بول لينش: لم أتمكن من الكتابة مباشرة عن سوريا... فنقلت المشكلة إلى آيرلندا كمحاكاة

روايته «أغنية نبي» فازت بجائزة «بوكر» البريطانية

بول لينش
بول لينش
TT

بول لينش: لم أتمكن من الكتابة مباشرة عن سوريا... فنقلت المشكلة إلى آيرلندا كمحاكاة

بول لينش
بول لينش

هناك ما يكفي من الأعمال الروائيّة التي ينتجها الكتاب الآيرلنديون للإيحاء بأن «الأمّة الخضراء قد اختارت هذا الشكل الأدبي المعقّد كمرآة سوداء تعكس الذات المجتمعيّة لآخر أرض أوروبيّة قبل المحيط الأطلسي فتضيء على زواياها المظلمة وتلتقط في صورتها أسوأ ما فيها». في «أغنية نبي» لبول لينش، التي توّجت للتو بجائزة «بوكر» للرواية في نسختها الأحدث لعام 2023 - استمراريّة صريحة لهذا التقليد. لكن لينش الذي يتلفع في دور نذير يغني محذراً من الاستغراق في الغفلة بينما تهوي بلاده في ظلام الاستبداد ويناشدهم أن يتعظوا من خبرة الشعوب خارج «الحديقة الأوروبّيّة» جاء في وقت تعتمل فيه ديناميّات هذا السقوط بأبعد من شوارع دبلن - فضاء الرواية المكانيّ - لتمتد عبر البرّ الأوروبيّ برمته، حيث يتوّلد الشرر في رماد النّوازع المؤدلجة، ويتمدد تأييد الشعوبيين الإقصائيين ويصعّدون بقدرة قادر إلى مواقع السلطة والتأثير، في حين تتخندق المجموعات الثقافيّة والعرقيّة في معازلها الجغرافيّة والافتراضيّة، وتفرّغ الأحقاد، سواء موهومة أو موروثة، على أرواح الحلقات الأضعف من المهمشين واللاجئين والأقليّات. ولذلك؛ فإن الحكاية في «أغنية نبي» وإن بدأت ذات ليلة غاب القمر فيها عن سماء آيرلندا، لكنّها، بسردها اللاهث والمتوتر، سرعان ما تخرج من يد قارئها لتلتحق بركب أغاني أنبياء الديستوبيات التي شكلت وعي الإنسان المعاصر سليلة شرعيّة لها: «1984» لإريك بلير (الشهير بجورج أورويل)، و«حكاية أَمَة» لمارغريت آتوود، و«الطريق» لكورماك ماكارثي ولتصبح دبلن، بينما تخنقها قبضة التنين، وكأنها كل مدينة غربيّة أو عاصمة يتلاشى فيها منسوب الحريّات وتتعملق الأجهزة الأمنية على خلفيّة الإيقاع اليومي الرتيب لاستمرار متطلبات الحياة الحضريّة من جمع القمامة إلى تنظيم السيّر، وما بينهما.

غلاف الرواية الفائزة

من الجليّ أن لينش بحكم عمله الصحافيّ قد قطّر روايته الخامسة هذه من مادة حاضرنا الحالك الظلمة: أخبار تدفق اللاجئين من مجتمعات الشرق الأوسط بينما بلادهم تغرق في أوحال حروبها الأهليّة، المشهديّة التي رسمها الإعلام الغربيّ حول الصراع في أوكرانيا، ومزاج الاكتئاب المعمم - الأقرب إلى الخيال العلميّ - في لحظة «الكوفيد». لكنّه مع ذلك، رأى أنّه أقدر على وصف ذاك الكابوس العابر للحدود، المنسل كـوباء، بأدوات محليّة آيرلنديّة قريبة من مزاجه الشخصيّ، ومحيطه البيئي، وذاكرته التاريخية. وكان لينش قد أشار في تعليق له نشر على الموقع الإلكتروني لجائزة «بوكر»، إلى أن روايته الفائزة مستوحاة من الحرب السورية وأزمة اللاجئين، وأنها تحاول رصد «الاضطرابات في الديمقراطيات الغربية، وانهيار أمة بأكملها مثل سوريا، وحجم أزمة اللاجئين، ولامبالاة الغرب». وأضاف لينش: «لم أتمكن من الكتابة مباشرة عن سوريا؛ لذلك أحضرت المشكلة إلى آيرلندا كمحاكاة».

