ثلاثة أعمدة لكل معرفة رصينة

التاريخ والفلسفة والسير الذاتية

ثلاثة أعمدة لكل معرفة رصينة
TT

ثلاثة أعمدة لكل معرفة رصينة

ثلاثة أعمدة لكل معرفة رصينة

ربّما اختبر كثيرون حالة اختبرتُها من عقود عدّة: تقرأ مادّة ما في حقل معرفي ترى نفسك قريباً من عوالمه فيحصل أن تتوقّف كثيراً عند مفردات محدّدة ليست غريبة أو مستحدثة في ذلك الحقل المعرفي. هي غريبة عليك أنت، وحينذاك تضطرُّ لترك الأصل وتذهب لتفحّص تلك المفردة من جوانب تضعها في السياق التاريخي والفلسفي للمادة المقروءة حتى لا تحصل فجوةٌ أو قطيعةٌ مفاهيميةٌ في سياق القراءة. لا أقصدُ بالطبع مفرداتٍ نادرةً ستعترضك بالطبع عند كلّ قراءة غير كلاسيكية لأي موضوع معرفي؛ لكنّي أقصدُ تلك المفردات التي هي بعضُ العُدّة المفاهيمية الراسخة للموضوع. سيكون أمراً طبيعياً أن تَفْحَصَ مفردة أو اثنتيْن أو حتى ثلاثاً؛ لكن عندما تزداد أعداد المفردات وتتقافزُ بطريقة متكاثرة تغدو مواصلة القراءة حينئذ ضرباً من النشاط غير المجدي والمفتقد لكلّ متعة. الأمر حينها سيشبه حال مَنْ يترجمُ نصاً يضطرّه لمراجعة القاموس كلّ بضع كلمات حتى تصبح ترجمته ترحّلاً مستديماً بين نصّ وقاموس. لا أظنّ أنّ حالاً على هذه الشاكلة سيسرُّ أحداً أو سيغريه بمواصلة القراءة أو الترجمة. سينتابه الضجر والملل بعد أن تتحوّل قراءة النص الأصلي إلى مراجعة للهوامش والإحالات، وسيظلّ يعاتبُ نفسه بسبب الفجوات التي كان يتوجب عليه ملؤها قبل ذلك الوقت.

الحالة التي وصفتها أعلاهُ هي عَرَضٌ لنواقص في تنمية الإعدادات المسبّقة التي تتطلبها كلّ قراءة منتجة يُرادُ منها الوثوبُ إلى مستويات معرفية أرقى وأوسع من ذي قبلُ تحقيقاً لمبتغيات أكاديمية أو إيفاءً بنوازع الارتقاء المعرفي الشخصي. سيكون أمراً بديهياً القول: إن الشخص الذي لا يرتضي بالقراءة العابرة من غير تدقيق في التاريخ المفاهيمي والفلسفي للمادة المعرفية هو شخصٌ تؤذيه المعرفة المنقوصة وتَخِزُ ضميرَهُ الفجواتُ المعلوماتية والفلسفية، وهو في العموم مطبوعٌ بشيء من شخصية الساعي إلى الاكتمال (Perfectionist).

علّمتني خبرتي المتراكمة حقيقة أودُّ أن يستفيد منها كلّ من يسعى لمنجز معرفي أكاديمي أو على صعيد الفضاء الثقافي العام: إذا كنتَ تسعى لتحقيق منجز معرفي رصين، فالطريق لتحقيق ذلك يكون بمعرفة سياق التشكّل التاريخي للحقل المعرفي الذي تعمل فيه، ومعرفة سياق المؤثرات الفلسفية التي شكّلته، والاطلاع على السير الذاتية لمَنْ (أو بعض مَنْ) يمكن وصفهم بالآباء المؤسّسين لذلك الحقل المعرفي. هذه هي الأعمدة الثلاثة لكلّ معرفة رصينة لا تكتفي بالمتعة الشخصية الصغيرة العابرة وإنّما تتوسّلُ الرصانة والدقّة والتفاصيل مُرْتقى نحو مثابات معرفية أوسع.

