«من لندن إلى مكة»... أول رحلة حج لامرأة بريطانية

ليدي إيفلين تصفها بأنها «أعظم تجارب البشرية الملهمة»

ليدي إيفلين كوبولد
ليدي إيفلين كوبولد
TT

«من لندن إلى مكة»... أول رحلة حج لامرأة بريطانية

ليدي إيفلين كوبولد
ليدي إيفلين كوبولد

تفاصيل مدهشة مفعمة بالروحانيات، يكشف عنها كتاب «من لندن إلى مكة – رحلة حج أول امرأة بريطانية»، الصادر عن دار «السراج» بالقاهرة؛ حيث تروي مؤلفته، ليدي إيفلين كوبولد، وقائع رحلتها للحج في مكة، بوصفها أول امرأة أوروبية تُقدم على هذه الخطوة، بإذن خاص من الملك عبد العزيز آل سعود، عام 1933، بعد أن أشهرت إسلامها وأطلقت على نفسها اسم «زينب».

يجمع الكتاب بين طرافة أدب الرحلات في رصد الحياة في الشرق بعيون غربية موضوعية منصفة، وبين حميمية أسلوب اليوميات واعتنائه بالتفاصيل اليومية البسيطة.

وتنتمي ليدي إيفلين إلى عائلة أرستقراطية في أسكوتلندا، معروفة بحبها للسفر والترحال واستكشاف العالم. واستغرقت رحلتها للحج، وهي في الخامسة والستين من العمر، أقل من شهرين، في الفترة من 22 فبراير (شباط) إلى 21 أبريل (نيسان) والتي وثقتها في كتاب عام 1934 بعنوان «الحج إلى مكة» وبتغيير طفيف في العنوان ترجمته هبة هنداوي.

توفيت ليدي إيفلين عام 1963 وهي في الخامسة والتسعين، ودُفنت في جبال أسكوتلندا التي تحبها، بحضور إمام مسجد وعازف قِرَب، حسب وصيتها التي تضمنت أيضاً كتابة الآية الكريمة «الله نور السماوات والأرض» على قبرها.

البداية شمس الجزائر

تشير المؤلفة في البداية إلى أنها في سنوات طفولتها الأولى، كانت تسافر بصحبة والديها خارج أسكوتلندا، لتتجنب العائلة شهور الشتاء الباردة، وتمكث في تلال على أطراف العاصمة الجزائرية، طمعاً في شمسها الدافئة. هناك تعلمت اللغة العربية، وبعد قضاء 3 سنوات في فيلا جميلة، غادرت الأسرة منزلها الجزائري للأبد، وحزنت المؤلفة كثيراً لفراق أصدقائها.

توالت السنون، وحدث أن كانت في زيارة عند بعض الأصدقاء الإيطاليين في روما، وسألها صاحب البيت إن كانت ترغب في لقاء بابا الفاتيكان شخصياً. تحمَّست للفكرة بالطبع، وارتدت لباساً أسود سابغاً، وخمار رأس طويلاً، لتمثل في حضرته المهيبة مع صديقتها وشقيقها، وفجأة وجَّه قداسة البابا كلامه إليها، بسؤالها إن كانت كاثوليكية أم لا، فارتبكت لوهلة، ثم أجابته بأنها مسلمة!

وتؤكد أنها لا تعلم حقيقة ماذا حل بها لتنطق بهذا؛ لكن كان هذا الموقف بمثابة جذوة اشتعلت في وجدانها وعقلها، أنارت لها طريق البحث والدراسة حول هذا الدين، حتى رست أخيراً على شواطئه عن قناعة وتأثير روحاني فائق، غمر كيانها وعقلها.

وظلت تجربة الحج تداعب خيالها، باعتبارها «أعظم تجارب البشرية الملهمة» من حيث الوجود في بقعة مقدسة وسط حشود هائلة جاءت من جميع أقطاب الأرض. تحدثت في هذا الأمر مع سفير المملكة العربية السعودية آنذاك في لندن، الشيخ حافظ وهبة، فوعدها بأن يسعى لتنفيذ حلمها، وأن يرفع طلبها لكبار المسؤولين في بلاده. وبناء عليه قررت السفر إلى السعودية لقضاء بعض الوقت في انتظار السماح لها بالحج، مع خطة بديلة بأن تستكمل رحلتها في مصر على ضفاف النيل؛ إذا لم يُلبَّ طلبُها.

