ثلاثة أعمدة لكل معرفة رصينة

التاريخ والفلسفة والسير الذاتية

ثلاثة أعمدة لكل معرفة رصينة
TT

ثلاثة أعمدة لكل معرفة رصينة

ثلاثة أعمدة لكل معرفة رصينة

ربّما اختبر كثيرون حالة اختبرتُها من عقود عدّة: تقرأ مادّة ما في حقل معرفي ترى نفسك قريباً من عوالمه فيحصل أن تتوقّف كثيراً عند مفردات محدّدة ليست غريبة أو مستحدثة في ذلك الحقل المعرفي. هي غريبة عليك أنت، وحينذاك تضطرُّ لترك الأصل وتذهب لتفحّص تلك المفردة من جوانب تضعها في السياق التاريخي والفلسفي للمادة المقروءة حتى لا تحصل فجوةٌ أو قطيعةٌ مفاهيميةٌ في سياق القراءة. لا أقصدُ بالطبع مفرداتٍ نادرةً ستعترضك بالطبع عند كلّ قراءة غير كلاسيكية لأي موضوع معرفي؛ لكنّي أقصدُ تلك المفردات التي هي بعضُ العُدّة المفاهيمية الراسخة للموضوع. سيكون أمراً طبيعياً أن تَفْحَصَ مفردة أو اثنتيْن أو حتى ثلاثاً؛ لكن عندما تزداد أعداد المفردات وتتقافزُ بطريقة متكاثرة تغدو مواصلة القراءة حينئذ ضرباً من النشاط غير المجدي والمفتقد لكلّ متعة. الأمر حينها سيشبه حال مَنْ يترجمُ نصاً يضطرّه لمراجعة القاموس كلّ بضع كلمات حتى تصبح ترجمته ترحّلاً مستديماً بين نصّ وقاموس. لا أظنّ أنّ حالاً على هذه الشاكلة سيسرُّ أحداً أو سيغريه بمواصلة القراءة أو الترجمة. سينتابه الضجر والملل بعد أن تتحوّل قراءة النص الأصلي إلى مراجعة للهوامش والإحالات، وسيظلّ يعاتبُ نفسه بسبب الفجوات التي كان يتوجب عليه ملؤها قبل ذلك الوقت.

الحالة التي وصفتها أعلاهُ هي عَرَضٌ لنواقص في تنمية الإعدادات المسبّقة التي تتطلبها كلّ قراءة منتجة يُرادُ منها الوثوبُ إلى مستويات معرفية أرقى وأوسع من ذي قبلُ تحقيقاً لمبتغيات أكاديمية أو إيفاءً بنوازع الارتقاء المعرفي الشخصي. سيكون أمراً بديهياً القول: إن الشخص الذي لا يرتضي بالقراءة العابرة من غير تدقيق في التاريخ المفاهيمي والفلسفي للمادة المعرفية هو شخصٌ تؤذيه المعرفة المنقوصة وتَخِزُ ضميرَهُ الفجواتُ المعلوماتية والفلسفية، وهو في العموم مطبوعٌ بشيء من شخصية الساعي إلى الاكتمال (Perfectionist).

علّمتني خبرتي المتراكمة حقيقة أودُّ أن يستفيد منها كلّ من يسعى لمنجز معرفي أكاديمي أو على صعيد الفضاء الثقافي العام: إذا كنتَ تسعى لتحقيق منجز معرفي رصين، فالطريق لتحقيق ذلك يكون بمعرفة سياق التشكّل التاريخي للحقل المعرفي الذي تعمل فيه، ومعرفة سياق المؤثرات الفلسفية التي شكّلته، والاطلاع على السير الذاتية لمَنْ (أو بعض مَنْ) يمكن وصفهم بالآباء المؤسّسين لذلك الحقل المعرفي. هذه هي الأعمدة الثلاثة لكلّ معرفة رصينة لا تكتفي بالمتعة الشخصية الصغيرة العابرة وإنّما تتوسّلُ الرصانة والدقّة والتفاصيل مُرْتقى نحو مثابات معرفية أوسع.

