تهميش تاريخ القبيلة العربية

علي الوردي
علي الوردي
TT

تهميش تاريخ القبيلة العربية

علي الوردي
علي الوردي

لعلنا لا نشتطّ في الدعاوى إذا قلنا إن القبيلة العربية هي التي جعلت الشرق شرقاً عربياً كما نعرفه متصلاً بعضه ببعضه الآخر من نجد إلى ليبيا، بعيداً عن الحديث عن دورها من جهة التطور أو محاربته. عندما تنظر في كتابات عالم كبير مثل علي الوردي ستجد أنه جعل القبيلة ثالثة الأثافيّ التي أضرت بالعراق، بالإضافة إلى الفرس والترك، لكننا لن نتحدث في هذا الموضوع الآن.

والقبيلة العربية تعني أيضاً الشعب العربي الذي عايش تصحر جزيرة العرب التي كانت خضراء وذات أنهار وبساتين في الأحقاب القديمة. وقد كافح ذلك الشعب ما حدث من تحول بيئي قاسٍ فتكيف معه ودمج حياته فيه على الصورة التي نعرفها. والقبيلة العربية تعني بصورة أخص المملكة العربية السعودية، أي ذلك التمدد في المراعي الخصيبة وبث العنفوان وروح الحرية التي لم تعرف الاستبداد قط، كما أنها لم تعرف أي نوع من أنواع الإقطاع. في هذه المساحة التي همشها المؤرخون لفترة طويلة تأسست حضارات مستقرة ومتعاقبة.

ولم تحصر القبيلة العربية نفسها في الجزيرة، بل انسابت وصعدت شمالاً بحيث أصبحت هي النسيج الذي تكونت منه النزوحات التاريخية الكبرى خارج جزيرة العرب منذ الأزمنة البعيدة، حين تكونت الحضارات والدول التاريخية في بلاد الرافدين والهلال الخصيب، بل وأبعد من ذلك، إلى المغرب العربي والأندلس.

وإذا عدنا لاستعراض تاريخ قبيلة الجزيرة السياسي فسنقول إن القبائل لم تخضع قط إلا لدولتين؛ دولة الخلافة الراشدة والدولة السعودية، ولعل خروج الخليفة الرابع علي بن أبي طالب من المدينة إلى الكوفة هو بداية التهميش الذي حدث فيما بعد. لم تعد الجزيرة مركزاً للدولة، حتى حين. خروج المركز أدى إلى بقية أنواع التهميش، ولم يعد بالإمكان الحديث عن حضارة. بقيت مكة والمدينة بسبب مكانتهما الدينية بحيث تحرص الدول المتعاقبة على ضمهما إلى الدولة بالقوة، ومع ذلك لم تكونا مركزاً سياسياً، بل بقي من يحكمهما تابعاً لدولة خارج الجزيرة؛ الأمويون ثم العباسيون ثم الأيوبيون ثم المماليك ثم العثمانيون.

وفي نظري أن عرب الجزيرة يخضعون فقط للزعيم الذي يكون منهم ويقيم معهم، ولذلك لم تخضع القبيلة العربية في نجد لأحد من الممالك القديمة والدول المتعاقبة، ولذلك كان السلاطين يتصالحون مع القبيلة بأن يتركوا لها المراعي الخصيبة، في مقابل أن تحصُل من القبائل على نوع من الحلف في وقت الحاجة، وهو حلف لم يكن يدوم على كل الأحوال، وكانت القبيلة تستفيد أيضاً من هذا الحلف، أعني حصولها على غنائم من الغزو، ولم تكن تتضرر كثيراً من هزيمة جيش الدولة الحليفة.

وربما تمردت القبيلة العربية على دولة الخلافة في البداية ورفعوا شعار:

أطعنا رسول الله إذ كان بيننا

فيا لعباد الله مالِ أبي بكرِ

أيورثها بكراً إذا مات بعده

وتلك لعمر الله قاصمة الظهرِ

إلا أنها عادت وخضعت للراشدين لأنها رأت أنها في ظل دولة عربية قبائلية تعرف طبيعة القبيلة. القبائل العربية أو الأعراب أو البدو هم «أصل العرب ومادة الإسلام»، حسب تعبير عمر بن الخطاب (جامع البخاري، حديث رقم 3700) وهو من هو في معرفته وخبرته بالقبيلة العربية وحميّتها، ولذلك كان حريصاً على كل العهود التي قُطعت لهم، وألا تُمس أموالهم، وإن كان للدولة حق في حواشي أموالهم، فقد كانت تُردّ على فقرائهم هم، وألا تُنقل القبيلة إلى مكان آخر، لأن هذا قد يؤدي إلى شعورها بأن ثروتها من الإبل تُغتصب. هكذا كانت القبيلة العربية التي شكَّلت روح الفروسية العربية والرومانسية العربية. وقد كانت الجسد الرئيسي الفاعل في معارك الدفاع والهجوم التي قادها العرب بعد الإسلام فهزمت معظم الممالك التي كانت سائدة في ذلك الزمان.