في 22 من فبراير 1933، وصلت إلى مدينة بورسعيد المصرية، ومنها إلى السويس، في رحلة بقطار مزدحم، وهناك عاصفة رملية. كان رفيقها في المقصورة بحار إنجليزي يعمل قبطان سفينة شحن، والذي قصَّ عليها كثيراً من حكايات الحياة المسلية وغرائب الدنيا التي رآها. مر الوقت سريعاً بفضل حديثه المشوق، ثم اتجهت من السويس إلى مدينة بورتوفيق، للحاق بالباخرة الإيطالية «ميسواه» المتجهة إلى جدة؛ حيث توجد على متنها قمرة محجوزة باسمها.

اكتشاف جدة

تروي المؤلفة كيف وصلت إلى جدة بعد رحلة بحرية استغرقت أربعة أيام. «المنظر على الشاطئ ومن المرفأ مذهل؛ حيث تتبدى جدة مدينة لونها مزيج من الأبيض والبني، وتشبه الحصن؛ حيث تحدها حوائط عالية من جوانبها الثلاثة، وتطول مآذنها علواً». وافقت على عرض من عائلة مستر «فيلبي» لاستضافتها في منزلهم بالمدينة، وهو بريطاني مسلم ومقرب من الملك، كما أنه مغامر معروف جاب الجزيرة العربية من البحر للبحر، واجتاز صحراء الربع الخالي.

يمر على ليدي إيفلين كثير من الحجيج في طريقهم للأراضي المقدسة، بعضهم في سيارات، والبعض الآخر على ظهور الجمال، بينما لا يجد الفقراء منهم إلا أقدامهم ثابتة الخطى نحو وجهتهم. الشتاء جاف بلا أمطار؛ لكن الجِمال تستطيع تدبير أمرها بالتهام الأعشاب القاسية التي تتحدى التربة القاحلة.

في جدة كذلك، زارت كثيراً مقر المفوضية الأوروبية. ورغم أن عدد النساء الأوروبيات قليل مقارنة بالرجال الذين يتجاوز عددهم الثلاثين، فإن الجميع سعداء رغم شدة حرارة الطقس والرطوبة معظم شهور السنة.

عاد السيد فيلبي من مكة، وأخبرها بأنه لم يبقَ سوى انتظار قرار الملك بمنحها حق دخول الأراضي المقدسة. في 12 مارس (آذار) هلت الأخبار السعيدة بأنه قد سُمح لها بأداء الحج في مكة، وزيارة المدينة كذلك، بعد أن عاشت نوبات متفاوتة من الأمل واليأس.

كان اهتمامها الأوحد هو تجهيز ملابس الحج الخاصة بها، وهي تنورة سوداء من قماش «الكريب»، وعباءة بلا كُمَّين تطرحها على كتفها، ومثبت بها غطاء رأس لترتديه فوق ملابسها عند زيارة المدينة المنورة، وغطاء وجه أسود لا يصف ملامحها. أما في مكة فسترتدي الملابس البيضاء، فمن غير المسموح ارتداء الملابس الملونة. أعطتها زوجة السيد فيلبي وسادة وغطاء؛ حيث ستضطر فيما يبدو إلى قضاء الليل في الصحراء.

شدت القافلة الرحال للمدينة مباشرة بعد صلاة الفجر، واستأجرت سيارة لاستخدامها خلال العشرين يوماً فترة الحج. السائق عربي مُلم بالطريق، ويرافقه مصطفى نذير، وهو شخص مهذب أعارها إياه السيد فيلبي ليرافقها في رحلتها، على أن تكون مهمته القيام على راحتها وإرشادها، وقد أثبت جدارته في ذلك.

