«الإيثار الفعال»... لعبة فلسفيّة للأثرياء فقط

مجموعات منها منتشرة حول العالم بما في ذلك في عدد من أهم الجامعات

ويليام ماكاسكيل
ويليام ماكاسكيل
TT

«الإيثار الفعال»... لعبة فلسفيّة للأثرياء فقط

ويليام ماكاسكيل
ويليام ماكاسكيل

تقبّل البشر بشكل أو بآخر حقيقة التفاوت الطّبقي بينهم، وانقسامهم إلى مجموعتين متباينتين كليّة: أولئك الذين يملكون، وهم الأقليّة، وبقيتنا ممن لا يملكون، وهم الأكثرية الساحقة. وعلى الرغم من تعدد النظريات التي توثق هذا التفاوت أو تفسره أو تنقده أو تحاول التجاوز عنه أو تتنبأ بمآلاته، فإن شيئاً لم يتغيّر على الواقع الماديّ المكرّس لهذا الانفصام في الحياة المعاصرة. فهناك فن راقٍ، وآخر شعبيّ، أزياء للأغنياء وأخرى للفقراء، مطاعم فاخرة وأخرى متواضعة، مساكن فخمة وأخرى تجاريّة، بل ثمّة طبّ للأثرياء وميسوري الحال، يقابله طبّ للعناية الصحية الأساسية، وتعليم في مدارس وجامعات النخب مقابل المدارس والجامعات العاديّة، وهكذا. على أن مساحة واحدة بقيت إلى وقت قريب عصيّة على هذه الثنائيّة المقيتة: الفلسفة. إذ إن علم «معرفة الحكمة» ومنذ بداياته الأولى في أروقة أثينا القديمة - فيما نعتقد - استطاع دائماً كسر كل فروق طبقيّة، حيث الانتماء الطبقي وحتى العرقي لا تعني شيئاً فور شروع المرء في تعاطي مسائل المعنى وتعريف الغايات وطبيعة الوجود، وحيث أمكن لكل ذي عقل، بصرف النظر عن عدد دراهمه، الانتفاع من أثمارها طيبة يانعة إن هو أراد، فيأخذ منها ما يقيم أوده، ويهدأ من روعه، وفق فهمه، وحاجته ومعاشه.

توبي أورد

لكن ليس بعد الآن، إذ ثمّة مدرسة جديدة في الممارسة الفلسفيّة في البلاد الأنجلوساكسونيّة، تدعى «الإيثار الفعّال» تبدو معنيّة بشكل أساسي بمواجهة استحقاقات وهموم طبقة بحد ذاتها دون أخرى، فتبحث مثلاً في طرائق لتعظيم نتائج العطاء الخيري للأثرياء والمقتدرين، إذ يمكن بترشيد قرارات توظيف الموارد في جمعية خيرية مثلاً إفادة ألف شخص بدلاً من الاكتفاء بمساعدة مائة، كما يمكن عبر النظر فلسفيّاً في الأولويات العثور على ثغرات في الجهود الحالية للجهات الفاعلة، وإعادة توجيه الموارد للتأثير إيجابياً على أكبر عدد من البشر، وقضاياهم المهملة بشكل غير عادل.

بالطبع، فإن التاريخ عرف تجارب لشركات ومؤسسات حكمتها نظرة روحيّة أو فلسفيّة محددّة كما في أيّام التجار المسلمين في شرقي آسيا، وأيضاً الكويكرز في بريطانيا في القرن السابع عشر، كما البرجوازيين الصاعدين الذين فقدوا مرجعيّة الإيمان المسيحيّ في العصر الفيكتوري فتبنوا النظريّة الأخلاقيّة النفعيّة لجيريمي بنثام الداعية إلى تبني معيار «القيام بما قد يجلب أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من النّاس». لكن العمل الرأسمالي بشكله المعاصر يميل إلى أن تكون مجالس الإدارات والأجهزة التنفيذية خالية من الأيديولوجيا، وتعمل على مزيج من البراغماتية والانتهازية والأنانية وتعظيم الرّبح بوصفه قيمة عليا، وهو ما ترك فراغاً روحيّاً في منطق تبرير السلوك المجتمعي لمصالح المال والأعمال وهو ما أتت فلسفة «الإيثار الفعّال» لتملأه: منهجيّة عصرانية في التّعامل مع قضايا العالم ليست ذات مضمون أيديولوجيّ صريح، ولكنها أقرب إلى طريقة تفكير نفعيّة نخبوية تستهدف منح القادرين على العطاء الفرصة لتعظيم نتائج عملهم عند مدّهم يد العون للآخرين، وذلك من خلال تطبيق قوانين «إيثار» معينة.

