أدباء أبدعوا شخصيات ذات دلالات إنسانية باقية

أكثر من مائة شاعر وروائي وكاتب منذ العصور الوسطى حتى الحاضر

بودلير
بودلير
TT

أدباء أبدعوا شخصيات ذات دلالات إنسانية باقية

بودلير
بودلير

* بعض الأدباء ينظرون إلى مهنة الكتابة نظرتهم إلى مهنة الكاهن. فالأديب كما يرونه مفسر لحقيقة عليا ينقلها لمن يحتاجون إلى نور البصيرة

«إن الشعر لا يجعل شيئاً يحدث». هكذا كتب الشاعر الأنجلو - أميركي و. هـ. أودن في قصيدته «في ذكرى و. ب. ييتس» وهي مرثية للشاعر الآيرلندي الذي توفي في يناير (كانون الثاني) 1939. فالشعر - والأدب عموماً - في رأي أودن عديم الفاعلية في العالم الواقعي. إنه مجرد كلمات لا تلبث أن تتبدد في الهواء ولا تحدث تغيراً ملموساً. وفي مواضع أخرى من كتاباته النثرية يقول أودن إن تاريخ البشرية ما كان ليتغير قيد أنملة لو أن هوميروس ودانتي وشكسبير لم يكتبوا حرفاً واحداً أو لم يمشوا على ظهر الأرض.

كوتزي

لكن الكتاب الذي نعرضه هنا يتخذ موقفاً مغايراً لموقف أودن. إنه كتاب «كتّاب غيروا التاريخ» Writers who Changed History الذي اشترك في وضعه أحد عشر ناقداً وباحثاً، وقدّم له الإذاعي والصحافي البريطاني جيمس نوتي James Naughtie.

والكتاب صادر في هذا العام (2024) عن دار نشر «بنجوين: راندوم هاوس» في 368 صفحة من القطع الكبير محلاة بعشرات الصور واللوحات الملونة في إخراج طباعي فائق الجمال.

سترنبرغ

الكتاب - كما يدل عنوانه - يذهب إلى أن الكلمة المكتوبة عظيمة التأثير وقادرة على توجيه مجرى الأحداث. وهو مقسم إلى ستة فصول تعرّف بأكثر من مائة شاعر وروائي وكاتب مسرحي من مختلف اللغات منذ العصور الوسطى حتى يومنا هذا.

لن أتوقف هنا عند الأسماء الكبرى التي أشبعتها الأقلام بحثاً وتكونت حولها مكتبات كاملة من الدراسات (شكسبير، سرفنتس، ديكنز، تولستوي، بروست، جويس، إلخ...)، وإنما سأتوقف وقفة قصيرة مع ثلاثة أدباء من جنسيات مختلفة يكتبون بلغات مختلفة ويمثلون الأجناس الأدبية الثلاثة الكبرى: الشعر، والمسرحية، والرواية.

فالشعر يمثله شارل بودلير (1821 - 1867) الشاعر والناقد الفني الفرنسي الذي أحدث ديوانه «أزهار الشر» (1857) «رعشة جديدة» في الشعر على حد تعبير فيكتور هوغو. لقد أقام بودلير جسراً يصل بين الرومانتيكية والرمزية، واستوحى حياة المدينة الحديثة (باريس في هذه الحالة)، كما استوحى الأجواء المدارية لجزر المحيط الهادئ. وقد كتب عن موسيقى رتشارد فاغنر، وقدم الأديب الأمريكي إدجار آلان بو إلى القارئ الفرنسي، ونوّه بلوحات المصورَين ديلاكروا ومانيه. كان من آباء الحداثة الشعرية؛ إذ صوّر اغتراب الفرد وسط الجموع، وحالات الملل والعزلة والكآبة والقنوط، وجمع في شعره - إذ يتجول في غابة من الرموز - بين معطيات الحواس وتراسل العطور والأصوات والألوان في معبد الطبيعة وعالج قصيدة النثر، كما كانت له محاولات قصصية. ومن معطفه خرج رمبو وفرلين ومالارميه.

