من «ذكريات حزينة وأيام قاسية وأحلام ضائعة»، وعلى مدار القصة يبدو البطل في محاولة لتأمل ذاته «الجاذبة» للكسور والآلام، و«المطرودة» من الحب، بصيغة أقرب للاستسلام والتقبّل، تماماً كنصيحة الطبيب لفكرة التعايش مع «الرصاصة»، فيستعيض عن فشله في قصة حبه بتربية «كلب» يتواصل معه عاطفياً ويصفه بـ«شريكي في الحياة»، ليمدّ القاص خيطاً سردياً مرهفاً يجمع بين الحيوان والجماد، وبينهما الإنسان حائر في المنتصف، في مجموعة قصصية لافتة تتمتع برائحة سردية خاصة.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو
TT

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

في روايتها «عشبة ومطر» دار «العين» للنشر بالقاهرة - تختار الكاتبة الإماراتية وداد خليفة الثقافة العربية سؤالاً مركزياً حائراً بين واقع مشوّش ومستقبل مجهول، حيث تبدو اللغة والتاريخ وكأنهما ينازعان أنفاسهما الأخيرة للصمود داخل قِلاعها العربية نفسها.

وتعتمد الروائية على تقنية الأصوات المتعددة لتعميق صراعات أبطالها مع عالمهم الخارجي، حيث تتشارك كل من بطلة الرواية «عشبة» وابنها «مطر» في نزعة تراثية جمالية يتفاعلان من خلالها مع دوائرهما التي يبدو أنها تتنصّل من تلك النزعة في مقابل الانسحاق في مدّ «الثقافة العالمية» المُعلبّة، ولغة التواصل «الرقمية»، فتبدو بطلة الرواية التي تنتمي إلى دولة الإمارات وكأنها تُنازِع منذ أول مشاهد الرواية من أجل التواصل مع محيطها الأسري بأجياله المتعاقبة، حيث تُقاوم النزعة «السائدة» في ذلك المجتمع العربي الذي بات أفراده يتحدثون الإنجليزية داخل بيوتهم، ولا سيما أجيال الأحفاد وسط «لوثة من التعالي»، «فهؤلاء الأبناء لا يعرفون من العربية سوى أسمائهم التي يلفظونها بشكل ركيك»، في حين تبدو محاولات «عشبة» استدراك تلك التحوّلات التي طرأت على المجتمع الإماراتي أقرب لمحاربة طواحين الهواء، فتأتيها الردود من محيطها العائلي مُثبِطة؛ على شاكلة: «لا تكبّري المواضيع!».

صناديق مفتوحة

يتسلل هذا الصوت النقدي عبر شِعاب الرواية، فتبدو «عشبة» مهمومة بتوثيق العلاقة مع الماضي بذاكرته الجمعية التي تتقاطع مع سيرتها الشخصية منذ تخرجها في معهد المعلمات بإمارة الشارقة وحتى تقاعدها، لتعيد تذكّر تفاعل جيلها مع كبريات التغيّرات السياسية سواء المحلية، وعلى رأسها المخاض الطويل لاتحاد الإمارات العربية المتحدة، وحتى سياقات الحروب والنكبات العربية منذ حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وصولاً لمجازر «صبرا وشاتيلا» الدامية في لبنان 1982 والنزف الفلسطيني المُستمر، في محطات تجترها البطلة بعودتها إلى قصاصات الأخبار التي ظلّت تجمعها وتحتفظ بها من مجلات وصحف عربية لتؤرشفها وتُراكمها عبر السنوات داخل صناديق، ليصبح فعل تقليبها في هذا الأرشيف بمثابة مواجهة شاقّة مع الماضي، بينما تبدو الصناديق والقصاصات الورقية مُعادلاً للحفظ الإلكتروني والملفات الرقمية التي قد تتفوق في آلياتها وبياناتها، وإن كانت تفتقر إلى حميمية الذكرى، وملمس المُتعلقات الشخصية التي تنكأ لديها جراح الفقد مع كل صندوق تقوم بفتحه: «أعدت غطاء الصندوق الذي يحتاج مني إلى جرأة أكبر لنبشه، ففي الصندوق ثوب فلسطيني طرَّزته أمٌ ثكلى من بئر السبع... أم صديقتي سميرة أخت الشهيد، ودفتر قصائد نازقة دوّنته صديقتي مها من غزة... صورٌ لزميلاتي بالعمل من جنين ونابلس ورام الله... رسائل من صديقتي ابتسام المقدسية... ومن حيفا مفارش مطرزة من صديقة العائلة أم رمزي».