لقد بدأت «الإيثار الفعّال» في جامعة أكسفورد بالمملكة المتحدة على يد اثنين من الفلاسفة الشباب، وهما ويليام ماكاسكيل وتوبي أورد، اللذان أصدرا عدداً من الكتب حول منطلقاتها وأهدافها منها «شفا الهاوية» و«عمل الخير بشكل أفضل»، قبل أن تجد لها خلال أقل من عقد واحد أصداء في أكاديميات الأبراج العاجيّة، وشركات وادي السيليكون، ونوادي الأثرياء عبر العالم الأنجلوسكسوني، ولتجد بين مشاهير العالم ونجوم شركاته جمهوراً وفيّاً. وتوجد الآن المئات من مجموعات «الإيثار الفعّال» المحليّة حول العالم، بما في ذلك في عدد من أهم الجامعات، ويشارك الآلاف منهم بانتظام في منتديات للحركة عبر الإنترنت، وينضمون إلى مؤتمرات يتم تمويلها بمئات الملايين من الدّولارات التي تتدفق من جيوب مليارديرات وادي السيليكون يؤمنون بهذه النظريّة.

وقد قفزت «الإيثار الفعّال» إلى عناوين الصحف ونشرات الأخبار التلفزيونية نهاية العام الماضي عندما تردد اسما اثنين من الأسماء المعروفة في فضائها: سام بانكمان فرايد الذي (أُدين بالاحتيال لتحويل أموال العملاء من بورصة العملات المشفرة FTX لمصلحة شركته)، وسام ألتمان الذي بعد أسابيع قليلة من حكاية فرايد، تابع العالم كذلك دراما الإطاحة به ومن ثم العودة المفاجئة بصفته رئيساً تنفيذياً لشركة الذكاء الاصطناعي المفتوح (مبتكرة التشات جي بي تي). ولا شكّ أن الحكايتين انسحبتا بشكل أو بآخر على مصداقيّة «الإيثار الفعّال» إذ كان سام بانكمان فريد - كما معظم قادة شركته (ألميدا) - من أتباع هذه الفلسفة ومن المانحين الرئيسيين لنشاطاتها، وعلى علاقة وثيقة بالفيلسوف ويليام ماكاسكيل – أحد المؤسسين لها إلى جانب الفيلسوف توبي أورد - كما أن كل تغطية إعلاميّة بشأن سام ألتمان أصبحت تجري في خلفيّة الجدل الفلسفي حول إذا ما كانت المصالح التجارية ينبغي أن تحدد وتيرة واتجاه العمل على تطوير الذّكاء الاصطناعي أو أن ذلك يأتي فحسب بعد اعتبارات سلامة ورفاه البشر.

يقول ماكاسكيل وأورد إن مصدر إلهامهما في تأسيس فلسفة «الإيثار الفعّال» جاء من مقالة الفيلسوف الأسترالي بيتر سينجر الشهيرة من عام 1972، التي تدعو لتوسيع دائرة المرء الأخلاقية في التعامل مع المعاناة والرفاهية في كل مكان على القدر نفسه من الأهمية، وأن يكون معيار الخيار الفردي أخلاقيّاً التسبب في مزيد من الرّفاهية، وبالمعاناة الأقل للمجموع. ومع أن كثيرين عدّوا هذه الفلسفة الصارمة نوعاً من الاختزال الحالم، فإنّها مثّلت للشبان المنحدرين من عائلات ثريّة أفيوناً جديداً، حيث يمكنهم تذوّق مشاعر التّفوق الأخلاقي من خلال التخلّي عن بعض التّرف، والتفكير بأنهم يساعدون الفقراء حول العالم!

