الدولة أمام «توحش» التكنولوجيا في كتاب جديد

علاقات شائكة وسيناريوهات تعيد قراءة مفهومها وسيادتها

غلاف كتاب «فلسفة الدولة» (الشرق الأوسط)
غلاف كتاب «فلسفة الدولة» (الشرق الأوسط)
TT

الدولة أمام «توحش» التكنولوجيا في كتاب جديد

غلاف كتاب «فلسفة الدولة» (الشرق الأوسط)
غلاف كتاب «فلسفة الدولة» (الشرق الأوسط)

أربكت موجات متلاحقة من التطورات التكنولوجية شهدها العالم خلال العقدين الماضيين مفهوم الدولة، انطلاقاً من التقدم العلمي الذي تجلّى في اختراعات وابتكارات تتصاعد كل يوم، مروراً بالوفرة الاتصالية عبر الإنترنت، وصولاً إلى تطبيقات متناهية الصغر تبدأ من الروبوتات وتنتهي إلى الصواريخ العابرة للقارات.

اتخذت تلك التطورات طابعاً كونياً، ووصلت لدرجة من التعقيد في التعامل مع الأجسام متناهية الصغر في حياتنا، ومتناهية البعد في المجرات الأخرى، كل ذلك عبر الأجهزة والتقنيات والشبكات التي حطمت الحدود وقربت المسافات واخترقت كل الأسوار، وأصبحت خطراً يهدد سيادة الدولة بمفهومها التقليدي وأقانيمها الثلاثة (الأرض –الشعب - السلطة).

ومن ثم، أصبح العالم بين خيارين: إما أن تتمكن الدولة من ترويض «وحش التكنولوجيا» الذي أصبح يشكل تهديداً وجودياً لها، أو يفرض «الوحش» شروطه ويقدم مفهوماً جديداً للدولة على مقاسه.

يطرح الدكتور مالك محمد القعقور، الإعلامي اللبناني، تلك الإشكالية بتوسّع في كتابه «فلسفة الدولة أمام التكنولوجيا الكونية»، متتبعا نشأة فكرة الدولة منذ عصر الإغريق وحتى العصور الوسطى وانتهاء بالعصر الحديث، كما يرصد تطورات التكنولوجيا منذ عصر الحرف وحتى عصر البخار ثم الأتمتة، وانتهاء بالعصر النووي.

يشير الكتاب الصادر عن دار أوراق بالقاهرة إلى التفاعل والمنفعة المتبادلة بين الدولة والتكنولوجيا، فالدولة توفر سبل وإمكانيات البحث والتطوير للتكنولوجيا، فيما توفر التكنولوجيا أدوات وآليات تخدم الدولة في مناح مختلف اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وحتى استعماريا.

ويشير المؤلف إلى أن هذه العلاقة التبادلية تغيرت بمرور الزمن، فمع ظهور فكرة العولمة وتحوّل العالم إلى قرية صغيرة، وهو ما يطلق عليه الكاتب مصطلحات مثل «الكوكبة» و«الكونية» و«الشوملة»، تصاعد دور الشركات متعددة الجنسيات التي وصل عددها إلى عشرات الآلاف، بحسب ما ورد في الكتاب. موضحا أن الأقانيم الثلاثة التقليدية، التي كانت تحدد مجال الدولة (أرض وشعب وحكومة)، تحولت إلى أرض وفرد يمتلك مجالاً افتراضياً وشعبا وحكومة، فالتعريف التقليدي للدولة بأنها «تجمع سياسي يؤسس كياناً ذا اختصاص سيادي في نطاق إقليمي محدد، ويمارس السلطة عبر منظومة من المؤسسات الدائمة». لم يعد دقيقاً أو يعبر عن الواقع.

يعزو ذلك إلى أن التكنولوجيين ممثلين في شركات عملاقة عابرة للقارات تجاوزوا دور الدولة، بل أصبحوا يهددون وجودها، وبدأت تظهر تساؤلات حول جدوى «الدولة» وهل هي ضرورية؟ ويستشهد الكاتب، في الكتاب الذي يقع في 372 صفحة، برأي الفيلسوف الفرنسي جاك إلّول (1912 - 1994) في كتابه «خدعة التكنولوجيا» بأن الدولة تذوي ويحل محلها تنظيم اجتماعي غير سياسي مؤسس على نوع معين من المعرفة.

