«الإيثار الفعال»... لعبة فلسفيّة للأثرياء فقط

مجموعات منها منتشرة حول العالم بما في ذلك في عدد من أهم الجامعات

ويليام ماكاسكيل
ويليام ماكاسكيل
TT

«الإيثار الفعال»... لعبة فلسفيّة للأثرياء فقط

ويليام ماكاسكيل
ويليام ماكاسكيل

تقبّل البشر بشكل أو بآخر حقيقة التفاوت الطّبقي بينهم، وانقسامهم إلى مجموعتين متباينتين كليّة: أولئك الذين يملكون، وهم الأقليّة، وبقيتنا ممن لا يملكون، وهم الأكثرية الساحقة. وعلى الرغم من تعدد النظريات التي توثق هذا التفاوت أو تفسره أو تنقده أو تحاول التجاوز عنه أو تتنبأ بمآلاته، فإن شيئاً لم يتغيّر على الواقع الماديّ المكرّس لهذا الانفصام في الحياة المعاصرة. فهناك فن راقٍ، وآخر شعبيّ، أزياء للأغنياء وأخرى للفقراء، مطاعم فاخرة وأخرى متواضعة، مساكن فخمة وأخرى تجاريّة، بل ثمّة طبّ للأثرياء وميسوري الحال، يقابله طبّ للعناية الصحية الأساسية، وتعليم في مدارس وجامعات النخب مقابل المدارس والجامعات العاديّة، وهكذا. على أن مساحة واحدة بقيت إلى وقت قريب عصيّة على هذه الثنائيّة المقيتة: الفلسفة. إذ إن علم «معرفة الحكمة» ومنذ بداياته الأولى في أروقة أثينا القديمة - فيما نعتقد - استطاع دائماً كسر كل فروق طبقيّة، حيث الانتماء الطبقي وحتى العرقي لا تعني شيئاً فور شروع المرء في تعاطي مسائل المعنى وتعريف الغايات وطبيعة الوجود، وحيث أمكن لكل ذي عقل، بصرف النظر عن عدد دراهمه، الانتفاع من أثمارها طيبة يانعة إن هو أراد، فيأخذ منها ما يقيم أوده، ويهدأ من روعه، وفق فهمه، وحاجته ومعاشه.

توبي أورد

لكن ليس بعد الآن، إذ ثمّة مدرسة جديدة في الممارسة الفلسفيّة في البلاد الأنجلوساكسونيّة، تدعى «الإيثار الفعّال» تبدو معنيّة بشكل أساسي بمواجهة استحقاقات وهموم طبقة بحد ذاتها دون أخرى، فتبحث مثلاً في طرائق لتعظيم نتائج العطاء الخيري للأثرياء والمقتدرين، إذ يمكن بترشيد قرارات توظيف الموارد في جمعية خيرية مثلاً إفادة ألف شخص بدلاً من الاكتفاء بمساعدة مائة، كما يمكن عبر النظر فلسفيّاً في الأولويات العثور على ثغرات في الجهود الحالية للجهات الفاعلة، وإعادة توجيه الموارد للتأثير إيجابياً على أكبر عدد من البشر، وقضاياهم المهملة بشكل غير عادل.

بالطبع، فإن التاريخ عرف تجارب لشركات ومؤسسات حكمتها نظرة روحيّة أو فلسفيّة محددّة كما في أيّام التجار المسلمين في شرقي آسيا، وأيضاً الكويكرز في بريطانيا في القرن السابع عشر، كما البرجوازيين الصاعدين الذين فقدوا مرجعيّة الإيمان المسيحيّ في العصر الفيكتوري فتبنوا النظريّة الأخلاقيّة النفعيّة لجيريمي بنثام الداعية إلى تبني معيار «القيام بما قد يجلب أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من النّاس». لكن العمل الرأسمالي بشكله المعاصر يميل إلى أن تكون مجالس الإدارات والأجهزة التنفيذية خالية من الأيديولوجيا، وتعمل على مزيج من البراغماتية والانتهازية والأنانية وتعظيم الرّبح بوصفه قيمة عليا، وهو ما ترك فراغاً روحيّاً في منطق تبرير السلوك المجتمعي لمصالح المال والأعمال وهو ما أتت فلسفة «الإيثار الفعّال» لتملأه: منهجيّة عصرانية في التّعامل مع قضايا العالم ليست ذات مضمون أيديولوجيّ صريح، ولكنها أقرب إلى طريقة تفكير نفعيّة نخبوية تستهدف منح القادرين على العطاء الفرصة لتعظيم نتائج عملهم عند مدّهم يد العون للآخرين، وذلك من خلال تطبيق قوانين «إيثار» معينة.