ومع الدولة السعودية التي نشأت أصلاً في حضن القبيلة وبنت ذاتها من نسيج ذلك الحضن، لم يكن ثمة إشكال فيما يتعلق بولاء القبيلة السياسي، وإن كانت القبيلة قد تمردت، على سبيل المثال في معركة السبلة التي كان النصر فيها للملك عبد العزيز، إلا أن معظم القبائل والإمارات القبلية كانت مع الملك وضد المتمردين.

كان جُل إنتاج عرب الجزيرة الثقافي -سواء التاريخي أو الأدبي– شفهياً لا يعتمد على الكتابة إلا نادراً

يغلب على ظني أن أهل الجزيرة العربية شاركوا في محاربة المغول والصليبيين مع إخوانهم أهل الشام والعراق ومصر، لكنَّ هذا التاريخ لا يبدو جلياً، فكما أسلفت، عانى عرب الجزيرة من التهميش عبر القرون المتعاقبة. بالنسبة إلى القرون القريبة الأمر واضح، ثمة تهميش مريع ومكتمل الجوانب. ولا شك أن عرب الجزيرة يُلامون بدورهم لأنهم لم يصنعوا مؤرخيهم الخاصين بهم ولم يكتبوا تاريخهم، وإن وجدت كتب تاريخ فهي كتب تؤرِّخ لسير رجال الدين والفقهاء ولا تتحدث عما هو حضاري ومن نتاج الإنسان العادي. وكان جُلُّ إنتاجهم الثقافي -سواء التاريخي أو الأدبي– شفهياً لا يعتمد على الكتابة إلا نادراً. تاريخ ما قبل الإسلام دونه الشعراء الفحول ورواة الشعر من أمثال المفضَّل الضَّبِّي والأصمعي وغيرهما ممن بذلوا جهوداً لتثبيت السرديات التي تصف مناسبات القصائد والوقائع والمعارك التي صاحبتها. كما أن الإشارة إلى تلك القصائد في كتب من الأمهات ككتاب «الأغاني» أدى إلى مزيد من السرد والتاريخ. ومع ذلك فقد جرى، بالإضافة إلى التهميش، شيء من التشويه.

لقد حظيت بغداد ودمشق والقاهرة وبلاد المغرب العربي والأندلس بمن حفظوا تاريخ مدن العرب الكبرى هذه، لكن الجزيرة لم تحظَ في الزمن القديم بشيء من هذا، وهذا أمر قد يكون إصلاحه على درجة كبيرة من الصعوبة لو قررنا أن نعيد كتابة تاريخ هذا الجزء من العالم الآن بعد قرون طويلة من موت كل الشهود وغياب المراجع الموثوقة.

* كاتب سعودي


مقالات ذات صلة

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون أفلاطون

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية تختلف عما نراه في أفلام السينما

خالد الغنامي
ثقافة وفنون عبد الزهرة زكي

عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

«غريزة الطير» رواية للشاعر العراقي عبد الزهرة زكي، صدرت أخيراً في بغداد، ولاقت احتفاءً نقدياً ملحوظاً، وهي الرواية الأولى له بعد صدور مجموعته الشعرية الكاملة

علاء المفرجي (بغداد)
ثقافة وفنون عادل خزام

«مانسيرة» تجمع شعراء العالم في قصيدة واحدة

تُغذّى جذور القيم الثقافية كلما تعمقت صلتها بتراث الأمكنة والناس. لكن ماذا لو اكتشفنا أن العالم، بقاراته الخمس، قادرٌ على أن يكون مهداً لقصيدة واحدة؟

شاكر نوري (دبي)

«العودة إلى متوشالح... معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» بالعربية

«العودة إلى متوشالح... معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» بالعربية
TT

«العودة إلى متوشالح... معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» بالعربية

«العودة إلى متوشالح... معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» بالعربية

صدر حديثاً عن «محترف أوكسجين للنشر» في أونتاريو كتابٌ جديد بعنوان: «العودة إلى متوشالح - معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» للكاتب المسرحي الآيرلندي جورج برنارد شو، وقد نقله إلى العربية المترجم السوري أسامة منزلجي. ويأتي الكتاب ضمن سلسلة «أوكلاسيك»، (أوكسجين + كلاسيك = أوكلاسيك) التي يسعى من خلالها المحترف إلى «تقديم الكلاسيكيات بنهج جديد ومغاير عماده الاكتشاف وإعادة الاكتشاف»، وجاء الكتاب في 352 صفحة.