الشركات الكبرى تمكنت من إلغاء الحدود بين الدول، والتغاضي عن القوانين المحلية، مما أثّر على الدولة اقتصادياً واجتماعياً بشكل سلبي، وهناك مثال يطرحه الكتاب في النزاع بين شركة «أبل» والسلطات الفيدرالية الأميركية التي طلبت فك شفرات أجهزة أيفون لمشتبه في تورطه بجرائم إرهاب.

فحين حاولت الدولة مراقبة وسائل الإعلام والاتصالات لمعرفة ما يدور في خلد المواطنين، أو حتى لحماية نفسها أو مجالها السلطوي وجدت نفسها في مواجهة منظومة معقدة من التطور التقني تكاد تكون خارج السيطرة.

كل ذلك انعكس على مفهوم الإنتاج وأدواته ومن ثم على وظائف الدولة، فيمكن استبدال الآلة بالعمالة، وأصبحت هناك تهديدات شاملة عابرة للقوميات، وأخطار مرتبطة بالإنتاج الكيماوي والذري شديد التطور، مما أثّر في دلالات مفاهيم مثل الزمان والمكان والدولة والأمة.

يلفت الكتاب إلى تغيّر مفهوم السيادة في القرن الماضي، مع تطور التكنولوجيا وثورة الاتصالات والمعلومات، وتبدّل قوانين التجارة الدولية وآلياتها بطريقة أصبحت تنتهك السيادة الوطنية، برضا السلطات أو غير رضاها، كما ظهرت إمبراطوريات إعلامية ومؤسسات ومنظمات دولية غير حكومية تخرق سيادة الدول.

تلك التطورات خلقت صراعاً بين الدولة والمواطنين، ساحته شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، الطرفان يتنازعان على أحقية كل منهما في السيادة الافتراضية، فبعد أن كانت السلطة في يد الدولة انتقلت إلى يد الشبكة أو التفاعل بين الشبكات، فالأخيرة أصبحت تتنافس مع الدولة للهيمنة على «المواضيع الساخنة» وإبرازها أمام العالم.

الفلسفة التي أسست مفهوم الدولة، وسبق أن حذرت من مخاطر التكنولوجيا إذا تفلتت من سيطرة الإنسان، يجب أن تتصدى للمأزق الراهن الذي تواجهه الدولة، ويجب إعمال التفكير النقدي في «غربلة» المعلومات للوصول إلى الحقيقة لأنه السبيل الوحيد لعدم تحول البشر إلى «حشود جاهلة» يجرفها في طريقه «فيضان الإلكترون».

د. مالك القعقور

وتدخلت التكنولوجيا وثورة الاتصالات على الشبكة العنكبوتية في الكثير من الأحداث الكبرى، منها جماعة «أنونيموس» المعروفة بالقرصنة الإلكترونية منذ عام 2003، ولهم تعريف مجازي شائع بأنهم «الدماغ العالمي الرقمي اللاسلطوي»، وكان لهذه الجماعة دور في الهجوم على مواقع حكومية مثل موقع وزارة العدل الأميركية.

وقدمت الحركة الدعم الفني لعدد من الثورات العربية وحركة «احتلوا وول ستريت»، وتبنى الثوار في أكثر من دولة شعار الحركة وهو قناع «غاي فوكس» المعروف بـ«فنديتا». من هنا تتكون عصبيات افتراضية، من القبيلة إلى «فيسبوك»، لتشكل البنية الاجتماعية الجديدة في المجتمع الكوني الكبير.

ويتناول الكتاب نموذج المدن الجديدة (ما دون الدولة) التي تحظى بنشاط إنتاجي مميز في مجال معين، وتعرف باسم الدولة المصغرة تتعامل بشكل مستقل عن الدولة أحياناً، ويصل الأمر لدرجة أن يكون لها تمثيل دبلوماسي عبر بعثات تحت شعار الدولة الأم.

ومن مخاطر تشريد العمال إلى تطوير الأسلحة إلى التحكم في الجينات البشرية يتحول التطور التكنولوجي إلى ما يشبه «صندوق بندورا»، الذي يحمل كل شرور العالم، فهو منظومة متضخمة تعجز السياسة أمامها، ومن خصائصها الاستقلال الذاتي، كما أنها تسير وتنتشر في كل أنحاء العالم وفق قوانينها الكونية.

