عادت مُصادَرة أعمال الكتاب إلى الواجهة من جديد، وقامت السلطات في الآونة الأخيرة بمنع أكثر من عمل أدبي في عدة بلدان عربية من التداول، تحت دعاوى حماية القيم والأخلاق في المجتمع. ويرى الأدباء أن هذه الدعاوى لا علاقة لها بالإبداع، ويخشون من تفاقم الظاهرة، والتمادي في عمليات المنع والتقييد؛ ما يهدد حرية التفكير، ويضعها تحت وصاية رقابة تفعل ذلك من دون أي مبرر فني أو سند موضوعي، مثلما جرى للمجموعة القصصية «المكحلة»، للكاتب الليبي أحمد يوسف عقيلة، معلناً أن السلطات في بلاده منعتها من التداول، ودون إبداء أسباب، أيضاً أعلن الأديب الأردني إبراهيم نصر الله عن تعرض أعماله الشعرية للمنع من التداول، في «معرض عمان الدولي للكتاب»، ثم عودتها بعد اتصالات مضنية، وهو المصير نفسه الذي عانى منه الروائي المصري علاء فرغلي في مارس (آذار) من العام الماضي، حين أعلن عن منع روايته «ممر بهلر» من التداول في مصر، وقد أثار ذلك حالة من الاستياء والاستهجان في الوسط الثقافي.
في هذا التحقيق تستطلع «الشرق الأوسط» آراء كُتّاب وناشرين حول هذه الظاهرة، وما ينجم عنها من آثار سلبية على المبدع والثقافة عموماً:
تغييب الوعي
يقول الناقد الدكتور أيمن بكر إن الخطير في أمر الرقابة أنها «كلما اشتدت على الإبداع قطعت قنوات الوعي بالذات والعالم والتاريخ، وهي الموضوعات التي يقتحمها، وتجعل القارئ منشغلاً بمناقشتها وإعادة النظر فيها. وهكذا تسهم الرقابة في تغييب الوعي التاريخي والخوف من مراجعة الذات والفزع من محاولة فهم العالم، وكلها أمور تمهد الأرض للتطرف الفكري باسم الدين والعرق، وتقف في وجه المراجعات التي يثيرها الإبداع الجريء المقتحم للخطوط الحمراء.
ويضيف بكر: «لا توجد رقابة على الإبداع سوى في دول العالم التي تُسمَّى بالنامية، فهي التي تعاني من مشكلات أساسية في حرية التعبير. والرقابة هنا لا تلعب أي دور يتصل بالحفاظ على القيم الأخلاقية أو المجتمعية، فالمبدع لا يفرض ما يكتبه على أحد، ويتعامل مع الجميع بوصفهم كائنات ناضجة قادرة على الاختيار والفرز. كما أن القيم المجتمعية ليست هشَّة لدرجة أن يقلقها نص شعري أو روائي أو تحليل فلسفي مخالِف لها، كما أن تناولها بالنقد أو التهكُّم أو السخرية أو حتى الانتهاك يُعد قناة مهمة من قنوات إحياء هذه القيم وإبقاء النقاش حولها حاضراً في الوعي العام».
ويستشهد بكر بعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، أبرز ضحايا الرقابة في مصر، وأزمة كتابه «في الشعر الجاهلي» الصادر عام 1926، التي وصلت إلى القضاء نتيجةَ الجدل الذي صاحب صدوره، وتطور إلى حد الدعوة لقتله؛ ما اضطره إلى تغيير عنوان الكتاب ليصبح «في الأدب الجاهلي»، بعد أن قام بحذف فصل منه، ووضع بديلاً له، مع إضافة فصول أخرى.
