«الإيثار الفعال»... لعبة فلسفيّة للأثرياء فقط

مجموعات منها منتشرة حول العالم بما في ذلك في عدد من أهم الجامعات

ويليام ماكاسكيل
ويليام ماكاسكيل
TT

«الإيثار الفعال»... لعبة فلسفيّة للأثرياء فقط

ويليام ماكاسكيل
ويليام ماكاسكيل

تقبّل البشر بشكل أو بآخر حقيقة التفاوت الطّبقي بينهم، وانقسامهم إلى مجموعتين متباينتين كليّة: أولئك الذين يملكون، وهم الأقليّة، وبقيتنا ممن لا يملكون، وهم الأكثرية الساحقة. وعلى الرغم من تعدد النظريات التي توثق هذا التفاوت أو تفسره أو تنقده أو تحاول التجاوز عنه أو تتنبأ بمآلاته، فإن شيئاً لم يتغيّر على الواقع الماديّ المكرّس لهذا الانفصام في الحياة المعاصرة. فهناك فن راقٍ، وآخر شعبيّ، أزياء للأغنياء وأخرى للفقراء، مطاعم فاخرة وأخرى متواضعة، مساكن فخمة وأخرى تجاريّة، بل ثمّة طبّ للأثرياء وميسوري الحال، يقابله طبّ للعناية الصحية الأساسية، وتعليم في مدارس وجامعات النخب مقابل المدارس والجامعات العاديّة، وهكذا. على أن مساحة واحدة بقيت إلى وقت قريب عصيّة على هذه الثنائيّة المقيتة: الفلسفة. إذ إن علم «معرفة الحكمة» ومنذ بداياته الأولى في أروقة أثينا القديمة - فيما نعتقد - استطاع دائماً كسر كل فروق طبقيّة، حيث الانتماء الطبقي وحتى العرقي لا تعني شيئاً فور شروع المرء في تعاطي مسائل المعنى وتعريف الغايات وطبيعة الوجود، وحيث أمكن لكل ذي عقل، بصرف النظر عن عدد دراهمه، الانتفاع من أثمارها طيبة يانعة إن هو أراد، فيأخذ منها ما يقيم أوده، ويهدأ من روعه، وفق فهمه، وحاجته ومعاشه.

توبي أورد

لكن ليس بعد الآن، إذ ثمّة مدرسة جديدة في الممارسة الفلسفيّة في البلاد الأنجلوساكسونيّة، تدعى «الإيثار الفعّال» تبدو معنيّة بشكل أساسي بمواجهة استحقاقات وهموم طبقة بحد ذاتها دون أخرى، فتبحث مثلاً في طرائق لتعظيم نتائج العطاء الخيري للأثرياء والمقتدرين، إذ يمكن بترشيد قرارات توظيف الموارد في جمعية خيرية مثلاً إفادة ألف شخص بدلاً من الاكتفاء بمساعدة مائة، كما يمكن عبر النظر فلسفيّاً في الأولويات العثور على ثغرات في الجهود الحالية للجهات الفاعلة، وإعادة توجيه الموارد للتأثير إيجابياً على أكبر عدد من البشر، وقضاياهم المهملة بشكل غير عادل.

بالطبع، فإن التاريخ عرف تجارب لشركات ومؤسسات حكمتها نظرة روحيّة أو فلسفيّة محددّة كما في أيّام التجار المسلمين في شرقي آسيا، وأيضاً الكويكرز في بريطانيا في القرن السابع عشر، كما البرجوازيين الصاعدين الذين فقدوا مرجعيّة الإيمان المسيحيّ في العصر الفيكتوري فتبنوا النظريّة الأخلاقيّة النفعيّة لجيريمي بنثام الداعية إلى تبني معيار «القيام بما قد يجلب أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من النّاس». لكن العمل الرأسمالي بشكله المعاصر يميل إلى أن تكون مجالس الإدارات والأجهزة التنفيذية خالية من الأيديولوجيا، وتعمل على مزيج من البراغماتية والانتهازية والأنانية وتعظيم الرّبح بوصفه قيمة عليا، وهو ما ترك فراغاً روحيّاً في منطق تبرير السلوك المجتمعي لمصالح المال والأعمال وهو ما أتت فلسفة «الإيثار الفعّال» لتملأه: منهجيّة عصرانية في التّعامل مع قضايا العالم ليست ذات مضمون أيديولوجيّ صريح، ولكنها أقرب إلى طريقة تفكير نفعيّة نخبوية تستهدف منح القادرين على العطاء الفرصة لتعظيم نتائج عملهم عند مدّهم يد العون للآخرين، وذلك من خلال تطبيق قوانين «إيثار» معينة.