التاريخ

المعرفة البشرية ليست شيئاً نخلقه من الفراغ. هي منشط مشتبك له خصيصة تراكمية، وكلّ انعطافة فيها لها ميزة مُسببة؛ أي أنّ سبباً ما استثارها على الشاكلة والصيغة اللتيْن حصلت في سياقهما تلك الانعطافة. القراءة التاريخية هي التي تجعلنا ندرك تلك السلسلة المتراكمة من الانعطافات، وأظنُّ أنّ الجهل بذلك التاريخ سيكون مثلبة كبرى لأسباب عدّة، أوّلها أنّ المرء سيظلُّ عائماً في فراغ مؤذٍ تسوده ضبابية معرفية مقلقة، وسيظلُّ يسألُ أسئلة سبق لغيره أن سألها، وسيكون مقطوع الجذور عن التيار الدافق لحركة التحديث على صعيد المفاهيم والتطبيقات المستحدثة، وقبل هذا من العبث تصوّرُ أنّ شخصاً مقطوع الصلة بالسياق التاريخي لتطوّر المفاهيم والنظريات في أي حقل معرفي سيكون قادراً على إنتاج معرفة جديدة أو انعطافة مستحدثة تمثلُ نقطة تحوّل مشهودة في ميدانه. هذا النوع من العبقرية المكتفية بذاتها تبدو نمطاً من الملاعبة المتخيّلة مع شياطين «وادي عبقر». وديانُ عبقر لا وجود لها في عالمنا المعاصر.

سأحدّثكم في هذا الشأن عن تجربة شخصية، والتجربة الشخصية هنا خيارُ المضطرّ لأنّ الحديث عن أمرٍ اختبره المرء بذاته له - بالضرورة - مصداقية أكبر من الحديث عن تجارب غير شخصية مقروءة أو منقولة عن آخرين. كنتُ إلى قبل عشر سنوات (بالتقريب) أعرفُ أجزاء متناثرة عن تاريخ الرواية، وقد تراكمت معرفتي هذه من قراءات متفرّقة لا ينتظمها ناظمٌ تاريخيٌّ يجيد ربط أجزاء الصورة مع بعضها، وربما تكون هذه منقصة بعض الكتب السائدة التي تناولت تاريخ الرواية من غير أن تتناول المؤثرات التقنية والمجتمعية والاقتصادية والبيئية في صناعة الرواية. حصل ذات يومٍ أن قرأتُ كتاب البروفسور جيسي ماتز عن تطوّر الرواية الحديثة، ورأيتُ فيه نمطاً من الكتابة التاريخية المخالف لنمط الكتابة التي ترى الأدب أو الرواية جزيرة منعزلة تحكمها قوانين جمالية ونفسية مكتفية بذاتها (الكتب التي ألّفها رينيه ويليك مثلاً رغم انجذابي الكبير لمؤلفاته هو ونظرائه الكلاسيكيين). أعترفُ أنّ كتاب ماتز شكّل انعطافة كبرى في فهمي ومعرفتي للفنّ الروائي، وعندما اعتزمتُ ترجمته وأكملتُ هذه الترجمة صار واضحاً لدي الفرق النوعي الهائل بين الكائن الروائي الذي كنته والذي صرتُهُ عقب تلك القراءة والترجمة.

لو شئتُ اختيار مُصنّف تاريخي كبير في حقل العلم فسأختارُ كتاب «بنية الثورات العلمية» الذي ألّفه توماس كون. هل يمكنُ أن نتخيّل فرداً يتوقُ لبصمة شخصية مميزة في ميدان العلم وهو لم يقرأ كتاب كون؟ تلك استحالة كما أظنّ فضلاً عن أننها مثلبة غير لائقة.

الفلسفة

إذا كان التاريخ (أو السياق التاريخي للأفكار إذا شئنا الدقّة) يكسو جسم المعرفة بالملبس بدل أن يظلّ عارياً؛ فمعرفة الفلسفة (أو السياق الفلسفي للأفكار) تجعلُ الملابس أنيقة (بدلة سموكنغ). هذه هي الفلسفة: الأناقة الفكرية والترحّل في الفضاءات المعرفية العليا.

الفلسفة المقصودة هنا هي في واقع الحال فلسفتان: الفلسفة العامة في تحقيبها المعهود زمنياً أو تبعاً لمناشط محدّدة (فلسفة إغريقية، فلسفة عربية، فلسفة المعرفة، فلسفة المنهج العلمي، فلسفة الأخلاق... إلخ)، ثمّ هناك الفلسفة الخاصة بالحقل المعرفي المحدّد.

المثالُ الأجلى الذي يمكن فيه أن نختبر تأثير الفلسفة هو ميدان الذكاء الاصطناعي الذي هو اليوم خصيصة العصر الرقمي ومفجّرُ الثورات التقنية التي ستعيدُ رسم شكل المستقبل والوجود البشري المادي بكلّ تمظهراته. لو تابعنا منشورات أكابر أعمدة الذكاء الاصطناعي في يومنا لوجدناهم أقرب إلى فلاسفة يتناولون موضوعات فلسفة المعرفة والأبستمولوجيا وثنائية العقل - الجسد، وفي الغالب سيفردون فصولاً تمهيدية لمثل هذه الموضوعات في كتبهم المنشورة حتى لو كانت كتباً منهجية في الذكاء الاصطناعي.