والمسرحية يمثلها أديب إسكندنافي هو السويدي أوغست سترندبرغ (1849 - 1912) الذي لم تكن حياته تقل دراميةً وعذاباً واضطراباً عن حياة بودلير. كانت حياة عاصفة (صوّرها في سيرته الذاتية المعنونة «ابن خادمة» وفي كتابه المعنون «الجحيم») ملؤها الصراعات العاطفية والأزمات العقلية، وصور التوترات في العلاقات بين الرجل والمرأة، وكان يعتبر الزواج (تزوج ثلاث مرات) مبارزة أو ميدان قتال أو ساحة صراع بين الذكر والأنثى، كما في مسرحياته «الأب» و«الآنسة جوليا». وتلاقت بعض أفكاره مع بعض أفكار شوبنهاور ونيتشه وفرويد.

جرّب سترندبرغ يده في معالجة مختلف الأجناس الأدبية، وجمع بين النثر والشعر، ومارس فن التصوير. ولكنه يذكر أساساً بتجاربه في المسرح التعبيري والرمزي الذي يغوص على أعمق الذكريات والمخاوف والرغبات. لقد تقلب بين دراسة اللاهوت والطب، وانجذب إلى التصوف والسحر والخيمياء والخوارق. ومن أقواله في مسرحيته المسماة «مسرحية حلم»: «ليس العالم والحياة والكائنات البشرية سوى وهم وطيف وصورة حلمية». وهو يمثل نقلة من ناتورالية (المذهب الطبيعي) القرن التاسع عشر إلى حداثية القرن العشرين.

نجيب محفوظ

ومن أعلام الرواية في عصرنا ج. م. كوتزي (ولد في 1940) وهو أستاذ جامعي وناقد ولغوي ومترجم لنماذج من الشعر الهولندي إلى اللغة الإنجليزية وحائز جائزة نوبل للأدب في 2003. قضى كوتزي فترات من حياته في لندن والولايات المتحدة الأميركية. وهو أوروبي الأفق انجذب إلى حداثة إليوت وباوند وبكيت وإلى موسيقى باخ. كان معارضاً للتفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا ولحرب أميركا في فيتنام، كما كان نباتياً مدافعاً عن حقوق الحيوان.

تغيم في روايات كوتزي الحدود بين القصة والسيرة الذاتية والمقالة، وتصور صراع الطبقات وتصادم الثقافات، وتحفل بمشاهد الاستجواب والتعذيب والعنف، والماضي في أعماله يطارد الحاضر بلا هوادة. ومن أهم رواياته «في انتظار البرابرة» (1980 وعنوانها مأخوذ من قصيدة للشاعر اليوناني – السكندري كافافي)، وهي تصور التواطؤ مع الأنظمة القمعية التي تتجاهل العدالة وحقوق الإنسان.

ومما يثلج الصدر أن الكتاب يتضمن أديبين عربيين يقفان إلى جانب أقرانهما من كتاب العالم في هذه الصحبة الماجدة: نوال السعداوي (2021 - 1931) ونجيب محفوظ (2006 - 1911). ربما كانت السعداوي (في رأى كاتب هذه السطور) محدودة القيمة، توسلت إلى الغرب أساساً بآرائها النسوية الجسورة، ولكن لا ريب في أن محفوظ كان من أعظم كتاب الرواية في أي لغة في القرن العشرين. ويحمل الكتاب صورة لمحفوظ وهو يسير في أحد شوارع القاهرة في 1989 متأبطاً عدداً من الجرائد والمجلات تعلوها جريدة «الأهرام». ويذكر الكتاب عدداً من الحقائق عن محفوظ ربما كانت معروفة للقارئ العربي ولا جديد فيها، ولكنها ضرورية للقارئ الأجنبي، كالقول بأن محفوظ وُلد في حي الجمالية الشعبي، وأنه أرّخ للحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية المصرية في القرن العشرين، وأنه استوحى في رواياته الأولى تاريخ مصر القديمة، ثم انتقل إلى مرحلة واقعية توجها بثلاثيته المعروفة، ومنها إلى مرحلة تجريبية بها عناصر رمزية (الغورية) ووجودية وسيريالية وعبثية.