تدرّب ماكاسكيل وأورد على يد اثنين من أهم فلاسفة الأخلاق المعاصرين: جون بروم (والراحل) ديريك بارفيت اللذين تمحورت حياتهما المهنية حول البحث في نقاط الانطلاق الأخلاقية للتفكير برفاه ومعاناة الأشخاص البعيدين أو المستقبليين. وقد أشرف بارفيت على رسالة دكتوراه أورد، وبروم على كل من أورد وماكاسكيل. في غضون بضع سنوات من تخرجهما، أسس الفيلسوفان الشابان منظمة أطلقا عليها اسماً يعادل بالعربيّة (الجود بالموجود) التي جمعت عشرة آلاف من الأثرياء تعهد كل منهم بالتبرع بما نسبته 10 في المائة من دخله للأعمال الخيرية التي يمكنها أن تثبت التأثير الإيجابي لمشاريعها على أكبر عدد ممكن من الأشخاص. وبعدها أسسا خدمة المشورة المهنيّة (ثمانون ألف ساعة) التي كانت تساعد الطلاب على اختيار مهن من شأنها أن تحقق أكبر قدر من الخير للآخرين، وتعظيم تأثير العطاء الفرديّ الممكن. ومن هذه البذور تأسس مركز المشاريع الفعالة الذي تولى إدارة أموال تبرعات الأثرياء لمصلحة مشاريع خيرية مجتمعيّة، إلى جانب الإنفاق على المؤتمرات والمنتديات عبر الإنترنت.

بدأت «الإيثار الفعّال» في جامعة أكسفورد بالمملكة المتحدة على يد اثنين من الفلاسفة الشباب ووجدت لها صدى خلال أقل من عقد في أكاديميات الأبراج العاجيّة، وشركات وادي السيليكون، ونوادي الأثرياء ومشاهير العالم

وفي موازاة أنشطة أكسفورد، تبنى رواد أعمال على الجانب الآخر من الأطلسي الأفكار ذاتها، فأطلقوا مؤسسات تسعى إلى تحديد أكثر الجمعيات الخيريّة تأثيراً وتوجيه أموال المانحين الأثرياء نحوها. ومع أنّ هذه الأفكار تبدو بديهيّة ولا تحتاج إلى كثير من الجدل، فإنّها أثبتت قدرتها على إثارة الحماس بين شبّان الطبقات الباذخة الذين منحت فلسفة «الإيثار الفعّال» بعضهم هدفاً ومعنى لحياتهم. فما السرّ في ذلك؟

يقول مراقبون إن الأمر قد يكون مرتبطاً بقدرة الإنترنت على نشر الأفكار بطرق غير مسبوقة، لكن العديد من الفلسفات تمتلك فرصة الانتشار ذاتها ما يدعم فرضية أن الأمر يتعلّق بالتّحديات الفريدة التي يواجهها عالم جيل شبان الطبقة المخمليّة: من الأزمة المالية العالمية، وما لحقها من عقد سياسات التقشف، إلى «كوفيد 19»، والتهديدات المتكررة حول تحولات المناخ، فتبدو فلسفة «الإيثار الفعّال» استجابة فاعلة، محمّلة بالأمل، يمكن مخاطبة الجانب التقني فيها بحسابات عقلانية تناسب منطق الأجيال التي تدرس في جامعات النخبة البريطانية والأميركيّة.

لكن الواقع أن «الإيثار الفعّال» رغم شكلها الإيجابي الخارجيّ، تكشف عن قصور نظري مرعب: فالعمل الخيري الذي يقوم به أتباعها يعطي غطاء للمنظومة التي تضمن بقاء تدفق الثروات في يد طبقتهم ذاتها، ولا يمس بحال بأساسيات النّظام السياسيّ الذي يمكنهم من امتلاك الترف للقلق حول كفاءة تبرعهم بالأموال. إنّها بالفعل أقرب إلى لعبة فلسفيّة للأثرياء فقط.


