إعادة اختراع علم الاقتصاد

لا يزال متخلفاً عن التقدّم الهائل الذي حققه البشر في مجالات معرفية مختلفة

جوين دوين فارمير
جوين دوين فارمير
TT

إعادة اختراع علم الاقتصاد

جوين دوين فارمير
جوين دوين فارمير

قدّم كارل ماركس، في أهم أعماله المنشورة «رأس المال – 1867» أفضل نموذج نظري نمتلكه اليوم لفهم ديناميكية عمل النظام الرأسمالي منطلقاً في توصيفه من موقف فلسفي مادي يرى في الصراع الطبقي محركاً للتاريخ. وفسّر التقلبات الاقتصادية بالجدليّة بين قوى الإنتاج وعلائق الإنتاج مستنداً في ذلك إلى مجموعة متقدّمة – بمقاييس عصره - من الإحصاءات والدراسات والوثائق، التي قضى ورفيقه الجليل فريدريك إنجلز سنوات طوالاً في تتبعها، ودراستها، واستخلاص الاستنتاجات منها. وعلى الرّغم من أن نظريات الاقتصاد الماركسيّ أصبحت جزءاً من الصراع بين الشرق والغرب بعد قيام الاتحاد السوفياتي في 1917، وأن النخب الغربيّة بذلت جهوداً مكثفة للتعمية عليها وتجاوزها لمصلحة نظريات أحدث، فإن الأزمات البنيوية المتلاحقة التي وكأنّها لازمة للنظام الرأسماليّ لا بدّ منها في كل جيل، فرضت دائماً تساؤلاً صار موسمياً على عناوين الصحف وأغلفة المجلات المؤثرة: هل كان كارل ماركس على حق؟

إن الواقع العمليّ يظهر أن (علم) الاقتصاد التقليدي – بما في ذلك الاقتصاد الماركسيّ – لا يزال بشكل عام متخلفاً عن التقدّم الهائل الذي حققه البشر في مجالات معرفية مختلفة، وعاجزاً عن توظيف الإمكانات اللانهائيّة لتكنولوجيا المعلومات الحديثة، وما زالت افتراضاته الأساسية سهلة الدّحض، وقدرته على التنبؤ محدودة للغاية، ما يجعله أقرب لعلم زائف، رغم كل المعادلات والصيغ الرياضيّة التي يرطن بها دهاقنته.

البروفيسور جوين دوين فارمير، الذي يدير برنامج الاقتصادات المعقدة في معهد الفكر الاقتصادي الجديد بجامعة أكسفورد (المملكة المتحدة)، يعتقد أنه قد حان الوقت لنقل الاقتصاد إلى مساحة العلم الحقيقي عبر تجاوز الأساليب الاقتصادية التقليديّة، والانتقال إلى ما يسميه في كتابه الجديد «فهم الفوضى: علم اقتصاد أفضل من أجل عالم أفضل – 2024» باقتصاديات التعقيد التي تنظر إلى النظام الرأسمالي الكليّ كما الأنظمة الشبيهة بالنظم الأيكولوجيّة الطبيعيّة التي تتحكم بمناخ كوكب الأرض، ومن ثم تأمل بالاستفادة من المحاكاة الحاسوبيّة العملاقة وأحدث أدوات الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بمسار الاقتصاد العالميّ ورصد كيفيّة تفاعل مليارات الأشخاص داخله، تماماً كما نبدع اليوم في التنبؤ الفعال بالطقس، ومتابعة التغيرات اللّحظية التي تطرأ عليه.