ونعود إلى الكلمة التمهيدية التي صدر بها جيمس نوتي الكتاب فنجده يقول إن بعض الأدباء ينظرون إلى مهنة الكتابة نظرهم إلى مهنة الكاهن. فالأديب كما يرونه مفسر لحقيقة عليا ينقلها لمن يحتاجون إلى نور البصيرة وسداد الهداية. إن الكتابة رحلة في المجهول تنتهي باكتشاف. وبعد أن كانت قديماً مرآة تعكس ما تراه صارت مصباحاً يضيء دواخل النفس. لقد ختم الشاعر الآيرلندي شيمس هيني حياته الأدبية بترجمة الكتاب السادس من «الإنيادة»، ملحمة الشاعر الروماني فرجيل، إلى اللغة الإنجليزية. وقبل ذلك استوحى دانتي في القرن الرابع عشر، وإليوت في القرن العشرين، ذلك الشاعر القديم وأعادا تفسيره بغية زيادة معرفتهم بأنفسهم وبالآخرين.

إن عظماء الكتّاب يشتركون في أنهم أبدعوا شخصيات ذات دلالة إنسانية باقية (فاوست المتعطش إلى المعرفة، دون جوان الساعي دائماً أبداً وراء الحب، دون كيشوت الحالم، هاملت المتردد، إلخ...) ونحن نعود إلى هذه النماذج البشرية المرة تلو المرة لأننا نريد أن نعيش خبراتها من جديد، ولأنها تلبي حاجات إنسانية باقية. وجزء من فتنة هؤلاء الكتاب مرده أنهم يجعلوننا لا نكف عن التساؤل: كيف حققوا هذا الإنجاز؟ كيف سبروا أغوار هذه الشخصيات؟ كيف صوّروا هذه التجارب؟ لقد صنعوا ما لم يستطع غيرهم أن يصنعه، ومن هنا كان احتياجنا الدائم إليهم وكان التغير – البطيء ولكنه ثابت - الذي يحدثونه في مجرى التاريخ.



المشاعر التي يمكن أن تترافق مع تعلّم الرياضيات

المشاعر التي يمكن أن تترافق مع تعلّم الرياضيات
TT

المشاعر التي يمكن أن تترافق مع تعلّم الرياضيات

المشاعر التي يمكن أن تترافق مع تعلّم الرياضيات

نقرأ في بعض تفاصيل سيرة ويلارد غبس (Willard Gibbs)، الفيزيائي الأميركي الذي حقّق منجزات كبرى في حقل الفيزياء الإحصائية، وإليه يُعزى مفهوم «الإنتروبيا» (Entropy) ذائع الشهرة، أنّه سُئل - عندما كان أستاذاً للفيزياء في جامعة ييل الأميركية بدايات القرن العشرين - عن رأيه في تخفيض عدد دروس الرياضيات لصالح زيادة دروس اللغة؛ فأجاب غِبس باقتضاب مفرط: «الرياضيات لغة».

لا يكاد رأي غبس يختلف عن رأي كثيرين من المختصين بالفيزياء والرياضيات بشأن طبيعة الرياضيات؛ فهم يرونها لغة مثل باقي اللغات مع خصوصيتها المميزة في كينونتها الغارقة في الرمزية والقواعد المنطقية الصارمة؛ هذا أولاً، وثانياً تمثل الرياضيات لغة عالمية لم تبلغها أي لغة متداولة، وربما في هذا الشأن تتماثل الرياضيات مع الموسيقى، وثمة من يراها «موسيقى كونية مكثفة». حتى الفوضى (Chaos) محكومة بقانون رياضياتي!!

الرياضيات في جوهرها أحد المنجزات الحضارية الرائعة للإنسان، وهي إحدى الخصائص اللصيقة بكلّ مجتمع متقدّم تقنياً في وقتنا الحاضر. كلّ مجتمع متقدّم من هذه المجتمعات لا بدّ أن تكون له «مدرسته الخاصة في التفكير الرياضياتي»، تماماً مثل حقول الأدب والموسيقى والتقنية والعمارة. يبدو هذا الأمر أقرب لقانون حتمي؛ لذا كانت دراسة الرياضيات من كلّ أوجهها (التعليمية والفلسفية والتطبيقية) ضرورة لازمة.