لقد بدأت «الإيثار الفعّال» في جامعة أكسفورد بالمملكة المتحدة على يد اثنين من الفلاسفة الشباب، وهما ويليام ماكاسكيل وتوبي أورد، اللذان أصدرا عدداً من الكتب حول منطلقاتها وأهدافها منها «شفا الهاوية» و«عمل الخير بشكل أفضل»، قبل أن تجد لها خلال أقل من عقد واحد أصداء في أكاديميات الأبراج العاجيّة، وشركات وادي السيليكون، ونوادي الأثرياء عبر العالم الأنجلوسكسوني، ولتجد بين مشاهير العالم ونجوم شركاته جمهوراً وفيّاً. وتوجد الآن المئات من مجموعات «الإيثار الفعّال» المحليّة حول العالم، بما في ذلك في عدد من أهم الجامعات، ويشارك الآلاف منهم بانتظام في منتديات للحركة عبر الإنترنت، وينضمون إلى مؤتمرات يتم تمويلها بمئات الملايين من الدّولارات التي تتدفق من جيوب مليارديرات وادي السيليكون يؤمنون بهذه النظريّة.

وقد قفزت «الإيثار الفعّال» إلى عناوين الصحف ونشرات الأخبار التلفزيونية نهاية العام الماضي عندما تردد اسما اثنين من الأسماء المعروفة في فضائها: سام بانكمان فرايد الذي (أُدين بالاحتيال لتحويل أموال العملاء من بورصة العملات المشفرة FTX لمصلحة شركته)، وسام ألتمان الذي بعد أسابيع قليلة من حكاية فرايد، تابع العالم كذلك دراما الإطاحة به ومن ثم العودة المفاجئة بصفته رئيساً تنفيذياً لشركة الذكاء الاصطناعي المفتوح (مبتكرة التشات جي بي تي). ولا شكّ أن الحكايتين انسحبتا بشكل أو بآخر على مصداقيّة «الإيثار الفعّال» إذ كان سام بانكمان فريد - كما معظم قادة شركته (ألميدا) - من أتباع هذه الفلسفة ومن المانحين الرئيسيين لنشاطاتها، وعلى علاقة وثيقة بالفيلسوف ويليام ماكاسكيل – أحد المؤسسين لها إلى جانب الفيلسوف توبي أورد - كما أن كل تغطية إعلاميّة بشأن سام ألتمان أصبحت تجري في خلفيّة الجدل الفلسفي حول إذا ما كانت المصالح التجارية ينبغي أن تحدد وتيرة واتجاه العمل على تطوير الذّكاء الاصطناعي أو أن ذلك يأتي فحسب بعد اعتبارات سلامة ورفاه البشر.

يقول ماكاسكيل وأورد إن مصدر إلهامهما في تأسيس فلسفة «الإيثار الفعّال» جاء من مقالة الفيلسوف الأسترالي بيتر سينجر الشهيرة من عام 1972، التي تدعو لتوسيع دائرة المرء الأخلاقية في التعامل مع المعاناة والرفاهية في كل مكان على القدر نفسه من الأهمية، وأن يكون معيار الخيار الفردي أخلاقيّاً التسبب في مزيد من الرّفاهية، وبالمعاناة الأقل للمجموع. ومع أن كثيرين عدّوا هذه الفلسفة الصارمة نوعاً من الاختزال الحالم، فإنّها مثّلت للشبان المنحدرين من عائلات ثريّة أفيوناً جديداً، حيث يمكنهم تذوّق مشاعر التّفوق الأخلاقي من خلال التخلّي عن بعض التّرف، والتفكير بأنهم يساعدون الفقراء حول العالم!