من التقديم:

«نحن هنا أمام كتابٍ يتخذ فيه برنارد شو من المسرحية والحوار والنقد السياسي طريقاً نحو البشرية وهي تعيش إحدى لحظاتها التاريخية الأكثر دماراً، ولنَكُن بعد قراءة الاستهلال حيالَ نظرياتٍ فلسفية وسياسية وأدبية تدفعنا للتفكير في طريقة تفاعلنا مع العالم وقد أمسى نموذج الحضارة على المحك، اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، فلا محيد عن الكوارث التي يُلحقها الإنسان بنفسه وبالطبيعة. فما الذي يحتاج إليه ليصبح أكثر نضجاً وحكمةً؟ يفترض شو أن ثلاثة قرون أو أكثر من عمر الإنسان كفيلة بأن تجعله يبلغ كماله العقلي في مسار تطوّرهِ وتحقيقه غايات وجوده السامية، فهل الامتداد الأفقي للزمن يحقق ذلك؟ من أين نبدأ؟ وأين ننتهي؟ هذا ما يقدمه لنا كتاب (العودة إلى متوشالح) كونه كتاباً يتحدّى الفناء! منطلقُه الأزل ومنتهاه الأبد. يبدأ من آدم وحواء في جنة عدن، وينتهي في عام 31920 ميلادي وقد أمسى بمقدور الإنسان العيش لما يتجاوز الثلاثمائة عام، وصولاً إلى ولادته من بيضة! إنه كتاب عصيٌّ على التصنيف، له أن يجسد تماماً ماهية (الخيال العلمي)، بوصف الخيال مع جورج برنارد شو (1856 - 1950)، يستدعي العلم والفلسفة والفكر بحق، مقدّماً هجائية كبرى لداروين والانتقاء الظرفي، مفضلاً تسميته الانتقاء التصادفي، فإذا استطعنا أن نُثبت أنَّ الكون بأكمله خُلِقَ عبر ذلك الانتقاء، فلن يطيق عيش الحياة إلّا الأغبياء والأوغاد.

يتخذ الكتاب معبره إلى الخيال من حقيقة أن البشر لا يعيشون مدةً كافية، وعندما يموتون يكونون مجرد أطفال، واجداً في لامارك والنشوء الخلّاق سنده، لنكون حيال عملٍ خالدٍ، لا هو مسرحية ولا رواية، بل مزيج بينهما، مسرحية تُقرأ ولا تُجسّد، ورواية يتسيّدها الحوار...

حملت المسرحيات الخمس العناوين التالية: (في البدء)، و(مزمور الأخوان بارناباس)، و(الأمر يحدث)، و(مأساة رجل عجوز)، و(أقصى حدود الفكرة)، وعبر حوارات عميقة حول مكانة العلم والتطور والفن والإبداع يسافر بنا برنارد شو عبر الأزمنة ليناقش الأفكار التي يطرحها أبطاله منذ آدم وحواء مروراً بالزمن الحاضر، ومضيّاً نحو المستقبل البعيد وقد وصلت البشرية إلى ذروتها، وتخلَّص الناس من الحب والجنس والعاطفة، وأصبحوا كائنات منطقية خالصة! لكن عبقرية برنارد شو في هذا الكتاب تكمن في تعامله مع فكرة الخلود، بحيوية وسخرية، مستكشفاً العواقب النفسية لطبيعة العقل البشري الذي يحتاج إليه الإنسان ليعيش ألف عام ويحكم نفسه بنفسه، ويتخلّص من الصراع والحروب والآفات التي تبدأ به وتنتهي بإفنائه»

جورج برنارد شو، كم هو معروف، كاتب مسرحي وروائي ومفكّر وناشط سياسي آيرلندي، وُلد في دبلن عام 1856 وتوفي عام 1950. عُرف بآرائه الساخرة المثيرة للجدل، ونزوعه التقدمي والرؤيوي، واشتراكيته الفابية. ألّف 5 روايات، و60 مسرحية، ضمّنها أفكاره ومقارباته السياسية والتاريخية والفلسفية، عدا عن مئات المقالات والمقدمات الفكرية لأعماله. من مسرحياته: «السلاح والإنسان»، 1894، و«الإنسان والسوبرمان»، 1903، و«بجماليون»، 1913. حين فاز بجائزة نوبل للآداب عام 1925 رفضها، قائلاً: «أستطيع أن أسامح نوبل على اختراعه الديناميت، لكنْ وحده شيطان بهيئة إنسان من كان بمقدوره اختراع جائزة نوبل»، لكنه عاد وقبل الجائزة بشرط ألا يتلقى قيمتها المالية.

أما أسامة منزلجي فهو مترجم سوري له كثير من الترجمات مثل رواية «ربيع أسود»، 1980، و«مدار السرطان» و«مدار الجدي» وثلاثية «الصلب الوردي»، لهنري ميللر، و«أهالي دبلن» لجيمس جويس، و«غاتسبي العظيم» و«الليل رقيق» و«هذا الجانب من الجنة» لسكوت فيتزجيرالد، ومسرحيات وروايات لتينسي وليامز وبول أوستر وفيليب روث وتيري إيغلتون وآلي سميث وإريكا يونغ.