مقالات ذات صلة

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

كتب دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

يضم الكتاب مجموعة من البحوث والدراسات الأكاديمية وموضوعات وقراءات تتعلق بالجانب الاجتماعي - الاقتصادي

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
كتب بعض واجهات المكتبات

موجة ازدهار في الروايات الرومانسية بأميركا

الصيف الماضي، عندما روادت ماي تنغستروم فكرة فتح مكتبة لبيع الروايات الرومانسية بمنطقة فنتورا بكاليفورنيا

ألكسندرا ألتر
كتب الرواية الخليجية... بدأت خجولة في الثلاثينات ونضجت مع الألفية

الرواية الخليجية... بدأت خجولة في الثلاثينات ونضجت مع الألفية

يتناول الناقد والباحث اليمني د. فارس البيل نشأة وجذور السرد الإبداعي في منطقة الخليج وعلاقة النص بالتطورات الاجتماعية والاقتصادية المتلاحقة

رشا أحمد (القاهرة)

لماذا تتغيّر عناوين روايات في الترجمة؟

غلاف موت صغير
غلاف موت صغير
TT

لماذا تتغيّر عناوين روايات في الترجمة؟

غلاف موت صغير
غلاف موت صغير

كان لترجمة الدكتورة، مارلين بوث، رواية جوخة الحارثي «سيدات القمر» دور في تقوية اهتمام صغير لديّ؛ الاهتمام بتغيّر، أو ضياع العناوين الأصلية لبعض الروايات العربية المترجَمة إلى الإنجليزية على نحو خاص.

في بداية الأمر، كان ذلك الاهتمام الصغير ينحصر في محاولة فهم الأسباب التي تجعل المترجِمات والمترجِمين يغيّرون عناوين الروايات، أو التخمين بالأسباب، إذا تعذّر معرفتها، ثم جاءت ترجمة بوث «Celestial Bodies/ أجرام سماوية» لتكون نقطة تحوّل في اهتمامي، أو لحظة تطوّره إلى مستوى أعمق وأكثر إمتاعاً... قراءة ما يجود به محرك البحث مما كُتب ونُشر من مقالات ودراسات تناقش تغيّر العناوين في الترجمة.

البداية مع «سيدات القمر»

الساعة الثامنة والنصف من مساء السابع عشر من سبتمبر (أيلول) 2019، موعد محاضرة الدكتور سعد البازعي، الموسومة بـ«سيدات القمر... الرواية والترجمة»، التي شَرُفْتُ بإدارتها، وكنتُ في خلالها أتمنى لو أنني جالس على مقعد بين الحضور، متحرّراً من القيود التي قيّدت بها نفسي وكبّلت لساني، لأطرح على د. البازعي الأسئلة التي تمور في ذهني، دون الشعور بالخوف من الاستئثار بجزء كبير من الوقت، يفترض أن يكون مخصّصاً لأسئلة ومداخلات الحضور.

غلاف سيدات القمر

ذهبتُ إلى الأمسية في فرع «جمعية الثقافة والفنون السعودية» بالدمام بثلاثة أسئلة، استطعت، ولله الحمد، كَبْتها داخلي، حتى السؤال الذي كنت أعُدّه أهمها، واكتفيت بإدارة الأمسية بأقل قدر ممكن من الكلام.

وعُدت إلى البيت بسلام، وقد ساعدني على قمع ذلك السؤال أن د. البازعي لم يتطرق في محاضرته إلى تغيّر، أو ضَياع العنوان في الترجمة، أو إلى أسباب تغيّره المحتملة، ودلالات تغيّره، وعلاقة ثقافة اللغة الهدف بذلك.

كنتُ أريدُ سؤال د. البازعي رأيه في تغيير (د. بوث) للعنوان، وتجنّبها ترجمتَه حرفياً إلى عنوان مثل (Ladies of the Moon)، أو أي عنوان آخر بصيغة مشابهة. سؤال بسيط لم أوفّق إلى العثور على إجابات عنه حينذاك فيما قرأته من حوارات مع الروائية أو المترجِمة بعد فوز الترجمة الإنجليزية بجائزة «بوكر» الدولية 2019.