لقد بدأت «الإيثار الفعّال» في جامعة أكسفورد بالمملكة المتحدة على يد اثنين من الفلاسفة الشباب، وهما ويليام ماكاسكيل وتوبي أورد، اللذان أصدرا عدداً من الكتب حول منطلقاتها وأهدافها منها «شفا الهاوية» و«عمل الخير بشكل أفضل»، قبل أن تجد لها خلال أقل من عقد واحد أصداء في أكاديميات الأبراج العاجيّة، وشركات وادي السيليكون، ونوادي الأثرياء عبر العالم الأنجلوسكسوني، ولتجد بين مشاهير العالم ونجوم شركاته جمهوراً وفيّاً. وتوجد الآن المئات من مجموعات «الإيثار الفعّال» المحليّة حول العالم، بما في ذلك في عدد من أهم الجامعات، ويشارك الآلاف منهم بانتظام في منتديات للحركة عبر الإنترنت، وينضمون إلى مؤتمرات يتم تمويلها بمئات الملايين من الدّولارات التي تتدفق من جيوب مليارديرات وادي السيليكون يؤمنون بهذه النظريّة.

وقد قفزت «الإيثار الفعّال» إلى عناوين الصحف ونشرات الأخبار التلفزيونية نهاية العام الماضي عندما تردد اسما اثنين من الأسماء المعروفة في فضائها: سام بانكمان فرايد الذي (أُدين بالاحتيال لتحويل أموال العملاء من بورصة العملات المشفرة FTX لمصلحة شركته)، وسام ألتمان الذي بعد أسابيع قليلة من حكاية فرايد، تابع العالم كذلك دراما الإطاحة به ومن ثم العودة المفاجئة بصفته رئيساً تنفيذياً لشركة الذكاء الاصطناعي المفتوح (مبتكرة التشات جي بي تي). ولا شكّ أن الحكايتين انسحبتا بشكل أو بآخر على مصداقيّة «الإيثار الفعّال» إذ كان سام بانكمان فريد - كما معظم قادة شركته (ألميدا) - من أتباع هذه الفلسفة ومن المانحين الرئيسيين لنشاطاتها، وعلى علاقة وثيقة بالفيلسوف ويليام ماكاسكيل – أحد المؤسسين لها إلى جانب الفيلسوف توبي أورد - كما أن كل تغطية إعلاميّة بشأن سام ألتمان أصبحت تجري في خلفيّة الجدل الفلسفي حول إذا ما كانت المصالح التجارية ينبغي أن تحدد وتيرة واتجاه العمل على تطوير الذّكاء الاصطناعي أو أن ذلك يأتي فحسب بعد اعتبارات سلامة ورفاه البشر.

يقول ماكاسكيل وأورد إن مصدر إلهامهما في تأسيس فلسفة «الإيثار الفعّال» جاء من مقالة الفيلسوف الأسترالي بيتر سينجر الشهيرة من عام 1972، التي تدعو لتوسيع دائرة المرء الأخلاقية في التعامل مع المعاناة والرفاهية في كل مكان على القدر نفسه من الأهمية، وأن يكون معيار الخيار الفردي أخلاقيّاً التسبب في مزيد من الرّفاهية، وبالمعاناة الأقل للمجموع. ومع أن كثيرين عدّوا هذه الفلسفة الصارمة نوعاً من الاختزال الحالم، فإنّها مثّلت للشبان المنحدرين من عائلات ثريّة أفيوناً جديداً، حيث يمكنهم تذوّق مشاعر التّفوق الأخلاقي من خلال التخلّي عن بعض التّرف، والتفكير بأنهم يساعدون الفقراء حول العالم!