يرى فارمير أن إحدى مثالب علم الاقتصاد التقليديّ تكمن في ذلك التنوع المتناحر أحياناً في الآراء تجاه القضايا الأساسيّة في الاقتصاد، الأمر الذي يعني أن مجتمعاتنا ما زالت تتخذ القرارات الفاصلة بناء على المشاعر والمعتقدات الغريزية بدلا من موضوعيّة العلم، وهو يزعم أن اقتصاديات التعقيد توفر إمكانية لعلم اقتصاد أكثر موضوعية، حيث لا تولد الإجابات من خلال الافتراضات السابقة، بل من معطيات الواقع. ويفترض الاقتصاد القياسي أيضاً أن الأنظمة الاقتصاديّة تستقرّ وتصل على المدى الطويل إلى التوازن، لكن ذلك ليس – وفق فارمير دائماً - سوى تعميم مخل لا يعمل إلا في حالات بسيطة ومعزولة، إذ إنّه من الجليّ أن العقلانية ليست مرجعيّة حاكمة للسلوك البشري، ومن دونها، فإن الإطار الرياضي الذي يحكم النموذج الاقتصادي الحالي سينهار بكليته.

يستند فارمير في طروحاته إلى التقدّم النظريّ الهائل الذي تحقق في العقود الأخيرة ضمن فضاء نظريّة الفوضى ونمذجة الأنظمة المعقدة – أي تلك التي تتقاطع فيها العديد من الظواهر ما يخلق كلاً يختلف نوعياً عن مجموع أجزائه متفرقة - مثل الدماغ البشري، والمناخ، والنظام الرأسمالي. وبالطبع، فإن عمليّة النمذجة ليست مثالية، بمعنى أن معطياتها تعتمد أساساً على العوامل التي ستؤخذ بعين الاعتبار، وكمية ودقة البيانات المتوفرة عنها، والفترة الزمنية التي تغطيها تلك البيانات. ومع أن معظم هذه الأدوات النظريّة متوفرة منذ ستينات القرن الماضي، إلا أن البروفيسور فارمير يقول إن قوة الحوسبة في وقتنا الرّاهن أقوى بمليار مرّة مما كانت عليه في القرن العشرين، وهو ما يمنح العلماء قدرات متفوقة على التنبؤ بسلوكيات الأنظمة المعقدة عموماً والاستمرار في تحسين دقة تلك التنبؤات مع مرور الوقت.

ويعطي المؤلف في «فهم الفوضى» أمثلة واقعية من خبرته الشخصيّة المديدة عن إمكانات اقتصادات التعقيد تبدأ من عام 1975 عندما ترك كليّة الدراسات العليا وتفرّغ للتنبؤ بلعبة الروليت في دور المقامرة في لاس فيغاس، وهو أمر لم يكن متوقعاً. لكنّه نجح في بناء نموذج يتنبأ بالنتائج واستخدم أرباحه لتأسيس تعاونية مع رفاقه نجحت في بناء أول جهاز كمبيوتر يمكن ارتداؤه، كان يخفيه تحت معطفه، وينقل الحسابات إلى شريكة له كان ترتدي جهاز استشعار مخفياً لتراهن على الأرقام الفائزة. ولاحقاً – عام 1991 – أسس مستغلاً قدرته على بناء نماذج التنبؤ شركة للتداول الإلكتروني بالأوراق المالية يفوق أداؤها معدلات السوق في 19 عاماً من أصل عشرين، قبل أن يبيعها لإحدى الشركات الكبرى مقابل مائة مليون دولار في 2006.

وفي 2010، نشر مقالة له في مجلة مرموقة تنبأ فيها بأن الطاقة الشمسية ستكون أرخص من الكهرباء التي تعمل بالفحم بحلول عام 2020 مخالفاً بذلك عدداً من الاقتصاديين. وبالفعل انخفضت التكلفة وفق توقعاته، وأصبحت الطاقة الشمسية الآن أرخص من الكهرباء التي تعمل بالفحم، وتتجه تكلفتها إلى مزيد من الانخفاض.

وفي أجواء «كوفيد - 19» توقع فارمير وزملاؤه أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد البريطاني للربع الثاني من عام 2020 بنسبة 21.5 في المائة بسبب سياسات الإغلاق التي تبنتها الحكومة في ذلك الحين، في حين تنبأ بنك إنجلترا (المركزي) بانكماش للفترة نفسها بنسبة 30 في المائة. ولكن رقم فارمير وزملائه كان أقرب بشكل لافت للرقم الفعلي الذي انتهى إلى 22.1 في المائة.