كان في صحبتها أيضاً شيخ سوداني طاعن في السن، وهو والد الطباخ، وقد أتى من مدينة دنقلة لأداء الحج، وكان ممتناً لها بشدة عندما عرضت عليه أخذه إلى مكة، لدرجة أنه أراد تقبيل قدمها.

تقول المؤلفة: «كان اسمي الجديد في جواز السفر السيدة زينب. مررنا بالمدينة المنورة أولاً. أيقظني صوت أذان الفجر، ومن خلال شباك صغير في اتجاه الجنوب رأيت في الأفق المآذن الطويلة، وقبة مسجد الرسول الخضراء، فطربت لفكرة أنني على بعد خطوات من مسجدٍ له هذه المكانة العظيمة في الإسلام. سَرَت رعشة في بدني من هيبة الموقف، وخلعت حذائي، وعبرت العتبة التي اجتازها عدد قليل من الرجال الأوروبيين، ولم تطأها قدم أي امرأة أوروبية من قبل».

هيبة وفرح

وصلت أخيراً إلى البيت الذي ستقيم فيه في مكة إلى حين انتهائها من مناسك الحج. استقبلها صاحب البيت، وولداه أخذاها لقاعة كبيرة تشرف على عدد من الغرف تعلوها غرف أخرى. صعدت بعض الدرجات المرتفعة؛ لكنها كانت منبسطة وسهلة. الجناح المخصص لها في الطابق الثاني، وهو رحب وفسيح، به غرف صغيرة وأخرى أكبر منها، تحيط بجدرانها الوسائد والأرائك الوثيرة، كما هو المعتاد، وبالجناح سرير بأعمدة معدنية، أحضروه خصيصاً لراحتها، ويغطيه مفرش مطرز برسومات بديعة، وتحيطه ستارة شبكية للوقاية من الناموس.

تصف المؤلفة لحظة دخولها إلى المسجد الحرام ورؤيتها الكعبة، قائلة: «تتابعت خطواتنا على الرخام المصقول حتى وصلنا لقدس الأقداس، بيت الله. يقف هذا البناء المهيب مكعب الشكل الذي لا يضن ملايين المسلمين بأرواحهم في رحلة الوصول إليه، في مهابة وإجلال. يغطي الكعبة غطاء أسود طُرِّزت عليه آيات من القرآن بخيوط ذهبية، يحيط الحجاج بقاعدتها، وهم يرددون الأدعية كما يلقيها عليهم المطوِّف».

تقول المؤلفة: «لا يستطيع قلم وصف هذا المشهد الجليل، شعرت بضآلتي وأنا أقف هنا تعصف بي المشاعر المتضاربة من الهيبة والفرحة. فرد صغير وسط الإنسانية الكبيرة، وتتملكني أحاسيس وعواطف شتى، وحماسة دينية لم أعهدها من قبل. الدموع تبلل وجوه الحجاج من حولي، وتنهمر على خدودهم كالأنهار، بينما رفع غيرهم رؤوسهم في اتجاه السماء التي تزينها النجوم اللامعة، والتي شهدت هذه الجموع الغفيرة عبر قرون متتالية. اهتزت مشاعري ونبض قلبي أمام العيون المتلألئة بالعبرات والأدعية المخلصة الملحَّة، والأيادي الممتدة رجاء العفو والمغفرة، كما لم تفعل من قبل. اعترتني حالة روحانية لم أشهدها سابقاً. كنت واحدة من جموع الحجيج في حالة سامية من التسليم التام لإرادة الله، وهي روح الإسلام وغايته. انضممت للحشود التي تطوف حول الكعبة، وقد كللني الرضا والإجلال».

وتروي المؤلفة كيف غادرت سيارتها وصعدت للمصطبة الأولى؛ حيث يوجد مكان اسمه «مصلى آدم». ويقال إن آدم -عليه السلام- صلى فيه لأول مرة على الأرض. لقد انتهت مناسك الحج، وجلس كثير من الحجاج للراحة، ومن وراء الصخور كثيرون غيرهم، في مرمى البصر جبل عرفات يكتظ بالحجاج، وترى جماعة من أهل اليمن الذين قضوا كثيراً من الأشهر في الطريق ليصلوا إلى هذا المكان.