تدرّب ماكاسكيل وأورد على يد اثنين من أهم فلاسفة الأخلاق المعاصرين: جون بروم (والراحل) ديريك بارفيت اللذين تمحورت حياتهما المهنية حول البحث في نقاط الانطلاق الأخلاقية للتفكير برفاه ومعاناة الأشخاص البعيدين أو المستقبليين. وقد أشرف بارفيت على رسالة دكتوراه أورد، وبروم على كل من أورد وماكاسكيل. في غضون بضع سنوات من تخرجهما، أسس الفيلسوفان الشابان منظمة أطلقا عليها اسماً يعادل بالعربيّة (الجود بالموجود) التي جمعت عشرة آلاف من الأثرياء تعهد كل منهم بالتبرع بما نسبته 10 في المائة من دخله للأعمال الخيرية التي يمكنها أن تثبت التأثير الإيجابي لمشاريعها على أكبر عدد ممكن من الأشخاص. وبعدها أسسا خدمة المشورة المهنيّة (ثمانون ألف ساعة) التي كانت تساعد الطلاب على اختيار مهن من شأنها أن تحقق أكبر قدر من الخير للآخرين، وتعظيم تأثير العطاء الفرديّ الممكن. ومن هذه البذور تأسس مركز المشاريع الفعالة الذي تولى إدارة أموال تبرعات الأثرياء لمصلحة مشاريع خيرية مجتمعيّة، إلى جانب الإنفاق على المؤتمرات والمنتديات عبر الإنترنت.

بدأت «الإيثار الفعّال» في جامعة أكسفورد بالمملكة المتحدة على يد اثنين من الفلاسفة الشباب ووجدت لها صدى خلال أقل من عقد في أكاديميات الأبراج العاجيّة، وشركات وادي السيليكون، ونوادي الأثرياء ومشاهير العالم

وفي موازاة أنشطة أكسفورد، تبنى رواد أعمال على الجانب الآخر من الأطلسي الأفكار ذاتها، فأطلقوا مؤسسات تسعى إلى تحديد أكثر الجمعيات الخيريّة تأثيراً وتوجيه أموال المانحين الأثرياء نحوها. ومع أنّ هذه الأفكار تبدو بديهيّة ولا تحتاج إلى كثير من الجدل، فإنّها أثبتت قدرتها على إثارة الحماس بين شبّان الطبقات الباذخة الذين منحت فلسفة «الإيثار الفعّال» بعضهم هدفاً ومعنى لحياتهم. فما السرّ في ذلك؟

يقول مراقبون إن الأمر قد يكون مرتبطاً بقدرة الإنترنت على نشر الأفكار بطرق غير مسبوقة، لكن العديد من الفلسفات تمتلك فرصة الانتشار ذاتها ما يدعم فرضية أن الأمر يتعلّق بالتّحديات الفريدة التي يواجهها عالم جيل شبان الطبقة المخمليّة: من الأزمة المالية العالمية، وما لحقها من عقد سياسات التقشف، إلى «كوفيد 19»، والتهديدات المتكررة حول تحولات المناخ، فتبدو فلسفة «الإيثار الفعّال» استجابة فاعلة، محمّلة بالأمل، يمكن مخاطبة الجانب التقني فيها بحسابات عقلانية تناسب منطق الأجيال التي تدرس في جامعات النخبة البريطانية والأميركيّة.

لكن الواقع أن «الإيثار الفعّال» رغم شكلها الإيجابي الخارجيّ، تكشف عن قصور نظري مرعب: فالعمل الخيري الذي يقوم به أتباعها يعطي غطاء للمنظومة التي تضمن بقاء تدفق الثروات في يد طبقتهم ذاتها، ولا يمس بحال بأساسيات النّظام السياسيّ الذي يمكنهم من امتلاك الترف للقلق حول كفاءة تبرعهم بالأموال. إنّها بالفعل أقرب إلى لعبة فلسفيّة للأثرياء فقط.