من هنا تصبح الدولة في حاجة إلى تعريف آخر أو إطار جديد يحتويها ويحدد دورها ووظائفها، بعد أن تآكل مبدأ السيادة على جميع الجبهات (الأرض - الشعب - السلطة).

يطرح الكتاب أربعة سيناريوهات محتملة لشكل الدولة الجديد في ظل التطور الهائل للتكنولوجيا الكونية. السيناريو الأول: أن تحل الشركات متعددة الجنسيات محل الدولة، وتتنازل الدولة عن أجزاء من سيادتها لتلك الشركات. السيناريو الثاني: أن تستمر سيادة الدولة وتخسر جزءاً من وظائفها الاقتصادية والمالية. السيناريو الثالث: تشكيل حكومة عالمية (دولة كوكبية) تتنازل لها الدول القومية عن سيادتها. السيناريو الرابع: تفكيكي؛ ومفاده أن تتحول الدولة إلى مئات من الدول القومية الصغيرة بدواع مختلفة.

في النهاية يعلي القعقور من قيمة «التفكير النقدي» وقدرته على تقييم ما سيحمله الغد، مشيراً إلى أن الفلسفة التي أسست مفهوم الدولة، وسبق أن حذرت من مخاطر التكنولوجيا إذا تفلتت من سيطرة الإنسان، تتصدى للمأزق الراهن الذي تواجهه الدولة، وأن إعمال التفكير النقدي في «غربلة» المعلومات للوصول إلى الحقيقة هو السبيل لعدم تحول البشر إلى «حشود جاهلة» يجرفها في طريقه «فيضان الإلكترون».


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو
TT

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

في روايتها «عشبة ومطر» دار «العين» للنشر بالقاهرة - تختار الكاتبة الإماراتية وداد خليفة الثقافة العربية سؤالاً مركزياً حائراً بين واقع مشوّش ومستقبل مجهول، حيث تبدو اللغة والتاريخ وكأنهما ينازعان أنفاسهما الأخيرة للصمود داخل قِلاعها العربية نفسها.

وتعتمد الروائية على تقنية الأصوات المتعددة لتعميق صراعات أبطالها مع عالمهم الخارجي، حيث تتشارك كل من بطلة الرواية «عشبة» وابنها «مطر» في نزعة تراثية جمالية يتفاعلان من خلالها مع دوائرهما التي يبدو أنها تتنصّل من تلك النزعة في مقابل الانسحاق في مدّ «الثقافة العالمية» المُعلبّة، ولغة التواصل «الرقمية»، فتبدو بطلة الرواية التي تنتمي إلى دولة الإمارات وكأنها تُنازِع منذ أول مشاهد الرواية من أجل التواصل مع محيطها الأسري بأجياله المتعاقبة، حيث تُقاوم النزعة «السائدة» في ذلك المجتمع العربي الذي بات أفراده يتحدثون الإنجليزية داخل بيوتهم، ولا سيما أجيال الأحفاد وسط «لوثة من التعالي»، «فهؤلاء الأبناء لا يعرفون من العربية سوى أسمائهم التي يلفظونها بشكل ركيك»، في حين تبدو محاولات «عشبة» استدراك تلك التحوّلات التي طرأت على المجتمع الإماراتي أقرب لمحاربة طواحين الهواء، فتأتيها الردود من محيطها العائلي مُثبِطة؛ على شاكلة: «لا تكبّري المواضيع!».

صناديق مفتوحة

يتسلل هذا الصوت النقدي عبر شِعاب الرواية، فتبدو «عشبة» مهمومة بتوثيق العلاقة مع الماضي بذاكرته الجمعية التي تتقاطع مع سيرتها الشخصية منذ تخرجها في معهد المعلمات بإمارة الشارقة وحتى تقاعدها، لتعيد تذكّر تفاعل جيلها مع كبريات التغيّرات السياسية سواء المحلية، وعلى رأسها المخاض الطويل لاتحاد الإمارات العربية المتحدة، وحتى سياقات الحروب والنكبات العربية منذ حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وصولاً لمجازر «صبرا وشاتيلا» الدامية في لبنان 1982 والنزف الفلسطيني المُستمر، في محطات تجترها البطلة بعودتها إلى قصاصات الأخبار التي ظلّت تجمعها وتحتفظ بها من مجلات وصحف عربية لتؤرشفها وتُراكمها عبر السنوات داخل صناديق، ليصبح فعل تقليبها في هذا الأرشيف بمثابة مواجهة شاقّة مع الماضي، بينما تبدو الصناديق والقصاصات الورقية مُعادلاً للحفظ الإلكتروني والملفات الرقمية التي قد تتفوق في آلياتها وبياناتها، وإن كانت تفتقر إلى حميمية الذكرى، وملمس المُتعلقات الشخصية التي تنكأ لديها جراح الفقد مع كل صندوق تقوم بفتحه: «أعدت غطاء الصندوق الذي يحتاج مني إلى جرأة أكبر لنبشه، ففي الصندوق ثوب فلسطيني طرَّزته أمٌ ثكلى من بئر السبع... أم صديقتي سميرة أخت الشهيد، ودفتر قصائد نازقة دوّنته صديقتي مها من غزة... صورٌ لزميلاتي بالعمل من جنين ونابلس ورام الله... رسائل من صديقتي ابتسام المقدسية... ومن حيفا مفارش مطرزة من صديقة العائلة أم رمزي».