حتى نفهم أهمية الرياضيات بعيداً عن الأمثلة التقليدية السائدة سأقدّمُ شاهدة واحدة نعيشها ونختبرها كل آن. لو دققنا في طبيعة التقنيات عبر العصور لرأينا زيادة نسبة العنصر الرمزي في هذه التقنيات مع الزمن. يمكن القول إنّ مركز الاهتمام والتطوير التقني صار يبتعد عن المشخصات المادية الصلبة ويقترب من التشكيلات الرمزية المعقّدة. الهندسة (Engineering) مثلاً: كانت الهندسة المدنية بكلّ تفريعاتها (الهندسة الإنشائية وهندسة السدود والطرق والهندسة الجيوتقنية وهندسة الموارد المائية) هي اللون الطاغي على الهندسة في القرن التاسع عشر، ثم انحرف الاهتمام الأكبر نحو الهندسة الكهربائية في النصف الأول من القرن العشرين. أما مع بدايات الألفية الثالثة وما بعدها، فقد صار الذكاء الاصطناعي والبيانات الكبيرة والروبوتات وتعلّم الآلة هي العناوين الكبيرة للهندسات السائدة؛ تعليماً جامعياً، وتطبيقات صناعية، واستثمارات مليارية تنفق عليها الدول الكبرى بسخاء، وترى فيها بعض مفاتيح تفوقها الجيوستراتيجي. وليس خافياً أنّ هذه الهندسات تتأسس على أنماط خاصة من الرياضيات جوهرها البرمجيات والخوارزميات. هذه بعض الأسباب التي تدفع اليوم حكومات العالم المتقدّم لمراجعة خططها التعليمية، فيما يخص الرياضيات على كل المستويات (ما قبل الجامعية والجامعية والدراسات العليا وحتى مرحلة ما بعد الدكتوراه)؛ لأنّ أي نكوص أو تخلف ستترتب عليهما أثمانٌ باهظة التكاليف.

يتطلب الاهتمام بالرياضيات ترغيباً بدراستها من قبل الحكومات، ومن بعض جوانب هذا الترغيب نشرُ كتب تعريفية بالرياضيات، بعيداً عن الطريقة البيداغوجية (التلقينية) المدرسية الرتيبة التي دفعت كثيرين من الطلبة إلى تطوير رؤية غير محببة تجاه الرياضيات، واعتبارها مادة صارمة لا تقبل سوى الإجابات اليقينية الصارمة (صح أم خطأ) بعيداً عن روح المغامرة والاستكشاف. أحد هذه الكتب التي تخدم هذا الغرض بكيفية ممتازة هو الكتاب الذي ألّفته إيوجينيا تشينغ (Eugenia Cheng) ونشرته أواخر عام 2023، الكتاب بعنوان: «هل الرياضيات واقعية؟ كيف تقودُنا أسئلة طفولية بسيطة للكشف عن الحقائق الأعمق للرياضيات» (Is Maths Real? How Simple Questions Lead Us to Mathematics’ Deepest Truths).

الأستاذة إيوجينيا تشينغ بروفيسورة رياضيات بريطانية مولودة في هونغ كونغ عام 1976، معروفٌ عنها اهتمامها بالسياسات التعليمية، فضلاً عن كونها عازفة بيانو في الحفلات الموسيقية، وهي تقود جهوداً عالميةً لمكافحة الخوف من الرياضيات، كما تكرّس جزءاً كبيراً من جهودها لتعليم الرياضيات لغير المختصين بها. لها كتب عديدة حول طبيعة الرياضيات وتعليمها وفلسفتها.