الآن، وأنا أستعيد لحظات البحث والنبش، أعزو إخفاقي في العثور على إجابات من الروائية والمترجِمة إلى أن بحثي ربما لم يكن دقيقاً وواسعاً كفايةً، رغم تأكدي من أنني بذلت قصارى جهدي ووقتي.

حرصت على الحصول على إجابات عن سؤالي، خصوصاً من الروائية أو المترجِمة، أو منهما معاً، لعل وعسى يكون فيها ما يلتقي ويتقاطع مع إجابتي عن السؤال نفسه، ويؤكد معقوليتها، وأنها لم تُجانب ولو قدراً ضئيلاً من حقيقة سبب أو أسباب تغيّر عنوان رواية الحارثي، أو ضياعه في الترجمة.

وانتهى بي المطاف، مع مرور الوقت، إلى نسيان ما فهمتها وفسّرتها على أنها أسباب تغيير عنوان الرواية؛ نسيان استمر إلى ما قبل كتابة هذه المقالة بأيام، حين تداعت إلى الذاكرة «سيدات القمر»، ومؤلفتها ومترجِمتها في خلال تصفّحي مجلة «رياض ريفيو أوف بوكس».

«موت صغير»... رواية العناوين المتعددة

تعرّض عنوان رواية محمد حسن علوان «موت صغير» لإضافات وتغييرات طفيفة جداً في ترجماته جعلته يبدو متعدداً، مع حفاظه على حرفيته، وعلاقته بمحتوى النصّ، فمثلاً، يلتقي متصفح «رياض ريفيو أوف بوكس»، بمراجعة لـ«موت صغير» بعنوان «Little Death»، أنجزتها الشاعرة والقاصّة والصحافية المصرية مروى مجدي، ويترجم موقع الجائزة العالمية للرواية العربية عنوان رواية علوان إلى «A Small Death»، ويظهر العنوان نفسه في الترجمة الإنجليزية لمقالة الكاتب والناقد المصري محمود حسني، المنشورة في «Arab Lit»، مجلة الأدب العربي المترجم، ويختفي الحرف «A» من عنوان الرواية «Small Death»، في القراءة النقدية التي أنجزها د. أشرف سعيد قطب متولي ومحمد السباعي زايد (جامعة الجوف)، ونُشرت في مجلة لندن للبحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية بالعنوان «نزع الأسطورة عن ابن عربي في رواية الروائي السعودي محمد حسن علوان (موت صغير)... قراءة ما بعد حداثية».

تتميز تلك الترجمات لعنوان رواية علوان بالاختلافات الرفيعة بينها، لكن المميز الأهم هو أنها ترجمات للعنوان تمّت بمعزل عن النصّ، ترجمات إنجليزية للعنوان أُنجزت لغرض مراجعات وقراءات نقدية لنص عربي، كُتبت بالإنجليزية أو نُقلت إليها، أي لم تكن في الأصل عناوين لترجمات إنجليزية متعددة لنص واحد، ليست ترجمات لمنتَج ثقافي تُرجم لغاية نقله إلى ثقافة أخرى؛ لذا يبدو أن أصحابها لم يكترثوا بالمسائل التي تشغل في العادة اهتمام من ينقل نصاً من اللغة المصدر إلى اللغة الهدف، فكانوا في حرية من الالتزام بالقواعد والعوامل التي تؤثر على عملية اختيار العناوين المناسبة للنصوص المترجمة، وهذا ما يجعلها مختلفة عن العنوان الذي اختاره الأكاديمي والمؤلف ومترجم الأدب العربي المعاصر، ويليام مينارد هتشنز، لترجمته لـ«موت صغير»: «Ibn Arabi’s Small Death»، الذي من الممكن مناقشته في ضوء الأدبيات، والتنظير المتعلق بترجمة العناوين.