في «أغنية نبي» تتسربل آيرلندا المتخيلة تدريجيّاً بضباب الحكم الشموليّ بعدما يصعد تحالف يمينيّ إلى السلطة ما يلبث ويفرض أحكام الطوارئ لمدّ سيطرته الفولاذيّة الكليّة على أنفاس المجتمع بذريعة مواجهة نقابيين يضغطون من أجل زيادة الأجور، فتتآكل الحريات المدنية مع مرور الوقت، ويغلق النظام كل بوابات الاعتراض وإبداء الرأي، قبل أن تندلع حرب أهلية قاسية. وكما ضفادع هانئة في دورق على النار، لا يدرك الناس أن حرياتهم قد سلبت إلا بعد وصول الأمور إلى درجة الغليان، وفوات الأوان لوقف الكارثة: «طوال حياتك كنت غافلاً. بل كلنا كنا غافلين. وكأنه الآن فقط قد حان موعد الاستيقاظ العظيم». إنه وصف تخيليّ منغمس في قلب الحاضر لآليات البناء المتدرجة بروية نحو التأسيس لنظام استبدادي - الاعتقالات، والإخفاء القسريّ، والمراقبة، وخنق الحريّات، والمؤامرات -، في الوقت الذي يواصل فيه المجتمع ببلاهة طقوس عيشه الدنيوي اليوميّ.

لا يُغيّب في دبلن الشموليّة من يوصمون بالعداء للدولة فحسب، بل وينسحب الأمر بالارتباط على أقاربهم ومعارفهم وكل من يمكن أن يُصوّر كمعارض للنظام السياسيّ. المعلمون الذين يخرجون عن النصّ يتعرضون للإذلال العلنيّ، والقضاة سيودعون مهنتهم إن تصرفوا بغير هوى السلطة، فيما يطلق الجنود النار على المتظاهرين العزّل بلا رحمة، ويطفأ رجال المخابرات سجائرهم في أجساد المعتقلين وضحايا التعذيب.

الشخصيّة المركزيّة التي تسرد الأحداث من منظورها هي (إيليش) الباحثة في العلوم، والدة لأربعة أطفال، والتي يستدعى زوجها (لاري) - المدرّس والزعيم النقابيّ - للتحقيق معه من قِبل رجال الشرطة السريّة، قبل اعتقاله دون توجيه تهم محددة له. تجد إيليش نفسها في قلب مواجهة شرسة مع عالم يغرق في مستنقع من البارانويا والخوف وانعدام الثقة المتبادل بين المعارف والجيران. ولا تتورع الأجهزة الأمنية حتى عن استئجار رعاع للتضييق على أسرتها في مناخ منتن من تفسّخ اجتماعي يصبح بمثابة بيئة حاضنة لحكم طغمة عسكريّة ديكتاتوريّة تستمر في ممارساتها القمعية ضد كل من تصنّفهم في مقام المعارضين إلى أن تندلع شرارة حرب أهليّة قذرة يصبح الموت فيها أرخص من التراب.

تُراقب إيليش كل هذا التّردي بذهول، لكنها تُمنّي نفسها وعائلتها بتدخّل «المجتمع الدولي» - ذلك الوهم العقيم المقيم أبداً في قلوب الضعفاء - فتقول لمن حولها: «نحن لا نعيش في زاوية مظلمة من العالم، كما تعلمون. لا بدّ أن المجتمع الدولي سيتوسط للوصول إلى حلّ».

تتطور الأحداث لاحقاً بعد استدعاء زوجها وابنها الأكبر – مارك - لأداء الخدمة العسكريّة الإجباريّة، فيتواريا عن الأنظار. يدفع اليأس بإيليش للسعي إلى تهريب ابنها عبر البحر نحو كندا، حيث تقيم أختها، لكنّه يريد البقاء والالتحاق بجيش المتمردين. الأخت المهاجرة تتوسل إليها أن تهاجر بدورها وتجلب معها أطفالها، لكنّها تتمزق بين خوفها على فقدان زوجها، وحالة والدها الذي يأكل الخرف مع مرور الوقت الثقيل ذاكرته المغمسة بالماضي والمألوف والجميل عن أيّام أفضل.

إعلان فوز «أغنية نبي» بجائزة «بوكر» تزامن مع اندلاع اضطرابات عنصريّة الدّوافع في دبلن ذاتها... فكأنها انتقلت في لحظة من تصنيفها ديستوبيا مستقبليّة متخيلة إلى رواية تسجيليّة واقعية

«أغنية نبي» مرثاة حزينة لكل أولئك الذين تُسفك دماؤهم وتصادر أحلامهم وتفسد أيامهم على مذبح الإقصاء في ظل الآيديولوجيات الإلغائيّة، وأغنية تعاطف تجبر القارئ على تقمّص أدوار أولئك الذين تتقاطع على أرواحهم أزمات مجتمعاتهم مع شظف عيشهم اليوميّ، وقلق النجاة من غول الخارج مع التنانين التي تنهش القلوب من دواخلها، فينتهون بين الأمل والتخلي إلى مغادرة منازل ألفوها، مرّة تحت نيران القناصة بينما تحاول العبور عبر حدود التماس المرسومة بالدّماء، ومرّة أخرى بركوب البحر الغادر والعدائيّ نحو بلاد غريبة، وطقس غير ملائم، وأناس لا تمتلك أدنى مستويات الرغبة في فهم معاناة ضحايا اضطهاد الشموليّات.