مقالات ذات صلة

أنسي الحاج... الصمت الناطق

كتب أنسي الحاج

أنسي الحاج... الصمت الناطق

غادرنا أنسي الحاج قبل عقد ونيف، ولا يزال مريدوه ومحبوه يكتبون عنه ويقيمون له الاحتفاليات ويعيدون قراءة شعره ومساره وتأثيره على الحركة الشعرية.

سوسن الأبطح (بيروت)
كتب فؤاد مطر يوثق مقالاته وحواراته في 17 مجلداً

فؤاد مطر يوثق مقالاته وحواراته في 17 مجلداً

وثَّق الزميل فؤاد مطر أحد كتَّاب الرأي في صحيفة «الشرق الأوسط» مقالاته وحواراته على مدى 55 عاماً بدءاً بصحيفة «النهار» اللبنانية وختاماً بصحيفة «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» (بيروت)
كتب «من الزمن الصعب»... مأساوية الواقع وسخرية الحياة

«من الزمن الصعب»... مأساوية الواقع وسخرية الحياة

تمزج قصة «من الزمن الصعب» للدكتور المعماري نبيل عيسى أبو دية بين أحداث الواقع ومأساويته وسخرية الحياة، لا سيما حين يتعلق الأمر بالهجرة

«الشرق الأوسط» (عمان)
ثقافة وفنون عودة الراحلين في معرض القاهرة الدولي للكتاب

عودة الراحلين في معرض القاهرة الدولي للكتاب

يعيش المعرض الذي ينطلق غداً ظاهرة لافتة تتمثل بوجود كتب جديدة لن يتمكن مؤلفوها من رؤية أغلفتها وملامسة أوراقها.

عمر شهريار (القاهرة)
ثقافة وفنون جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة....

ميرزا الخويلدي (الشارقة)

أنسي الحاج... الصمت الناطق

أنسي الحاج
أنسي الحاج
TT

أنسي الحاج... الصمت الناطق

أنسي الحاج
أنسي الحاج

غادرنا أنسي الحاج قبل عقد ونيف، ولا يزال مريدوه ومحبوه يكتبون عنه ويقيمون له الاحتفاليات ويعيدون قراءة شعره ومساره وتأثيره على الحركة الشعرية. والكتاب الذي أصدره الشاعر إسكندر حبش عن «دار نلسن» بعنوان «نفسي ليست صحراء» يأتي في هذا السياق الاستعادي لشاعر «لن». فهو يتضمن مقابلتين طويلتين، كان قد أجراهما حبش مع أنسي الحاج، ونُشرتا في جريدة «السفير» التي توقفت عن الصدور، وأصبحت من الماضي، كما أنه يُلقي الضوء على بعض المعلومات الخاصة عن الشاعر، وطريقة تعاطيه مع المقابلات الصحافية. وفي الكتاب مقالتان، إحداهما عن أعمال أنسي الحاج، بعد أن أعادت «دار الجديد»، نشر كلّ كتبه التي سبقت «الوليمة»، وأخرى عن اللقاء الذي نظمته «دار نلسن» واجتمع له من تبقى من شعراء مجلة «شعر» حينها. وفي الختام «التحية» الوداعية، التي نشرها حبش غداة رحيل الشاعر.

غلاف الكتاب

مقابلتان ومقالتان

الحواران نُشرا في الكتاب، كما في «السفير»، ولم يخضعا لأي تعديلات، رغم أن التسجيل الصوتي لا يزال موجوداً. حبش أراد أن يبقى أميناً لرغبة أنسي الحاج، الذي حرص كعاداته في كل مقابلاته، على أن يقرأ النص قبل نشره، فيحذف ويضيف ويغيِّر وقد يختصر. ورغم أن حبش راودته نفسه أن يعود إلى تسجيلاته وينقذ ما حُذف منها فإنه يقول: خلصت إلى «أنني لن أتصرف إلا وفق رغبته (التي وافقت عليها مسبقاً قبل إجراء الحوارين)، من حيث نشر ما أراد هو أن يقوله، ومن حيث إيصال ما كان يرغب في إيصاله فقط».