السير الذاتية

السيَرُ الذاتية تؤنسِنُ المعرفة. تجعلها صنيعة بشرٍ مثلنا وإن كانوا يمتلكون ميّزات عقلية متقدّمة؛ غير أنّ هذه الميزات لم تُمنَحْ لهم مجاناً بقدر ما كانت نتاجاً لكفاح صبور وطويل ومتعدد الجبهات.

خذ نيوتن، أو آينشتاين، أو تورنغ (أحد العباقرة المؤسّسين لفكرة الحاسوب والذكاء الاصطناعي)، أو فاينمان، أو هوكنغ، أو برتراند رسل، أو كانْتْ أو سواهم من أدباء أو روائيين أو فلاسفة أو علماء فستراهم أوّل معرفتك بهم صنفاً من المخلوقات التي تتعالى على صنف البشر؛ لكنْ عندما تقرأ سيرهم الذاتية (أو السير المكتوبة عنهم) ستراهم كائنات بشرية عانت كثيراً وارتكبت حماقات وخاضت تجارب وسافرت ورأت وجرّبت وفازت وخسرت وبكت وفرحت... إلخ.

جانب آخر مهم لقراءة السير الذاتية: المرء في هذه السير يتاح له الحديث الحرّ عمّا يشاء من غير قيود أكاديمية أو اعتبارية. سترى الوجه المؤنسن لهؤلاء، وستعرف أنّ من الممكن أن تصنع ما صنعوه بل وقد تتفوّق عليهم. جرّبْ أن تقرأ كتاب «أنت تمزح بالتأكيد سيّد فاينمان» وستندهش لعلوّ شأن الروح المرحة والتوّاقة لصنع المزاح في شخصية فاينمان الذي حاز جائزة نوبل في الفيزياء.

نحنُ نشكو من قلّة الإشارة إلى السياقات التاريخية والفلسفية والسير الذاتية في نظمنا التعليمية (الجامعية بالتحديد)، والمواد المعرفية تشكو فقراً مزمناً في إعداداتها المطلوبة؛ لكن يجب التأكيد على أنّ هذه الأعمدة الثلاثة مرهونة بشغف المرء وموكولة إلى رغبته في التحصيل والاستزادة والبناء التراكمي. ليست ثمّة جامعة في العالم (حتى هارفرد أو كامبردج أو أكسفورد أو MIT...) ستجعلُ دروسها وقفاً حصرياً على هذه الأعمدة الثلاثة. كلّ كتابٍ منهجي أو مرصود للقراءة العامة سيحوي فصولاً تمهيدية تتناول هذه الأركان الثلاثة (أو بعضها) حتى لو جاءت بطريقة مختصرة، وبإمكان المرء قراءتها وعدم تجاوزها طمعاً في المادة التقنية المتخصصة.

الشغف المدفوع بذائقة فلسفية جامحة مقترنة برؤية مستقبلية لما يسعى المرء لتحقيقه هو المعوّل عليه في كلّ معرفة حقيقية ورصينة، وبغير هذا النمط من الشغف لن تكون المعرفة «الرسمية» سوى سويعات من الزمن الضائع وغير المنتج.


مقالات ذات صلة

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «جدة تقرأ» عنوان معرض الكتاب 2024 (المركز الإعلامي)

الكتاب الورقي ينتصر على الأجهزة الرقمية في معرض جدة

في ظل التطور التقني والاعتماد المتزايد على الكتب الإلكترونية، حسم زوار معرض جدة للكتاب 2024 الجدل لصالح الكتاب الورقي

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق دور النشر شهدت إقبالاً كبيراً من الزوار من مختلف الأعمار (هيئة الأدب والنشر والترجمة)

«جدة للكتاب»... مزيج غني بالمعرفة والإبداع بأحدث الإصدارات الأدبية

يعايش الزائر لـ«معرض جدة للكتاب 2024» مزيجاً غنياً من المعرفة والإبداع يستكشف عبره أحدث الإصدارات الأدبية، ويشهد العديد من الندوات وورش العمل والجلسات الحوارية.

إبراهيم القرشي (جدة)

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية
TT

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام، ولفت الانتباه؛ لأن رواية المانجا «أنستان» أو «الغريزة» لصاحبها المؤثر أنس بن عزوز، الملقب بـ«إنوكس تاغ» باعت أكثر من 82 ألف نسخة خلال 4 أيام. وهو إنجاز كبير؛ لأن القصّة الموجهة إلى جمهور من القرّاء الشباب قد خطفت المرتبة الأولى في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً من «الحوريات»، الرواية الفائزة بجائزة «الغونكور» لهذه السنة.