يبدع لينش في التقاط علامات الانزلاق من شاطئ الحياة الرتيبة في ظلّ الديمقراطيّة إلى بحر دراما النظام الديكتاتوريّ في أدق التفاصيل المحلية – مكانياً في شوارع وأحياء وبنايات دبلن المألوفة لسكانها اليوم، وزمانياً في قراءة تقلب مشاعر إيليش الداخليّة أثناء حملقتها في تفاصيل ذلك المشهد المسكون بالظلام الدامس وكأن المدينة قد ابتلعها ليل يرخي سدوله استعداداً لإقامة سرمديّة -. على أن إبداعه ذاك لا يقل بحال أيضاً عن مهارته في القبض على نقاط الضوء القليلة التي تخترق الستارة السوداء الهائلة التي تغطي سماء دبلن.

نبض السرد في «أغنية النبي» لا يكلّ في تكثيفه لملامح مناخ خريفيّ تقشعر له الأبدان، فكأن القارئ يتأمل محجوزاً من نافذته في غرفة باردة مرور عاصفة تنفث غضبها ريحاً وأمطاراً ورعوداً دون توقف، بينما يتولى نسق توزيع كلمات النص على الصفحات بشكل مستمر متواتر دون تنظيم ولا علامات ترقيم رسم إطار مناسب لهذه النافذة المطلّة حصراً على قلب سواد العالم.

ولعل المفارقة التي سيتذكرها لينش دائماً، أن إعلان فوزه «أغنية نبي» بجائزة بوكر تزامن مع اندلاع اضطرابات عنصريّة الدّوافع في دبلن ذاتها، فكأنها انتقلت في لحظة من تصنيفها ديستوبيا مستقبليّة متخيلة، إلى رواية تسجيليّة واقعية. لقد سبقت الأحداث النّذير هذه المرّة.


مقالات ذات صلة

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «جدة تقرأ» عنوان معرض الكتاب 2024 (المركز الإعلامي)

الكتاب الورقي ينتصر على الأجهزة الرقمية في معرض جدة

في ظل التطور التقني والاعتماد المتزايد على الكتب الإلكترونية، حسم زوار معرض جدة للكتاب 2024 الجدل لصالح الكتاب الورقي

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق دور النشر شهدت إقبالاً كبيراً من الزوار من مختلف الأعمار (هيئة الأدب والنشر والترجمة)

«جدة للكتاب»... مزيج غني بالمعرفة والإبداع بأحدث الإصدارات الأدبية

يعايش الزائر لـ«معرض جدة للكتاب 2024» مزيجاً غنياً من المعرفة والإبداع يستكشف عبره أحدث الإصدارات الأدبية، ويشهد العديد من الندوات وورش العمل والجلسات الحوارية.

إبراهيم القرشي (جدة)

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر
TT

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث؛ لكنه يتوقف بشكل مفصَّل عند تجربة نابليون بونابرت في قيادة حملة عسكرية لاحتلال مصر، في إطار صراع فرنسا الأشمل مع إنجلترا، لبسط الهيمنة والنفوذ عبر العالم، قبل نحو قرنين.

ويروي المؤلف كيف وصل الأسطول الحربي لنابليون إلى شواطئ أبي قير بمدينة الإسكندرية، في الأول من يوليو (تموز) 1798، بعد أن أعطى تعليمات واضحة لجنوده بضرورة إظهار الاحترام للشعب المصري وعاداته ودينه.

فور وصول القائد الشهير طلب أن يحضر إليه القنصل الفرنسي أولاً ليستطلع أحوال البلاد قبل عملية الإنزال؛ لكن محمد كُريِّم حاكم الإسكندرية التي كانت ولاية عثمانية مستقلة عن مصر في ذلك الوقت، منع القنصل من الذهاب، ثم عاد وعدل عن رأيه والتقى القنصل الفرنسي بنابليون، ولكن كُريِّم اشترط أن يصاحب القنصل بعض أهل البلد.

تمت المقابلة بين القنصل ونابليون، وطلب الأول من الأخير سرعة إنزال الجنود والعتاد الفرنسي؛ لأن العثمانيين قد يحصنون المدينة، فتمت عملية الإنزال سريعاً، مما دعا محمد كُريِّم إلى الذهاب للوقوف على حقيقة الأمر، فاشتبك مع قوة استطلاع فرنسية، وتمكن من هزيمتها وقتل قائدها.