تدرّب ماكاسكيل وأورد على يد اثنين من أهم فلاسفة الأخلاق المعاصرين: جون بروم (والراحل) ديريك بارفيت اللذين تمحورت حياتهما المهنية حول البحث في نقاط الانطلاق الأخلاقية للتفكير برفاه ومعاناة الأشخاص البعيدين أو المستقبليين. وقد أشرف بارفيت على رسالة دكتوراه أورد، وبروم على كل من أورد وماكاسكيل. في غضون بضع سنوات من تخرجهما، أسس الفيلسوفان الشابان منظمة أطلقا عليها اسماً يعادل بالعربيّة (الجود بالموجود) التي جمعت عشرة آلاف من الأثرياء تعهد كل منهم بالتبرع بما نسبته 10 في المائة من دخله للأعمال الخيرية التي يمكنها أن تثبت التأثير الإيجابي لمشاريعها على أكبر عدد ممكن من الأشخاص. وبعدها أسسا خدمة المشورة المهنيّة (ثمانون ألف ساعة) التي كانت تساعد الطلاب على اختيار مهن من شأنها أن تحقق أكبر قدر من الخير للآخرين، وتعظيم تأثير العطاء الفرديّ الممكن. ومن هذه البذور تأسس مركز المشاريع الفعالة الذي تولى إدارة أموال تبرعات الأثرياء لمصلحة مشاريع خيرية مجتمعيّة، إلى جانب الإنفاق على المؤتمرات والمنتديات عبر الإنترنت.

بدأت «الإيثار الفعّال» في جامعة أكسفورد بالمملكة المتحدة على يد اثنين من الفلاسفة الشباب ووجدت لها صدى خلال أقل من عقد في أكاديميات الأبراج العاجيّة، وشركات وادي السيليكون، ونوادي الأثرياء ومشاهير العالم

وفي موازاة أنشطة أكسفورد، تبنى رواد أعمال على الجانب الآخر من الأطلسي الأفكار ذاتها، فأطلقوا مؤسسات تسعى إلى تحديد أكثر الجمعيات الخيريّة تأثيراً وتوجيه أموال المانحين الأثرياء نحوها. ومع أنّ هذه الأفكار تبدو بديهيّة ولا تحتاج إلى كثير من الجدل، فإنّها أثبتت قدرتها على إثارة الحماس بين شبّان الطبقات الباذخة الذين منحت فلسفة «الإيثار الفعّال» بعضهم هدفاً ومعنى لحياتهم. فما السرّ في ذلك؟

يقول مراقبون إن الأمر قد يكون مرتبطاً بقدرة الإنترنت على نشر الأفكار بطرق غير مسبوقة، لكن العديد من الفلسفات تمتلك فرصة الانتشار ذاتها ما يدعم فرضية أن الأمر يتعلّق بالتّحديات الفريدة التي يواجهها عالم جيل شبان الطبقة المخمليّة: من الأزمة المالية العالمية، وما لحقها من عقد سياسات التقشف، إلى «كوفيد 19»، والتهديدات المتكررة حول تحولات المناخ، فتبدو فلسفة «الإيثار الفعّال» استجابة فاعلة، محمّلة بالأمل، يمكن مخاطبة الجانب التقني فيها بحسابات عقلانية تناسب منطق الأجيال التي تدرس في جامعات النخبة البريطانية والأميركيّة.

لكن الواقع أن «الإيثار الفعّال» رغم شكلها الإيجابي الخارجيّ، تكشف عن قصور نظري مرعب: فالعمل الخيري الذي يقوم به أتباعها يعطي غطاء للمنظومة التي تضمن بقاء تدفق الثروات في يد طبقتهم ذاتها، ولا يمس بحال بأساسيات النّظام السياسيّ الذي يمكنهم من امتلاك الترف للقلق حول كفاءة تبرعهم بالأموال. إنّها بالفعل أقرب إلى لعبة فلسفيّة للأثرياء فقط.


مقالات ذات صلة

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «جدة تقرأ» عنوان معرض الكتاب 2024 (المركز الإعلامي)

الكتاب الورقي ينتصر على الأجهزة الرقمية في معرض جدة

في ظل التطور التقني والاعتماد المتزايد على الكتب الإلكترونية، حسم زوار معرض جدة للكتاب 2024 الجدل لصالح الكتاب الورقي

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق دور النشر شهدت إقبالاً كبيراً من الزوار من مختلف الأعمار (هيئة الأدب والنشر والترجمة)

«جدة للكتاب»... مزيج غني بالمعرفة والإبداع بأحدث الإصدارات الأدبية

يعايش الزائر لـ«معرض جدة للكتاب 2024» مزيجاً غنياً من المعرفة والإبداع يستكشف عبره أحدث الإصدارات الأدبية، ويشهد العديد من الندوات وورش العمل والجلسات الحوارية.

إبراهيم القرشي (جدة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.