وتختم المؤلفة رحلتها الروحانية الشيقة قائلة: «عُدت لبيتي الصغير، تحيطني تفاصيل حياتي التي اعتدت عليها. أتراني كنت أحلم طوال هذه المدة؟ تكفيني نظرة لدفتر مذكراتي، لأدرك أن كل هذا كان حقيقة مطلقة. ستحمل روحي للأبد متعة الرضا والسعادة التي عشتُها، لم تحمل لي الأيام السابقة إلا الخير والجمال والدهشة. لقد اكتشفت عالماً جديداً مذهلاً».


مقالات ذات صلة

«المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

ثقافة وفنون «المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

«المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

رغم وفاته في سن السادسة والثلاثين، فإن الكاتب المسرحي والمخرج السينمائي والممثل الألماني راينر فيرنر فاسبندر (1945 - 1982) ترك وراءه كنزاً من الإبداع

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق المعرض يشهد استحداث ممر تكريمي للشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن (وزارة الثقافة)

تجلّيات الثقافة والفكر تُزيّن معرض الرياض الدولي للكتاب

المعرض يُعدّ تظاهرة ثقافية وفكرية سنوية بارزة بالمنطقة تجسّد منذ عقود الإرث الثقافي للمملكة وترسّخ ريادتها في صناعة الثقافة وتصدير المعرفة.

عمر البدوي (الرياض)
خاص الحجيلان يكشف حدود الدور الفرنسي في تحرير المسجد الحرام play-circle 01:52

خاص الحجيلان يكشف حدود الدور الفرنسي في تحرير المسجد الحرام

في الحلقة الأخيرة من مذكراته، يوضح رجل الدولة السعودي الشيخ جميل الحجيلان، حقيقة الدور الفرنسي في جهود تحرير الحرم المكي الشريف من مجموعة جهيمان العتيبي.

بندر بن عبد الرحمن بن معمر (الرياض)
يوميات الشرق تبدأ فصول من المعرفة والفكر والثقافة على مدى 10 أيام من عمر المعرض (واس)

رحلة معرفية جديدة تنطلق في معرض الرياض الدولي للكتاب 2024

تنطلق (الخميس)، التظاهرة الثقافية الدولية للكتاب، تحت شعار «الرياض تقرأ»، التي تبدأ معها فصول من المعرفة والفكر والثقافة.

عمر البدوي (الرياض)
كتب دليل من أجل الحكم الرشيد

دليل من أجل الحكم الرشيد

أسئلة مهمة يطرحها هذا الكتاب بشأن السمات والمهارات وطرائق التفكير التي تصنع القائد الناجح، ويقترح عليهم مؤلفه من وحي خبرته الشخصيّة أموراً ينبغي للقادة فعلها - أو تجنُّب القيام بها - للحصول على صيت خالد في التاريخ.

ندى حطيط (لندن)

كيف تنخرط الجامعات الإسرائيلية في حرب إلغاء الفلسطينيين؟

مايا ويند
مايا ويند
TT

كيف تنخرط الجامعات الإسرائيلية في حرب إلغاء الفلسطينيين؟

مايا ويند
مايا ويند

ساهمت التظاهرات الطلابيّة التي شهدتها جامعات ومؤسسات تعليمية في الولايات المتحدة وعدد من دول الغرب احتجاجاً على العدوان المستمر على قطاع غزّة في إلقاء الضوء على نكبة الفلسطينيين، وعرّفت ملايين الغربيين العاديين بالمذبحة التي يتعرّض لها سكان قطاع غزّة منذ أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لكنّها كشفت أيضاً، وفي إطار سعي الطلاب لمد جهود مقاطعة إسرائيل إلى فضاء الثقافة والتعليم، عن تشبيك ممنهج ومقونن وعميق بين المؤسسات الأكاديميّة الغربيّة ونظيراتها في الدّولة العبريّة يصل إلى حد الشراكة التامة أحياناً، ولا سيّما في القطاعات المعرفيّة المتعلقة بتطبيقات التكنولوجيا الحديثة في مجالات الدّفاع والأمن والتجسس.