ويقود البروفيسور فارمير مختبراً لسياسات المناخ، يحلل ويقيّم أساليب ومنهجيات اقتصاديّة للتعامل مع تغيرات المناخ، بما في ذلك أنجع السبل لضمان الانتقال السلس نحو اقتصاد صديق للبيئة في إطار عالمي يأخذ بعين الاعتبار الفروقات البنيوية في اقتصادات مختلف الدول.

فإذا كانت هذه القدرات متوفرة فعلاً، فما الذي يمنع الدّول من توظيفها بشكل مباشر في تفكيك أسس الاقتصاد العالمي وفهم سبل بناء تنمية مستدامة والبحث عن حلول للفقر، وانعدام المساواة، والطبقيّة السافرة؟!

يلمّح البروفيسور فارمير إلى مسألة تتعلق بنظرة الطبقات المهيمنة على الاقتصاد العالمي، التي في أغلب الأحوال لا تجد مصلحة لها في فهم جمعيّ أفضل لطريقة عمل النظام الرأسمالي، ومن ثم استخلاص سياسات قد تنهي انعدام المساواة مثلاً – سواء بين الدول – أو حتى على صعيد الطبقات في المجتمع نزولاً عند مصالح مجموعة من الأفراد المفرطي الثراء، لكنه يتوارى وراء نص ينقله عن الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور الذي يذهب فيه إلى القول إن التناقض الأساسي للنظام (الرأسمالي) مستمر لأنه لا يوجد عدد كاف من المنتفعين الذين يقبلون بالتضحية بمصالحهم على المدى القصير لمصلحة غد أفضل للجميع. على أن البروفيسور فارمير يجرؤ على الإشارة إلى أن مصلحة الحضارة الإنسانية وصيانة مستقبلها على هذا الكوكب تحتّمان أن تنتقل البشرية من التخبط في اتخاذ القرارات الاقتصادية إلى استخدام اقتصاديات التعقيد، التي دون شك تتطلب إلى جانب التزام النخبة بتنفيذ معطياتها توفير الاستثمارات الهائلة اللازمة والكوادر لمدّ النمذجة بأكبر كميّة ممكنة من البيانات من المصادر المختلفة، وهو أمر أصبح في الثورة التكنولوجية أقرب إلى الواقع منه إلى الخيال.


مقالات ذات صلة

أن تكون واقعاً في الأسر بين ماءيْن

ثقافة وفنون أن تكون واقعاً في الأسر بين ماءيْن

أن تكون واقعاً في الأسر بين ماءيْن

لم أحسب، وأنا أقلب الصفحات الأولى من رواية ليلى المطوّع «المنسيون بين ماءيْن»، أنني سأقضي أياماً حافلةً بالدهشة والمتعة والذهول، وأنا مأسور بهذا الكتاب.

أمين صالح
كتب فرتجوف كابرا

رؤية موحّدة للحياة في سياق علاقات تفاعلية معقّدة

عندما وقعتْ عيني على نسخة إلكترونية من كتاب «الطاوية والفيزياء الحديثة» لم أتأخّرْ في قراءته على الفور

لطفية الدليمي
كتب أحلام عبثية في واقع كابوسي

أحلام عبثية في واقع كابوسي

في روايته «2067»، الصادرة عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» ببيروت، يرتحل الكاتب والروائي المصري سعد القرش صوب المستقبل

منى أبو النصر (القاهرة)
كتب «مجبر على الاختيار»

«مجبر على الاختيار»

دخل علم الوراثة والأعصاب أخيراً على خط السجال، الفلسفي والإنساني حتى الثقافي، المتعلق باختيارات الإنسان، محاولاً الرد على تساؤلات الإشكالية القديمة - الجديدة

مالك القعقور
ثقافة وفنون قصص من بلاد سومر

قصص من بلاد سومر

صدر حديثاً عن منشورات «رامينا» بلندن كتاب «مدن الكلمات الصادقة» للقاصّ السوريّ عبد الرزّاق دحنون الذي يروي فيه قصصاً من بلاد سومر.