بالتوازي مع تنقّل السرد من حكايات صندوق إلى آخر، يتصاعد الصراع الدرامي لبطل الرواية «مطر» الخبير في تقييم التُحف، الذي يقوده شغفه بمجال «الأنتيك» والآثار القديمة لتتبع مساراتها في مزادات أوروبية تقترب به من عالم عصابات مافيا القطع الأثرية، كما تقوده إلى الاقتراب من حكايات أصحاب القطع الأثرية التي تُباع بالملايين في صالات الأثرياء، كحكاية «مرآة دمشقية» ظلّ صاحبها يتتبعها حتى وصلت لقاعة مزادات «كريستيز» حاملاً معه ذكرى حكاية جدته وأسرته وتشريدهم، وتصنيعهم تلك المرآة بأُبهتها الزخرفية والفنية في غضون ظروف تاريخية استثنائية خلال فترة سيطرة الحكم العثماني في دمشق.

نهب ممنهج

تبدو الرواية التي تقع في 350 صفحة، وكأنها تمنح حضوراً سردياً للقطع الأثرية المفقودة، والمنهوبة، بصفتها شواهد تاريخية تتعقب «تُجار الممتلكات الثقافية»، ودور المزادات، وأمناء المتاحف، وسط متاهات تزوير الوثائق الخاصة بالقِطع وشهادات المنشأ، وتهريب القطع من بلادها، ولا سيما بعد الربيع العربي والحروب الأهلية التي أعقبته، لتفتح ساحات السرقة الممنهجة للآثار في المواقع الأثرية العربية، كما في تونس ومصر وسوريا والعراق، في حين تبدو قصص القطع المفقودة أُحجيات تتبعها الرواية وتحيكها بخيوط نوستالجية تمدّها الكاتبة على امتداد السرد.

تعتني لغة الرواية بالوصف الدقيق للتفاصيل الجمالية التي تبدو في صراع متواتر مع تيار محو أعنف، كقطع السجاد الأصيل وأنواله التقليدية، والزخارف الغرناطية العتيقة على الأسطح، في مقابل ثقافة «الماركات» الاستهلاكية التي تُميّع الذوق العام، والحروف اللاتينية التي تُناظر الحروف العربية وتُغيّبها في لغة الحياة اليومية.

وقد حازت رواية «عشبة ومطر» أخيراً جائزة «العويس للإبداع»، ومن أجواء الرواية نقرأ:

«كنتُ قصيراً، أقفز كي تلمس أطراف أصابعي مطرقة الباب، وبعد أن كبرت قليلاً، وأصبحت أمسكها بيدي، استوقفني شكلها الذي صُنع على هيئة يد بشرية، ثم أدركت أن هناك مطرقتين فوق بعضهما، تعجبت، وسألت أمي عن السبب فقالت: (كانت لدروازتنا مطرقة واحدة، لكن والدك أبهرته فنون بغداد، فجلب منها مطرقتين، مثبتاً المطرقة الأكبر في الأعلى للرجال والمطرقة الأصغر أسفل منها للنساء، ليختصر بذلك السؤال عن هُوية الطارق، فكنا نُميّز الطارق رجلاً أم امرأة من صوت المطرقة)... بِتُ أنصت للطَرق، كنت أعرف طرقات أمي الثلاث، وتعرف أمي طرقاتي المتسارعة، كان هناك طَرقٌ مُبشر، وطرقٌ يخلع القلب، طرق هامس مُدلل، وطرق يُشبه كركرة الأطفال».