تؤكّد المؤلفة في مقدمتها للكتاب أنّ كتابها هذا ليس كتاباً عن تقنية رياضياتية أو تاريخ الرياضيات؛ بل هو عن المشاعر التي يمكن أن تترافق مع تعلّم الرياضيات. تمضي في توضيح مشاعرها الشخصية فتكتب أنها حزينةٌ حقاً، لأنّ الرياضيات موضوعٌ صار مبعث هذا القدر العظيم من الاستقطاب المتنافر: البعضُ يرى الموضوع قريباً منه إلى حدّ أن يسمّي أعضاء هذا البعض أنفسهم «شعب الرياضيات» (Math People)، وفي المقابل ثمّة بعضٌ آخر مسكون بقناعة يقينية ثابتة بأنّ أعضاءه سيئون في الرياضيات. يجب علينا في هذا الموضع ألا نتناسى حقيقة جوهرية: القليلُ - والقليل للغاية فحسب - من خصائص السلوك البشري يمكن توصيفها بتوصيفات قاطعة على شاكلة أبيض أو أسود. قدراتنا البشرية غالباً ما تقعُ في نطاق طيف مستمر (Continuum)، لكنّ الشيء الأكثر أهمية فيما يخصُّ قدراتنا البشرية هو أنّ كل قدرة من هذه القدرات يمكن أن تصبح أفضل لو تلقّى المرء تدريباً جاداً بطريقة صحيحة. ليس من الضروري أن يدع المرء منّا ندوبَ ذاكرته الناجمة عن تجاربه المدرسية المؤلمة هي ما يشكّلُ رؤيته المستقبلية تجاه أي حقل معرفي وليس الرياضيات فحسب. تكتب المؤلفة في هذا الشأن:

«من جانبي أعلمُ من خبرتي التعليمية المتواترة أنني عندما مارستُ تجربة تعليم الرياضيات لأطفال بعمر الخامسة أو السادسة، فإنّهم أغلب الأحيان كانوا يتقافزون بهجة وفرحاً وإثارة، ولم يعرفوا تجربة الخوف من الرياضيات إلا في سنوات لاحقة. المعضلة الأساسية، كما أحسبُ، تكمنُ في تعجّلنا لنقل المحتوى التقني للرياضيات إلى الدارسين. نحن في العادة لا نمنحُ مشاعر الدارسين كفايتها من الاهتمام بمثل ما نفعلُ مع المحتوى التقني. المناهج التعليمية للرياضيات تفشلُ في تحبيب الأطفال بالرياضيات وزرع حبها فيهم. ليست هذه المثلبة مخصوصة على معلّمي الرياضيات فحسب؛ إذ لا يمكن تبرئة المنظومة التعليمية منها».

المنظومة التعليمية تقيسُ مقدرة الدارسين على أساس الإنجاز التقني وليس بهجة التعلّم؛ لكن في كلّ الأحوال فإنّنا لو اتخذنا مبدأ التركيز على المحتوى التقني على حساب المشاعر فليس من المحتمل أن تفوز مشاعر البهجة في سباق الأفضلية التعليمية على أساس قياس النتائج المتحققة من الفاعلية التعليمية كلها. الأسوأ من فقدان بهجة التعلّم هو أن تنتج لنا العملية التعليمية أناساً يخافون الرياضيات ويُشكّكون بقيمتها الفاعلة إلى حدّ يجعلهم غير قادرين على تطبيق تقنيات القواعد المنطقية والكمّية في العالم الواقعي.