يشرح الكاتب في مقدمته ظروف تعارفه بأنسى الحاج، وأن لقاءات عدة جمعت بينهما، وفي جعبته كثير مما يمكن أن يكتبه عن شخص الشاعر وما عرفه عنه، إلا أنه يترك البوح بما يعرف، ربما لمرات أخرى.

الصمت عن الشعر

قبل الحرب الأهلية (1975) كان أنسي الحاج كاتباً مُكْثراً؛ يكتب مقالاً أسبوعياً، ونشر خمس مجموعات، في فترة زمنية قصيرة نسبياً، لكنه دخل بعد ذلك في صمت طويل، استمر 17 عاماً، وانتهى بإصدار «خواتم» عام 1991، ليشكل «حدثاً استثنائياً». والفضل في هذه العودة التي لقيت احتفاء في الوسط الثقافي، يرجع إلى رياض الريس الذي أقنع أنسي بالكتابة في مجلته «الناقد». وما «خواتم» إلا حصيلة ما كتبه أنسي خلال هذه الفترة.

كان صمتاً عن النشر إذن، أكثر مما هو غياب عن الكتابة، علّله الشاعر بالحرب الأهلية التي طرحت عليه سؤالاً كبيراً حول جدوى الكتابة، في ظلّ القتل والدمار اللذين كانا يلفّان لبنان.

منذ عام 1975 لم يجمع أنسي الحاج قصائده في كتاب. صمتٌ عن الشعر، لكنه لم يكن متوقفاً عن الكتابة. «الشاعر كان لا يزال شاعراً، والعبارة لم تختلف عن العبارة بكل ما تحمله من حقد وحب، وقساوة وحنوٍّ، وصراخ وسكينة. عبارة مُشرّعة على انفجارات داخلية، يعرف الشاعر متى يدعها تَنعَم بالغفران».

من لقاءات مجلة شعر

صدمة الحرب

يشرح الشاعر: «لم أسكت لأنني ضائع، بل لأنني اضطُررت إلى إلهاء نفسي باختراعات كثيرة لأغيبَ عن وعي هذه الحالة التي كنت فيها. كان هناك موت. كان هناك استمرار للصَّلْب ما قبل الموت. لو كان موتاً لارتحت. كنت ميتاً وفي الوقت نفسه لم أرتح».

شكَّلت الحرب صدمةً كبرى للشاعر الصاعد كالسهم، يرى أنها دمَّرت أوهامه وأحلامه «لأن الحرب عكس الحلم». ثم كيف لا يتغير وتتبدل كتابته والحروب أظهرت أن الأحداث هي عملية تزوير ضخمة؟ لا يريد المشاركة فيها، لأنها كذبة كبيرة. «حرب الخليج؛ ألم تكن كذبة عالمية لضرب العراق والكويت معاً؟ ليس لي أمام هذا التاريخ إلا وقفة احتقار».

وهو ما يفسّر، ربما، أن نصوص «خواتم» جاءت مختلفة عن سابقاتها. فبعد الشعر الذي كتبه أنسي في المرحلة الأولى، جاءت المقالة الصحافية، ثم في مرحلة ثالثة، حسب حبش، كان هذا النمط الكتابي الذي رافقه حتى النهاية.

«خواتم» التفكير في الوجود

ويصف حبش هذه الكتابة بأنها عبارة عن «شذرات تملك في قوة اختصارها طاقةً واسعةً، لا على الحلم فقط بل على قول الذي لا يُقال؛ كأن كلّ جملة فيها تأتي من اختصارات كتب شتى، من تجارب متراكمة، لتصل مباشرةً إلى غاية القول». هكذا يبدو أن كلّ ما كتبه أنسي الحاج، في «خواتم»، «كان هدفه إعادة التفكير في هذا الوجود - الحياة، ليعيد صوغه وفق رؤى، تراكَم فيها العمر، والخبرة والتجربة الطويلة».