التاريخ

المعرفة البشرية ليست شيئاً نخلقه من الفراغ. هي منشط مشتبك له خصيصة تراكمية، وكلّ انعطافة فيها لها ميزة مُسببة؛ أي أنّ سبباً ما استثارها على الشاكلة والصيغة اللتيْن حصلت في سياقهما تلك الانعطافة. القراءة التاريخية هي التي تجعلنا ندرك تلك السلسلة المتراكمة من الانعطافات، وأظنُّ أنّ الجهل بذلك التاريخ سيكون مثلبة كبرى لأسباب عدّة، أوّلها أنّ المرء سيظلُّ عائماً في فراغ مؤذٍ تسوده ضبابية معرفية مقلقة، وسيظلُّ يسألُ أسئلة سبق لغيره أن سألها، وسيكون مقطوع الجذور عن التيار الدافق لحركة التحديث على صعيد المفاهيم والتطبيقات المستحدثة، وقبل هذا من العبث تصوّرُ أنّ شخصاً مقطوع الصلة بالسياق التاريخي لتطوّر المفاهيم والنظريات في أي حقل معرفي سيكون قادراً على إنتاج معرفة جديدة أو انعطافة مستحدثة تمثلُ نقطة تحوّل مشهودة في ميدانه. هذا النوع من العبقرية المكتفية بذاتها تبدو نمطاً من الملاعبة المتخيّلة مع شياطين «وادي عبقر». وديانُ عبقر لا وجود لها في عالمنا المعاصر.

سأحدّثكم في هذا الشأن عن تجربة شخصية، والتجربة الشخصية هنا خيارُ المضطرّ لأنّ الحديث عن أمرٍ اختبره المرء بذاته له - بالضرورة - مصداقية أكبر من الحديث عن تجارب غير شخصية مقروءة أو منقولة عن آخرين. كنتُ إلى قبل عشر سنوات (بالتقريب) أعرفُ أجزاء متناثرة عن تاريخ الرواية، وقد تراكمت معرفتي هذه من قراءات متفرّقة لا ينتظمها ناظمٌ تاريخيٌّ يجيد ربط أجزاء الصورة مع بعضها، وربما تكون هذه منقصة بعض الكتب السائدة التي تناولت تاريخ الرواية من غير أن تتناول المؤثرات التقنية والمجتمعية والاقتصادية والبيئية في صناعة الرواية. حصل ذات يومٍ أن قرأتُ كتاب البروفسور جيسي ماتز عن تطوّر الرواية الحديثة، ورأيتُ فيه نمطاً من الكتابة التاريخية المخالف لنمط الكتابة التي ترى الأدب أو الرواية جزيرة منعزلة تحكمها قوانين جمالية ونفسية مكتفية بذاتها (الكتب التي ألّفها رينيه ويليك مثلاً رغم انجذابي الكبير لمؤلفاته هو ونظرائه الكلاسيكيين). أعترفُ أنّ كتاب ماتز شكّل انعطافة كبرى في فهمي ومعرفتي للفنّ الروائي، وعندما اعتزمتُ ترجمته وأكملتُ هذه الترجمة صار واضحاً لدي الفرق النوعي الهائل بين الكائن الروائي الذي كنته والذي صرتُهُ عقب تلك القراءة والترجمة.

لو شئتُ اختيار مُصنّف تاريخي كبير في حقل العلم فسأختارُ كتاب «بنية الثورات العلمية» الذي ألّفه توماس كون. هل يمكنُ أن نتخيّل فرداً يتوقُ لبصمة شخصية مميزة في ميدان العلم وهو لم يقرأ كتاب كون؟ تلك استحالة كما أظنّ فضلاً عن أننها مثلبة غير لائقة.

الفلسفة

إذا كان التاريخ (أو السياق التاريخي للأفكار إذا شئنا الدقّة) يكسو جسم المعرفة بالملبس بدل أن يظلّ عارياً؛ فمعرفة الفلسفة (أو السياق الفلسفي للأفكار) تجعلُ الملابس أنيقة (بدلة سموكنغ). هذه هي الفلسفة: الأناقة الفكرية والترحّل في الفضاءات المعرفية العليا.

الفلسفة المقصودة هنا هي في واقع الحال فلسفتان: الفلسفة العامة في تحقيبها المعهود زمنياً أو تبعاً لمناشط محدّدة (فلسفة إغريقية، فلسفة عربية، فلسفة المعرفة، فلسفة المنهج العلمي، فلسفة الأخلاق... إلخ)، ثمّ هناك الفلسفة الخاصة بالحقل المعرفي المحدّد.

المثالُ الأجلى الذي يمكن فيه أن نختبر تأثير الفلسفة هو ميدان الذكاء الاصطناعي الذي هو اليوم خصيصة العصر الرقمي ومفجّرُ الثورات التقنية التي ستعيدُ رسم شكل المستقبل والوجود البشري المادي بكلّ تمظهراته. لو تابعنا منشورات أكابر أعمدة الذكاء الاصطناعي في يومنا لوجدناهم أقرب إلى فلاسفة يتناولون موضوعات فلسفة المعرفة والأبستمولوجيا وثنائية العقل - الجسد، وفي الغالب سيفردون فصولاً تمهيدية لمثل هذه الموضوعات في كتبهم المنشورة حتى لو كانت كتباً منهجية في الذكاء الاصطناعي.