رغم هذا الانتصار الأولي، ظهر ضعف المماليك الذين كانوا الحكام الفعليين للبلاد حينما تمت عملية الإنزال كاملة للبلاد، كما ظهر ضعف تحصين مدينة الإسكندرية، فسقطت المدينة بسهولة في يد الفرنسيين. طلب نابليون من محمد كُريِّم تأييده ومساعدته في القضاء على المماليك، تحت دعوى أنه -أي نابليون- يريد الحفاظ على سلطة العثمانيين. ورغم تعاون كُريِّم في البداية، فإنه لم يستسلم فيما بعد، وواصل دعوة الأهالي للثورة، مما دفع نابليون إلى محاكمته وقتله رمياً بالرصاص في القاهرة، عقاباً له على هذا التمرد، وليجعله عبرة لأي مصري يفكر في ممانعة أو مقاومة نابليون وجيشه.

وهكذا، بين القسوة والانتقام من جانب، واللين والدهاء من جانب آخر، تراوحت السياسة التي اتبعها نابليون في مصر. كما ادعى أنه لا يعادي الدولة العثمانية، ويريد مساعدتهم للتخلص من المماليك، مع الحرص أيضاً على إظهار الاحترام ومراعاة مشاعر وكرامة المصريين؛ لكنه كان كلما اقتضت الضرورة لجأ إلى الترويع والعنف، أو ما يُسمَّى «إظهار العين الحمراء» بين حين وآخر، كلما لزم الأمر، وهو ما استمر بعد احتلال القاهرة لاحقاً.

ويذكر الكتاب أنه على هذه الخلفية، وجَّه نابليون الجنود إلى احترام سياسة عدم احتساء الخمر، كما هو معمول به في مصر، فاضطر الجنود عِوضاً عن ذلك لتدخين الحشيش الذي حصلوا عليه من بعض أهل البلد. ولكن بعد اكتشاف نابليون مخاطر تأثير الحشيش، قام بمنعه، وقرر أن ينتج بعض أفراد الجيش الفرنسي خموراً محلية الصنع، في ثكناتهم المنعزلة عن الأهالي، لإشباع رغبات الجنود.

وفي حادثة أخرى، وبعد أيام قليلة من نزول القوات الفرنسية إلى الإسكندرية، اكتشف القائد الفرنسي كليبر أن بعض الجنود يبيعون الملابس والسلع التي حملها الأسطول الفرنسي إلى السكان المحليين، وأن آخرين سلبوا بعض بيوت الأهالي؛ بل تورطت مجموعة ثالثة في جريمة قتل سيدة تركية وخادمتها بالإسكندرية، فعوقب كل الجنود المتورطين في هذه الجريمة الأخيرة، بالسجن ثلاثة أشهر فقط.

يكشف الكتاب كثيراً من الوقائع والجرائم التي ارتكبها جنود حملة نابليون بونابرت على مصر، ويفضح كذب شعاراته، وادعاءه الحرص على احترام ومراعاة مشاعر وكرامة المصريين.

لم تعجب هذه العقوبة نابليون، وأعاد المحاكمة، وتم إعدام الجنود المتورطين في هذه الحادثة بالقتل أمام بقية الجنود. وهكذا حاول نابليون فرض سياسة صارمة على جنوده، لعدم استفزاز السكان، وكان هذا جزءاً من خطته للتقرب من المصريين، وإرسال رسائل طمأنة إلى «الباب العالي» في الآستانة.

وكان من أول أعمال نابليون في الإسكندرية، وضع نظام حُكم جديد لها، استند إلى مجموعة من المبادئ، منها حرية الأهالي في ممارسة شعائرهم الدينية، ومنع الجنود الفرنسيين من دخول المساجد، فضلاً عن الحفاظ على نظام المحاكم الشرعية، وعدم تغييرها أو المساس بقوانينها الدينية، وكذلك تأليف مجلس بلدي يتكون من المشايخ والأعيان، وتفويض المجلس بالنظر في احتياجات السكان المحليين.

ورغم أن بعض بنود المرسوم تُعدُّ مغازلة صريحة لمشاعر السكان الدينية، فإن بنوداً أخرى تضمنت إجراءات شديدة القسوة، منها إلزام كل قرية تبعد ثلاث ساعات عن المواضع التي تمر بها القوات الفرنسية، بأن ترسل من أهلها رُسلاً لتأكيد الولاء والطاعة، كما أن كل قرية تنتفض ضد القوات الفرنسية تُحرق بالنار.

وفي مقابل عدم مساس الجنود الفرنسيين بالمشايخ والعلماء والقضاة والأئمة، أثناء تأديتهم لوظائفهم، ينبغي أن يشكر المصريون الله على أنه خلصهم من المماليك، وأن يرددوا في صلاة الجمعة دعاء: «أدام الله إجلال السلطان العثماني، أدام الله إجلال العسكر الفرنساوي، لعن الله المماليك، وأصلح حال الأمة المصرية».