بالتوازي مع تنقّل السرد من حكايات صندوق إلى آخر، يتصاعد الصراع الدرامي لبطل الرواية «مطر» الخبير في تقييم التُحف، الذي يقوده شغفه بمجال «الأنتيك» والآثار القديمة لتتبع مساراتها في مزادات أوروبية تقترب به من عالم عصابات مافيا القطع الأثرية، كما تقوده إلى الاقتراب من حكايات أصحاب القطع الأثرية التي تُباع بالملايين في صالات الأثرياء، كحكاية «مرآة دمشقية» ظلّ صاحبها يتتبعها حتى وصلت لقاعة مزادات «كريستيز» حاملاً معه ذكرى حكاية جدته وأسرته وتشريدهم، وتصنيعهم تلك المرآة بأُبهتها الزخرفية والفنية في غضون ظروف تاريخية استثنائية خلال فترة سيطرة الحكم العثماني في دمشق.

نهب ممنهج

تبدو الرواية التي تقع في 350 صفحة، وكأنها تمنح حضوراً سردياً للقطع الأثرية المفقودة، والمنهوبة، بصفتها شواهد تاريخية تتعقب «تُجار الممتلكات الثقافية»، ودور المزادات، وأمناء المتاحف، وسط متاهات تزوير الوثائق الخاصة بالقِطع وشهادات المنشأ، وتهريب القطع من بلادها، ولا سيما بعد الربيع العربي والحروب الأهلية التي أعقبته، لتفتح ساحات السرقة الممنهجة للآثار في المواقع الأثرية العربية، كما في تونس ومصر وسوريا والعراق، في حين تبدو قصص القطع المفقودة أُحجيات تتبعها الرواية وتحيكها بخيوط نوستالجية تمدّها الكاتبة على امتداد السرد.

تعتني لغة الرواية بالوصف الدقيق للتفاصيل الجمالية التي تبدو في صراع متواتر مع تيار محو أعنف، كقطع السجاد الأصيل وأنواله التقليدية، والزخارف الغرناطية العتيقة على الأسطح، في مقابل ثقافة «الماركات» الاستهلاكية التي تُميّع الذوق العام، والحروف اللاتينية التي تُناظر الحروف العربية وتُغيّبها في لغة الحياة اليومية.

وقد حازت رواية «عشبة ومطر» أخيراً جائزة «العويس للإبداع»، ومن أجواء الرواية نقرأ:

«كنتُ قصيراً، أقفز كي تلمس أطراف أصابعي مطرقة الباب، وبعد أن كبرت قليلاً، وأصبحت أمسكها بيدي، استوقفني شكلها الذي صُنع على هيئة يد بشرية، ثم أدركت أن هناك مطرقتين فوق بعضهما، تعجبت، وسألت أمي عن السبب فقالت: (كانت لدروازتنا مطرقة واحدة، لكن والدك أبهرته فنون بغداد، فجلب منها مطرقتين، مثبتاً المطرقة الأكبر في الأعلى للرجال والمطرقة الأصغر أسفل منها للنساء، ليختصر بذلك السؤال عن هُوية الطارق، فكنا نُميّز الطارق رجلاً أم امرأة من صوت المطرقة)... بِتُ أنصت للطَرق، كنت أعرف طرقات أمي الثلاث، وتعرف أمي طرقاتي المتسارعة، كان هناك طَرقٌ مُبشر، وطرقٌ يخلع القلب، طرق هامس مُدلل، وطرق يُشبه كركرة الأطفال».