هذا يشرحه أنسي نفسه معتبراً أنه لا يقوم بمحاولة كتابية جديدة في الشكل فقط: «إن دوافعي النفسية هي التي تُملي عليَّ تغيير نمط حياتي... أحبّ أن أجدد نفسي دائماً، وليس ذلك في سبيل القارئ، وإنما من أجل ذاتي، لأنني أملّ الأشياء التي كتبتها».

أين ذهبت الكتابة المجنونة؟

لكنه لم يكن سعيداً بهذا النمط الثالث الذي يتحدث عنه حبش، ويرى أن أسلوبه تغير كثيراً ولم تعد لديه الحماسة بنفس زخمها. يستذكر الكتابات الأولى بشيء من الحزن: «كانت كتابتي مجنونة، والآن لم تعد كذلك. كتاباتي الآن فيها كثير من الألم. مليئة بالجرح والخوف الشديد. خوفي من الوجود. كنا نقف على ألغام الحياة ولم نكن نعرف ذلك... حين أكتب اليوم، أعمل جاهداً حتى أستعيد تلك اللحظات التي كنت فيها قبلاً...».

لافتٌ أيضاً أن يُنكر كل ما قيل عنه من أنه شاعر «متمرد»، «مارق»، حين روَّج لقصيدة النثر: «لمّا كتبت قصيدة النثر، لم يكن همي التمرد أو التغيير، كنت أرغب في أن أكون أميناً لنفسي لا أكثر ولا أقل، بدليل أنه حين اقتضت نفسي السكوت سكتُّ ولم أكتب. فالصمت ليس لديه أي صورة كتابية». لا، بل ينفي أنه كان يلاحق التيارات الكتابية في العالم، أو يتأثر بها كما كتب تكراراً. أكثر من ذلك، في اعتراف جريء للغاية، يبوح بأنه قرأ كثيراً في فترة الصمت صحيح. لكن «أعترف... لم أقرأ، في الماضي، إلا القليل جداً من الشعر الذي كنا نتحدث عنه كل الوقت ونتجاذب أطراف النقاش والتخاصم حوله مع النقاد والشعراء». عمَّ كان يدور النقاش إذن؟ وهل روادنا كانوا يتحدثون عمّا لا يعلمون؟

الأب الشرعي الوحيد

وحين يُسأل إن كان يعجبه أن يُدعى «الأب الشرعي الوحيد» لقصيدة النثر، منذ ظهور ديوان «لن»، يجيب بأنه لا يعتقد أن ما يُنسَب إليه صحيح، ومع ذلك «شيء واحد يعجبني... هو أنه تبنٍّ لكائن لم يكن ولم يصبح وأرجو ألا يصير، كائن (شرعي) في معنى الارتباط بمؤسسة الواقع والانتماء إلى عالم المصنفات المحنطة». وذلك لأنه يريد هذه القصيدة كائناً متمرداً، «يستمد وجوده من محض الشّعر، من محض التجربة، بلا مرجع غير ذاته وذات قارئه - الذات المتواجهة مع شياطينها».

عام 1993، أي بعد عامين من الحوار الأول، يصدر «الوليمة» الذي هو عودة إلى الشعر وينابيعه. «هو هنا، يعود إلى العين، إلى الأحلام، إلى الوعي، إلى اللاوعي، أي يعود إلى كل ما شكَّل غاباته وكهوفه»، فيما «خواتم» كان نصوصاً تقترب من الشعر، وتلامس الحكمة والتأمل.

شاعر غير محترف

بهذه المناسبة يطلب حبش من أنسي لقاءً صحافياً ثانياً، فيسارع إلى الموافقة. وكان قد عاد وقتها إلى العمل في جريدة «النهار»، لا لقناعة في نفسه بل لأنه لا يجيد فعل أي عمل آخر، كما كان يقول.