«الشرق الأوسط» (لندن)

«مجبر على الاختيار»

«مجبر على الاختيار»
TT

«مجبر على الاختيار»

«مجبر على الاختيار»

دخل علم الوراثة والأعصاب أخيراً على خط السجال، الفلسفي والإنساني حتى الثقافي، المتعلق باختيارات الإنسان، محاولاً الرد على تساؤلات الإشكالية القديمة - الجديدة، وهي: هل الإنسان مسيّر أم مخيّر؟

في مراجعة نُشرت في «الشرق الأوسط» في 5 يونيو (حزيران) 2024، لكتابين حديثين، لعالم الوراثة والأعصاب كيفن ج. ميتشل، الأستاذ بجامعة ترينتي في دبلن، وعالم الأعصاب والأحياء الأميركي روبرت سابولسكي، ألقي الضوء على التفاصيل العلمية حول كيفية تشكيل تطور أدمغتنا وتنشئها، وهل هي حاسمة في الإجابة عن سؤال: هل لدينا إرادة حرة.

ففي كتابه «الوكلاء الأحرار: كيف أعطانا التطور الإرادة الحرة»، الصادر عام 2023، عن دار «بريسنتون بريس»، يقول مؤلفه ميتشل إن الإرادة الحرة خاصية غامضة، وهي «وظيفة بيولوجية متطورة تعتمد على الأداء السليم لمجموعة موزعة من الموارد العصبية».

أما روبرت سابولسكي، فإنه يتحدث في كتابه «محدد: علم الحياة من دون إرادة حرة» الصادر عام 2023، عن دار «بنغوين بريس»، فيقول إن الأدلة العلمية على عدم وجود الإرادة الحرة تعتمد على التجارب التي تظهر أن خياراتنا الحرة الواعية يتم تحديدها من دون وعي من قِبل دماغنا قبل ثوانٍ عدة.

أعادتني تلك الأفكار، وإن كانت علمية، إلى أيام الدراسة حينما كنت أتلمس مفاتيح الفلسفة قبل سنوات طويلة؛ إذ تولدت لدي حينها، بعد دراسة «الجبرية» و«القدرية»، قناعة مفادها أن «الإنسان مجبر على الاختيار». لم أعمل على تحويل هذه الفكرة إلى نظرية، بل ذهبت بعيداً إلى فلسفة الدولة والتكنولوجيا.

الجبر والاختيار متلازمان، وليس أمام الإنسان في كل لحظة وموقف وموقع، إلا أن يختار بين خيارين فأكثر وضعا أمامه، جبراً. وهنا ثمة من يسأل: وأين «الحرية»؟ نعم، الحرية في الاختيار والوعي هما أصل الموضوع. دع عنك الأفكار المسبقة، وانظر للحظة في الظروف السابقة لأي اختيار، وعلى سبيل المثال: ورد إلى هاتفك اتصال، فماذا ستفعل؟ ستجد نفسك مجبراً على أن تختار، وبوعي وبحرية تامة، أحد الخيارين: إما أن تتجاهل الاتصال، وإما أن ترد عليه. وكلا الخيارين اختيارٌ وله نتيجة، وهكذا دواليك.

هنا أنت أمام حرية مطلقة في الاختيار، وفي الوقت نفسه مجبرٌ على أن تختار واحداً منهما. وهكذا في الأمور كلها بالنسبة إلى الناس أجمعين، سواء أكان الفرد منهم في أدنى درجات الوعي أم أقصاها. وكذلك هو الأمر بالنسبة إلى كل الأمور، من أبسطها إلى أعظمها. الإنسان مجبر على أن يختار، وهذا ليس طرحاً توفيقياً بين «المسيّر» و«المخير»، بل هو واقع نعيشه كل لحظة... وتبسيط لمسألة معقّدة حتى وإن التحق علم الأعصاب في جدالها.