إن قادة حملة الهجوم على العميد، كما يضيف، «لم يكونوا مدفوعين بنبل الدفاع عن الشعر، أو القيم والمبادئ، لكنهم كانوا فقط، وعلى رأسهم الأديب مصطفى صادق الرافعي، مهمومين بالتحريض ضده، وقد ابتعدت كتاباتهم عن قيم البحث النقدي، وشابها كثير من التهم؛ فهو من وجهة نظرهم (أداة استعمارية)، وزنديق وملحد، وقد وصل الأمر إلى حد السخرية منه، فسماه الرافعي في كتابه (تحت راية القرآن): (أبا مرجريت)، و(المبشر طه حسين)، و(أبا ألبرت)، ثم لم يكتفِ بذلك وطالَب بإبعاده عن عمله الجامعي. بعد العميد، طالت سهام الرقابة صاحب نوبل الأديب نجيب محفوظ، ومنعت روايته (أولاد حارتنا) من الطباعة في مصر، رغم صدورها في حلقات بصحيفة (الأهرام) بين عامي 1959 و1960. وقد ظلت ذريعة للهجوم عليه وتكفيره حتى تعرض بسببها لمحاولة اغتيال في عام 1995، بطعنة سكين غادرة».
ويخلص بكر قائلاً: «رغم أن قرارات مصادَرة الكتب ومنعها من التداول تتخذها سلطات ليست ذات صفة دينية، فإن كل ما تم بشأنها في كثير من الدول العربية كان بذرائع تتمسح بالدين، ويسوقها دائماً الذين ينصّبون أنفسهم أوصياء على المجتمعات، لكن هدفهم الأساسي يكمن في السيطرة على الخطاب وحركته داخل الثقافة، كجزء من السيطرة على الوعي بصورة عامة، ولأن الأمر لم يعد ممكناً في عصر السماوات المفتوحة، فقد تحولت الرقابة إلى جهاز منفصل عن الواقع يحاول فقط أن يرضي ذاته والقائمين عليه، دونما أي أثر حقيقي على الأرض».
أداة للدعاية
ويلفت محمد البعلي مدير «دار صفصافة للنشر»، إلى ملاحظة مهمة، حيث يرى أن فعالية الدور الرقابي، وبسبب ثورة المعلومات، تبدلت للنقيض، وتحولت لأداة للدعاية للكتب التي تسعى السلطات لمنعها، لكن رغم هذه التحولات هناك كثيرون من المبدعين يقعون تحت سيطرة رقيب داخلي، وهم يمارسون العملية الإبداعية. وهو يرى أن «هؤلاء المبدعين لم يتعرضوا لأي نوع من الرقابة الحكومية، لكنهم يقعون دائماً تحت طائلة سؤال الرقابة الذاتية، بمعنى أنهم ينشرون كتباً جريئة على المستوى السياسي والفلسفي والتاريخي، وأخرى تتناول رؤية الثقافة للجسد والمرأة، وطوال الوقت يطرح المحررون والكتاب أنفسهم أسئلة تخص إمكانية نشر هذه الكتب التي يرونها متجاوزة الحدود، وتكون الإجابة من طرفنا عملية، وهي اتخاذنا قرار النشر».
أما عن السؤال فيما إذا كان الهدف من الرقابة هو الخوف على القيم الاجتماعية والأخلاقية، فيقول البعلي إنها «محاولة لقصقصة ريش المجتمع، ووضع غمامة على عينيه، وجعله قاصراً بالإكراه. والهدف منها إثبات أن هناك سلطة تتحكم، ولديها قواعد يجب عدم تخطيها، وهي هنا تقوم بمحاولاتها لتغطية العقل ووضع حجاب عليه يمنعه من التفكير والنقد والقيام بدوره في طرح الأسئلة، لذا يجب أن تكون مقاومة الرقابة فرض عين على كل مبدع ومفكر مهموم بالمجال الثقافي».
لجان القراءة
ويتحدث الروائي الدكتور حاتم رضوان عن تجربته في إجازة نشر الأعمال الأدبية مع سلسلة «كتابات جديدة» التابعة لـ«الهيئة المصرية العامة للكتاب»، قائلاً إنها «لم تكن من أجل إجازة نشر أعمال لكتاب راسخين في مجال الأدب، وإنما من أجل التقييم الفني لعدد من الكتاب الشباب الذين يبدأون مشوار الكتابة مع عملهم الأول، وكانت في المقام الأول تقييماً فنياً لصلاحية النشر، وليست تقييماً أخلاقياً لحماية القيم أو فرض وصاية على المجتمع أو ممارسة دور رقابي ما».