وقد تبيّن أيضاً أن تلك الشراكات قد تكون محميّة بغطاء قانوني يمنع الفكاك منها، ويتلقى كثير منها استثمارات ومنحاً ممولة من الموازنات العامة إلى جانب القطاع الخاص.

وقد يبدو الأمر من بعيد ودونما تمحيص نتاج جهد أكاديميّ متفوّق تقوم به الجامعات العبريّة، وحرصاً في المقابل من جامعات الغرب على دعم تقدّم المعارف والعلوم في ذلك الكيان الغربيّ الهوى المزروع في قلب الشرق. لكن الحقيقة أن المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية منذ ما قبل تأسيس الكيان وإلى اليوم جزء لا يتجزأ من النظام الاستعماري الاستيطاني على الأرض الفلسطينية، وهي تلعب أدواراً أساسيّة في القمع المستمر للشعب العربي الفلسطيني، وفق ما تقول الدكتورة مايا ويند، في «أبراج العاج وفولاذ: كيف تنكر الجامعات الإسرائيلية الحرية الفلسطينية - 2024»، كتابها الأحدث الذي صدر عن «دار فيرسو للكتب» مؤخراً.

في ستة فصول تروي الدكتورة ويند بنفس علمي رصين تاريخ المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية منذ بدايات القرن الماضي وإلى اليوم، وهي حكاية تسبق بعقود قيام إعلان الدولة العبريّة - بعد حرب 1948 - إذ كانت مؤسسات نشأت في ظل الانتداب البريطاني على فلسطين (مثل معهد إسرائيل للتكنولوجيا «تخنيون حيفا» - 1912، والجامعة العبرية بالقدس - 1925، و«معهد وايزمان» في رحوفوت بالقرب من تل أبيب - 1934) بؤراً أمامية متقدمة للمشروع الصهيوني في الزّمان والمكان، على حد سواء، وأسهمت بشكل فاعل في تعزيز صيغة «التهويد» في الأراضي الفلسطينية - على حد تعبير المؤلفة - وتسوية الطريق أمام الدولة الجديدة، ومدّها بالكوادر وطرائق العمل والآيديولوجيا أيضاً.

لقد أصبحت هذه المؤسسات، إلى جانب غيرها مما أطلق بعد حرب 1948، نقاط الارتكاز الأساسيّة التي يستند إليها مجمع صناعي عسكري جديد يكمل ويتكامل مع المجمع الصناعي العسكري للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، فكأنّها مستوطنة مختبرات أبحاث تابعة للشركات العسكرية الأميركيّة الكبرى تتولى لصالحها تطوير روبوتات القتل الآلي وأدوات المراقبة ومعدات السيطرة على الحشود وأدوات التعذيب، ومن ثمّ تسهيل تسويقها كمنتجات تم اختبارها بالفعل (في المعركة ضد الفلسطينيين العزل). ولهذا لم يكن مستغرباً مثلاً أن وصف الرئيس التنفيذي لشركة «إلبيت» لصناعة الأسلحة معهد «تخنيون حيفا» بأنه «الحمض النووي لإلبيت».

وعلى أيّ حال، لا يتوقف دور الجامعات في «الدولة الأمنية العلمية»، على حد تعبير ويند، عند تطوير الطراز الأحدث من درونات المراقبة والقتل، بل وتقوم أيضاً بدور مراكز تأهيل وتدريب متقدّم لكوادر الاستخبارات والأمن والجيش، ناهيك عن أن أراضيها المسروقة من مالكيها الفلسطينيين تستضيف مكونات من البنية التحتية الحيوية للاتصالات العسكريّة، ومواقع ومراكز يديرها الجيش الإسرائيلي مباشرة، في دمج كليّ مروّع للجامعات في منظومة الدّفاع والأمن. وتقول ويند إنها استوحت اسم كتابها (أبراج من عاج وفولاذ) من برج جامعة حيفا الشاهق الذي كان آخر طوابقه الـ31، وحتى وقت قريب، مقراً للجيش، وتحته تماماً الطابق الذي يضم إدارة الجامعة.