إنّ فكرة كون أحدٍ ما سيئاً في الرياضيات - وكأن الطبيعة أرادته أن يكون سيئاً بطريقة قصدية مسبقة - هي فكرة بائسة إلى حدود بعيدة ولأسباب كثيرة؛ فهي توكلُ أمر التفوق الرياضياتي إلى الطبيعة بصورة كسولة، وتنكرُ في الوقت ذاته حجم الجهد الذي يتطلبه التفوق في الرياضيات. تعلّم الرياضيات يتطلب زمناً وجَلَداً ومطاولة بالتأكيد؛ لكنّ ذلك الجهد لا يتوجّب بالضرورة أن يكون حفلة تعذيب شاقة، وليس من مسوّغ مقبول ليكون كذلك؛ بل على العكس يمكن أن يكون تحدياً مقروناً بحس المغامرة، ومن ثمّ المكافأة اللذيذة بدلاً من حس الخذلان وفقدان رغبة الاستمرارية وبهجة التعلّم. المقاربة التعليمية المفتقدة لحس البهجة والمغامرة في تعلّم الرياضيات ستكون سبباً كافياً لدفع كثرةٍ من الدارسين للتوقف عن دراسة الرياضيات، وفي المقابل سيكون من اليسير على المنظومة التعليمية اعتبارُ هؤلاء غير مناسبين أو ممتلكين للوسائل المناسبة الكافية لدراسة الرياضيات. بعد كلّ هذا فإنّ الوسائل الرتيبة المُنفّرة في تعليم الرياضيات ستوفّرُ للمعلّمين وصانعي السياسات عذراً يجعلونه سبباً لعدم مراجعة سياساتهم التعليمية والارتقاء بها عبر جعلها أكثر مرونةً وإبداعاً، وكذلك لتصميم مقاربات تعليمية من شأنها إيقافُ هذا الهدر البشري الذي قد يجعل كثرة من الموهوبين كارهين للرياضيات بسبب سياسات التعليم المنفّرة.

بعد مقدمتها المسهبة للكتاب التي تحكي فيها المؤلفة عن جوانب من سيرتها الذاتية مع الرياضيات (حبها ونفورها ثم عودة حبها للرياضيات خلال أطوار مختلفة من مسيرتها التعليمية، مساعدة أمها لها في جعل الرياضيات موضوعاً محبباً، جوانب من دراستها الدكتوراه، كيف ساعدتها الرياضيات في عشق الموسيقى والفن بعامة) تمضي المؤلفة في متون كتابها الذي وضعته في ثمانية فصول: الفصول الأربعة جعلتها تنقيبات مفاهيمية وفلسفية في أسئلة قد تبدو ساذجة لكنها ذات طبيعة وجودية تأصيلية عميقة: من أين تأتي الرياضيات؟ لماذا تنجح الرياضيات في عملها؟ لماذا نمارس الرياضيات؟ ما الذي يجعل الرياضيات ممارسة مفيدة؟ بعد هذه الفصول التأسيسية للفلسفة الرياضياتية تقدّم المؤلفة أربعة فصول إضافية تتناول تفاصيل إضافية منها على سبيل المثال فصل تقدّمُ فيه حكايات رياضياتية، وهو فصل أجده عظيم الأهمية في تعشيق الحقول المعرفية بالممارسة السردية التي تُعدُّ خصيصةً جوهريةً للإنسان كيفما كان ولعه المعرفي واشتغاله المهني.

تؤكّد المؤلفة كخلاصة جوهرية لكتابها:

«إنّه لأمرٌ يوجع قلبي حقاً عندما أرى النظام التعليمي الحالي وهو يجعلُ من بهجة غامرة لأطفال بأعمار الخامسة، وهم يتعلّمون الرياضيات لأوّل مرة في حياتهم، تستحيلُ خوفاً ونفوراً من الرياضيات عندما يبلغون الثامنة عشرة. حقيقةٌ واحدةٌ أراها بكل الوضوح ولن أجادل أبداً بشأن مصداقيتها: لو كنتَ ترى نفسك تنتمي لجماعة (أنا سيئ في الرياضيات) فاعلم أنّ قناعتك هذه ليست لأنّك عجزت عن فهم الرياضيات، بل لأنّ تعليم الرياضيات لم ينجح في جعلك تتحسس جمال الرياضيات وعظمتها، وقبل هذا أهميتها العملية في عالمنا المعاصر».

هل الرياضيات واقعية؟ كيف تقودُنا أسئلة طفولية بسيطة للكشف عن الحقائق الأعمق للرياضيات

Is Maths Real? How Simple Questions Lead Us to Mathematics’ Deepest Truths

المؤلفة: إيوجينيا تشينغ

Eugenia Cheng

الناشر: Basic Books

عدد الصفحات: 336

تاريخ النشر: 2023