يحاول أنسي أن يشرح أنه ليس محترف كتابة شعر، بدليل أن مسافة زمنية كانت تفصل بين المجموعة والمجموعة، كما بين القصيدة والقصيدة. وها هو يعود من جديد: «حتى لا أظل أسمع سؤال: لماذا توقفت عن الكتابة؟ ولكن الآن، إذا ظل يلاحقني سؤال: لماذا عُدْتَ إلى الكتابة؟ فقد يكون الحل هو التوقف مجدداً».

وإذا كان أنسي يبدو كأنه يحب فك ارتباطه بكل ما حوله ولا يُبدي حماسة للدفاع عن شيء، فهو يدافع عن الشّعر العربي الحديث، ويرى أنه «هو الذي خلق اللغة التي يحاول بها إنسان العالم العربي اليوم أن يخرج من القبور ويدخل في صميم الحياة».

وهي لغة تصلح للوصول إلى الذات، وليست بالضرورة لإرضاء الآخر: «ما أكتبه، أكتبه ليُرضيني أولاً وأخيراً. وإذا أرضاني، فلماذا لا يُرضي سواي؟ أقصد قارئاً يشبهني، أو يكرهني، أو يحبني أكثر مما أحبه. في شِعري لا يعنيني قارئ الجريدة، ولا الأديب (العمومي)، ولا مثقف (الاختصاص)».

وهو إذ يبدو متبرماً، إلا أنه يرفض اليأس، يقول: «نفسي ليست صحراء... والأمل يومض ما دمت قادراً على الألم وعلى الحب».

حواران نُشرا في الكتاب، كما في «السفير»، لم يخضعا لأي تعديلات، رغم أن التسجيل الصوتي لا يزال موجوداً

بوح حول مجلة «شعر»

في الجزء المخصص للقاء مجلة «شعر»، يوم اجتمع مَن تبقى من شعرائها في بيروت، بمناسبة إعادة إصدار العدد الأول، نجد كل منهم يغمز من قناة الآخر. وهو ما لا يشبه في شيء الصورة الرومانسية التي تشكلت حول هؤلاء الرواد، ومجلة «شعر» تحديداً. أدونيس يقول: «أشك في أن يكون أحدنا كان يحب الآخر». أما أنسي الحاج فيقيم مراجعة صادمة: «لم يكن عندي الدور الكبير في المجلة، وأنا نادم على الجانب الذي ساهمت فيه. لذلك أشعر اليوم بفرح المغلوب على أمره، هو فرح كاذب... ربما سيأتي وقت يتخطانا فيه الجميع. هذا إن لم يكن قد تم تخطّينا». رياض الريس ليس أقل صراحةً، إذ يرى أنه كان «كومبارساً في المجلة، وسط حفنة من الشعراء، كانوا يجلسون في البلكون، أما أنا فكنت أجلس في الصالة». معترفاً بأن ما ربطه بالمجلة هو يوسف الخال.

يوسف الخال هو جامع الشمل، كما قال فؤاد رفقة، معلناً في خبر غير منتظر، أن قبره لم يعد موجوداً. أما أدونيس فقد وجد أن شخصية يوسف الخال «كانت شخصية مختلفاً عليها شعرياً فيما بيننا، وهو لم يكن رائياً شعرياً متميزاً فحسب بل كان رائياً ثقافياً أيضاً». أما شوقي أبي شقرا الذي كان يعد نفسه سبق الجميع إلى كتابة قصيدة النثر، فقد استعاد في كلمته روح مجلة «شعر» التي كانت تجد امتدادها مع روح العصر وروح يوسف الخال. هؤلاء الشعراء في غالبيتهم رحلوا، لكنهم في ذاك اللقاء يبدو أنهم نعوا مجلتهم، كأنهم يتبرأون منها.

كتاب جديد عن أنسي الحاج، يرمي حجراً في مياه الحداثة الشعرية وركودها الذي طال.