وبغير هذه الأدوار ذات الطبيعة الدفاعية - الأمنية، فإن الجامعات والمؤسسات الأكاديمية في إسرائيل تقوم بدور موازٍ في مساحات التعليم والثقافة والأدلجة، فتبيض مشروع الاحتلال الصهيوني، وتبرر جرائمه بحق الفلسطينيين والعرب، وتكرّس أسطورة «الديمقراطية الليبرالية الوحيدة في الشرق الأوسط» المخصصة لاستهلاك المواطنين الغربيين العاديين. وهذا الدّور الموازي يتطلّب بالضرورة تشويه معطيات الأبحاث في مختلف مجالات المعرفة كي تتطابق مع السرديّة الصهيونية، وقمع أصوات المفكرين والعلماء التي قد تخرج عن الخطوط المصرّح فيها، والتضييق على الطلبة الفلسطينيين فيها ممن فرضت عليهم الهويات الإسرائيلية (في الأراضي التي احتلت في عام 1948، والقدس). وهذا الجانب الأخير يأخذ بعداً آخر تماماً عند دراسة استهداف سلطات الاحتلال للجامعات الفلسطينية، ولطلبتها. ولعل التدمير الكلي لجامعات غزة وتصفية كوادرها التعليمية وحرق مكتباتها وتجهيزاتها البحثية خلال العدوان المستمر على القطاع تفسير عملي مباشر لمنطق الدّولة العبرية فيما يتعلّق بـ«الحريات الأكاديمية» للفلسطينيين.

مؤسسات نشأت في ظل الانتداب البريطاني على فلسطين، بؤر أمامية متقدمة للمشروع الصهيوني

وهكذا نذهب إلى استنتاج صادم لا بدّ منه: إن كل تعاون دولي مع الجامعات والمؤسسات التعليمية الإسرائيليّة - تحت غطاء التبادل المعرفي والتلاقي الأكاديمي والأبحاث المشتركة - انخراط آثم في التمكين للمشروع الصهيوني، وتآمر متعمد لمنح سلطات الاحتلال الاستيطاني ورقة توت تواري بها سوءة ممارساتها الإجرامية بحق الوجود الفلسطيني على الأرض الفلسطينية، وأن كل جدل بشأن حريّة البحث العلمي (للمؤسسات) والحريات الأكاديمية (للأفراد) ينقلب مغالطة عندما يتعلق الأمر بالكيانات الجامعية الإسرائيلية وبالأكاديميين الإسرائيليين، إذ «لا توجد حرية أكاديمية أصلاً حتى تنطبق على الجميع»، على حد تعبير المؤلفة.

ينضم كتاب «أبراج من عاج وفولاذ» إلى كتب مثل «فلسطين مختبراً: كيف تصدر إسرائيل تكنولوجيا الاحتلال حول العالم - 2023» لأنتوني لوينشتاين، و«الحرب البيئية في غزّة: العنف الاستعماري وآفاق المقاومة الجديدة - 2024» لشريدة مولوي، وعدة كتب أخرى صدرت في الآونة الأخيرة يتصدى مؤلفوها، وهم أكاديميون شبان شجعان، وللمفارقة فإن بعضهم من أصول يهودية أو يحملون جنسيات إسرائيلية، لتفكيك الصّورة التي رسمها الإعلام الغربي خلال ثمانين عاماً عن واحة مزعومة للديمقراطية والحضارة في قلب صحراء الهمجيّة، ورفع الستار عن جوانب يتم تجليها عمداً حسب أساليب «الترجمة حتى النّخاع» التي تقوم بها الدّولة العبرية للأرض الفلسطينية، وللفلسطينيين، وللتاريخ أيضاً.

 

«أبراج العاج والفولاذ»

Towers of Ivory and Steel: How Israeli Universities Deny Palestinian Freedom by Maya Wind, Verso, 2024

المؤلفة: مايا ويند

الناشر: دار فيرسو للكتب

2024