السير الذاتية

السيَرُ الذاتية تؤنسِنُ المعرفة. تجعلها صنيعة بشرٍ مثلنا وإن كانوا يمتلكون ميّزات عقلية متقدّمة؛ غير أنّ هذه الميزات لم تُمنَحْ لهم مجاناً بقدر ما كانت نتاجاً لكفاح صبور وطويل ومتعدد الجبهات.

خذ نيوتن، أو آينشتاين، أو تورنغ (أحد العباقرة المؤسّسين لفكرة الحاسوب والذكاء الاصطناعي)، أو فاينمان، أو هوكنغ، أو برتراند رسل، أو كانْتْ أو سواهم من أدباء أو روائيين أو فلاسفة أو علماء فستراهم أوّل معرفتك بهم صنفاً من المخلوقات التي تتعالى على صنف البشر؛ لكنْ عندما تقرأ سيرهم الذاتية (أو السير المكتوبة عنهم) ستراهم كائنات بشرية عانت كثيراً وارتكبت حماقات وخاضت تجارب وسافرت ورأت وجرّبت وفازت وخسرت وبكت وفرحت... إلخ.

جانب آخر مهم لقراءة السير الذاتية: المرء في هذه السير يتاح له الحديث الحرّ عمّا يشاء من غير قيود أكاديمية أو اعتبارية. سترى الوجه المؤنسن لهؤلاء، وستعرف أنّ من الممكن أن تصنع ما صنعوه بل وقد تتفوّق عليهم. جرّبْ أن تقرأ كتاب «أنت تمزح بالتأكيد سيّد فاينمان» وستندهش لعلوّ شأن الروح المرحة والتوّاقة لصنع المزاح في شخصية فاينمان الذي حاز جائزة نوبل في الفيزياء.

نحنُ نشكو من قلّة الإشارة إلى السياقات التاريخية والفلسفية والسير الذاتية في نظمنا التعليمية (الجامعية بالتحديد)، والمواد المعرفية تشكو فقراً مزمناً في إعداداتها المطلوبة؛ لكن يجب التأكيد على أنّ هذه الأعمدة الثلاثة مرهونة بشغف المرء وموكولة إلى رغبته في التحصيل والاستزادة والبناء التراكمي. ليست ثمّة جامعة في العالم (حتى هارفرد أو كامبردج أو أكسفورد أو MIT...) ستجعلُ دروسها وقفاً حصرياً على هذه الأعمدة الثلاثة. كلّ كتابٍ منهجي أو مرصود للقراءة العامة سيحوي فصولاً تمهيدية تتناول هذه الأركان الثلاثة (أو بعضها) حتى لو جاءت بطريقة مختصرة، وبإمكان المرء قراءتها وعدم تجاوزها طمعاً في المادة التقنية المتخصصة.

الشغف المدفوع بذائقة فلسفية جامحة مقترنة برؤية مستقبلية لما يسعى المرء لتحقيقه هو المعوّل عليه في كلّ معرفة حقيقية ورصينة، وبغير هذا النمط من الشغف لن تكون المعرفة «الرسمية» سوى سويعات من الزمن الضائع وغير المنتج.


مقالات ذات صلة

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

ثقافة وفنون «حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

قد يفاجأ القارئ الاعتيادي الذي يقرأ هذا النص السردي الموسوم بـ«وجوه من حجر النرد»، الصادر عام 2024، كونه لا يمت بصلة لفن الرواية الحديثة

فاضل ثامر
ثقافة وفنون أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

في مجموعته القصصية «العاقرات يُنجبن أحياناً»، يُجري الكاتب المصري أحمد إيمان زكريا مفاوضات ضمنية بين المُمكن والمستحيل بما يُشبه لعبة الشدّ والجذب

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون «ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

في ديوانها الرابع «ذهبُ أجسادهن» الصادر عن دار «كتب» ببيروت، تسعى الشاعرة المغربية عائشة بلحاج إلى رصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق أجمل ما يحدُث هو غير المُتوقَّع (مواقع التواصل)

من «لم أَبِع كتاباً» إلى «الأكثر مبيعاً»

أكّدت كاتبة بريطانية طموحة أنّ رؤية روايتها تُصبح من أكثر الكتب مبيعاً بعدما انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي كان ذلك أمراً «مثيراً جداً».

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب إيمانويل كانط

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟

لطفية الدليمي

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.