ويضيف: «اتبعت في تقييمي عدداً من المعايير الفنية مع بعض المرونة، مراعياً أنه العمل الأول، وتتلخص في عدد من النقاط، مثل جدية الفكرة، أو الأفكار التي يطرحها النص والابتكار في عرضها ومعالجتها بعيداً عن المباشرة والسطحية ورؤية الكاتب لعالمه الذي يكتب عنه، فالفن والأدب ليسا نقلاً فجاً للواقع... ركزت أيضاً على الاهتمام بلغة السرد وسلامتها اللغوية والفنية وخلوها من أخطاء الكتابة والنحو والصرف والأسلوب مع بعض التجاوز في القليل الذي يمكن تصويبه، كما أوليت عناية خاصة بتكنيك الكتابة أو التقنية المتَّبَعة في كتابة النص، ومدى نجاح الكاتب في استخدامها، وفي المجمل كم الدهشة في النص المكتوب. للكاتب أن يعرض ما شاء من الأفكار بصورة فنية، مع الأخذ في الاعتبار أن ما يُنشر في هيئة رسمية تتبع الدولة يختلف عما يُنشر في دور النشر الخاصة من محاذير، مثل عدم الخروج عن الآداب العامة ووجود ألفاظ نابية وفجة أو ازدراء للأديان. وفي النهاية، أكتب تقريراً مفصلاً عن العمل أبين فيه مزاياه ومشكلاته أو عيوبه الفنية، وبعض المقترحات لعلاج هذه المشكلات إن أمكن لمساعدة الكاتب من أجل الوصول للأفضل، وتظل هذه المعايير نسبية وتتبع الذائقة، وقد تختلف من محكِّم لآخر، بدليل أن بعض الأعمال قد يجيزها محكِّم ويرفضها آخر، ويتم اللجوء لمحكم ثالث».
ضوابط الكتابة
ويتحدث الكاتب الدكتور عمّار علي حسن عن «إمكانية أن تكون هناك ضوابط للكتابة الأدبية، فالحرية مسألة نسبية وليست مطلقة في أي مجتمع، وحرية أي مبدع تنتهي حين تبدأ حريات الآخرين في الاعتقاد والفهم والسلوك. ورغم أن الفن القصصي رسخ أقدامه في مجتمعاتنا، وانتزع أصحابه اعترافاً قوياً، فإن النظرة القديمة لا تزال مسيطرة على أذهان البعض، خصوصاً مَن ينتمون إلى المؤسسات الدينية التقليدية. وإذا كانت هذه النظرة لا تنادي أبداً بوأد هذا الفن، بوصف القرآن الكريم نفسه اتخذ القصة وسيلة للتعلُّم، فإنها تفرز تشددها حيال تفسير نص أدبي معين. وهنا تتعامل المؤسسات على أنه رأي بحت للكاتب، وتحاكمه على هذا الأساس».
وانتقد عمار «كُتَّاباً يغازلون الغرب في نصوصهم، ويجعلون من أعمالهم تجارب جنسية غارقة أحياناً في الابتذال والسوقية، وهناك مَن يجعلون اضطهاد المرأة وتدني حقوق الأقليات والحريات الدينية محاور أساسية تدور حولها بعض الأعمال الروائية والقصصية، وبعض السير الذاتية، بنصوص تبالغ في رسم السلبيات، بما يجعلها تشذ تماماً على الواقع وتبتعد كثيراً عن الحقيقة، لأن هذه المبالَغة تروق للعقل الغربي، وتخدم مصالح قوى معينة، ومن ثم ترحب دور النشر والهيئات والسفارات الأجنبية بترجمتها».