إغراء القارئ

يكشف عنوان هتشنز وعيه أن «موت صغير» منتَج ثقافي، أو على نحو أكثر وضوحاً، سلعة ثقافية، وأن ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية يعني نقلها إلى ثقافة أخرى، إلى متلقّ يختلف عن متلقّيها بلغتها الأصل، وأن ذلك المتلقي المستهدَف ينتمي إلى ثقافة لا يستطيع أن يكون في حالة مناعة مطلقة ضد تأثيرها على استقباله للنص المنقول من ثقافة غريبة، فضلاً عن أن رواج المنتَج الثقافي يتطلّب توفر عنوان جاذب للقارئ المحتمل، لذلك أضاف اسم الشخصية المحورية «ابن عربي»، مراهناً على كونه معروفاً في الغرب؛ لجذب انتباه القارئ الغربي.

وتلعب مسألة جذب وإغراء القارئ الهدف بالنص المترجَم دوراً حاسماً في تغيّر عنوان رواية «فخاخ الرائحة»، ليوسف المحيميد، أو بالأحرى، إبداله بعنوان آخر، فعلى الرغم من أن الجامعة الأميركية في القاهرة - مالكة حقوق النشر في الشرق الأوسط - وافقت على ترجمة توني كالدربانك الحرفية للعنوان «Traps of the Scent»، حسب ما ذكره المحيميد، إلا أنّ الناشر «بنغوين»، مالك حقوق النشر العالمية، اقترحوا العنوان «Wolves of the Crescent Moon / ذئاب الهلال»، وتركوا قرار اختيار العنوان للمترجِم وللروائي المحيميد، واقترح الأخير على المترجِم عرض العناوين على عشرة قراء أجانب، وجاءت الردود العشرة مُفَضِّلَةً بالإجماع العنوان الذي اقترحه الناشر «بنغوين»، وقد استطاع المترجم كالدربانك والمحيميد فرضه على الجامعة الأميركية، ما يدل على أن اختيار العنوان المناسب للترجمة قد يشارك فيه آخرون إلى جانب المترجِم.

العناوين في الترجمة

يقسم ماورزيو فيزي، في مقالته «العناوين في الترجمة»، العناوين إلى: أساسية، وأخرى اختيارية، ويفترض أن يقوم أي عنوان بكل الوظائف الأساسية، وفي مقدمتها وظيفة التسمية، (appellative)، كما يسمّيها ليو هوك؛ أحد مؤسّسي علم العناوين، حسب جيرار جينيت. ويضيف جينيت أن هوك يُعَرِّف العنوان بأنه سلسلة من «الإشارات اللغوية التي يمكن أن تظهر على رأس النص؛ للدلالة عليه، ولبيان محتواه، ولتوجيهه إلى الجمهور المستهدف»، (بنية ووظائف العنوان في الأدب)، موضحاً أن الوظيفة الأولى – التسمية/ الدلالة على النص - إلزامية، بينما الإشارة إلى المحتوى وإغراء الجمهور وظيفتان اختياريتان.

ويُورِد فيزي في مقالته عشرة أسباب أو أغراض وراء تغيير المترجمين عناوين النصوص المترجَمة: تقديم وجهة نظر مختلفة، تسليط الضوء على جانب أو شخصية مختلفة، إبدال العناوين الأصلية بأخرى مترجمة أكثر وضوحاً، إضافة معلومات عن الجنس الأدبي إلى العنوان المصدر، قد تُقدّم العناوين المترجمة زوايا رؤية أو مفاتيح مختلفة لتأويل النصوص المترجمة، الإشارة إلى درس أخلاقي يمكن تعلّمه، إضافة أسماء شخصيات مشهورة إلى العناوين كوسيلة لجذب القراء، قد تحتوي العناوين المترجمة على إشارات تناصّية وبينيّة، تأكيد العناوين المترجمة على الجوانب المُغرية، واختلاف العناوين المترجمة في محتواها الدلالي من لغة هدف إلى أخرى.

ويذكر فيزي أن البعض يرفض استعمال كلمة «ترجمة» عند الإشارة إلى العملية المؤدّية من عنوان مصدر إلى عنوان هدف، ويعتبرون ما يحدث تكييفاً أو نقلاً أو استبدالاً، والاستبدال هو ما يحدث لعنوان رواية المحيميد المذكورة، وأيضاً لعنوان رواية جوخة الحارثي؛ حيث لا يوجد أثر من العنوان الأصل في عنوان الترجمة الإنجليزية.

*ناقد وكاتب سعودي