ولمن يستغرب هذا الرواج أو اهتمام دور النشر بالكُتاب المبتدئين من صنّاع المحتوى، فإن الظاهرة ليست بالجديدة؛ حيث إن كثيراً من المكتبات والمواقع أصبحت تخصّص رفوفاً كاملة لهذه النوعية من الكتب، كسلسلة «#فولوي مي» التابعة لدار «أشيت»، والتي تضم أعمالاً للمؤثرين تتوزع بين السّير الذاتية والقصص المصوّرة والتنمية البشرية والأسفار، وحتى الطبخ.

في فرنسا، أول تجربة من هذا القبيل كانت عام 2015، بكتاب «إنجوي ماري»، وهو السيرة الذاتية للمؤثرة ماري لوبيز المعروفة بـ«إنجوي فنيكس» (6 ملايين متابع على إنستغرام). وإن كان البعض لا يستوعب أن تكتب فتاة في سن العشرين سيرتها الذاتية، فقد يستغرب أيضاً النجاح التجاري الكبير الذي حصل عليه هذا الكتاب؛ حيث باع أكثر من 250 ألف نسخة، رغم الهجوم الشديد على الأسلوب الكتابي الرديء، حتى لقَّبتها مجلة «لي زنكوريبتبل» الثقافية متهكمة بـ«غوستاف فلوبير الجديد». شدّة النقد لم تمنع زملاءها في المهنة من خوض التجربة نفسها بنجاح؛ المؤثرة ناتو (5 ملايين متابع على يوتيوب) نشرت مع مؤسسة «روبرت لافون» العريقة رواية «أيقونة»، قدمت فيها صورة ساخرة عن عالم المجلات النسوية، وباعت أكثر من 225 ألف نسخة. وتُعدُّ دار نشر «روبرت لافون» بالذات الأكثر تعاوناً مع صناع المحتوى؛ حيث نشرت لكثير منهم.

في هذا السياق، الأكثر نجاحاً حتى اليوم كان كتاب التنمية البشرية «الأكثر دائماً+» لصاحبته لينا محفوف، الملقبة بـ«لينا ستواسيون» (5 ملايين متابع على إنستغرام) وباع أكثر من 400 ألف نسخة.

مجلة «لي زيكو» الفرنسية، تحدثت في موضوع بعنوان «صناع المحتوى؛ الدجاجة التي تبيض ذهباً لدور نشر» عن ظاهرة «عالمية» من خلال تطرقها للتجارب الناجحة لمؤثرين من أوروبا وأميركا، حملوا محتواهم إلى قطاع النشر، فكُلّلت أعمالهم بالنجاح في معظم الحالات. المجلة استشهدت بالتجربة الأولى التي فتحت الطريق في بريطانيا، وكانت بين دار نشر «بانغوين بوكس» والمؤثرة زوي سوغ (9 ملايين متابع على إنستغرام) والتي أثمرت عن روايتها الناجحة «فتاة على الإنترنت» أو «غور أون لاين»؛ حيث شهدت أقوى انطلاقة في المكتبات البريطانية بـ80 ألف نسخة في ظرف أسبوع، متفوقة على سلسلة «هاري بوتر» و«دافنشي كود».

المجلة نقلت بهذه المناسبة حكاية طريفة، مفادها أن توم ويلدون، مدير دار النشر، كان قد تعاقد مع المؤثرة بنصيحة من ابنته البالغة من العمر 12 سنة، والتي كانت متابعة وفيّة لها.

ومما لا شك فيه هو أن اهتمام دور النشر بأعمال المؤثرين يبقى مدفوعاً بالأرباح المادية المتوقعة، وهو ما أكده موضوع بمجلة «لوبوان» بعنوان «المؤثرون آلة لصنع النجاحات التجارية في قطاع النشر». كشف الموضوع عن أن تحويل المحتوى السمعي البصري لصناع المحتوى إلى الكتابي، أصبح بمثابة الورقة الرابحة للناشرين، أولاً لأنه يوفر عليهم عناء الترويج الذي تتكفل به مجتمعات المشتركين والمتابعين، وكل وسائل التواصل التابعة للمؤثرين، والتي تقوم بالعمل بدل الناشر، وهو ما قد يقلّل من خطر الفشل؛ بل قد يضمن الرواج الشعبي للعمل. ثم إنها الورقة التي قد تسمح لهم في الوقت نفسه بالوصول إلى فئات عمرية لم تكن في متناولهم من قبل: فجمهور المراهقين -كما يشرح ستيفان كارير، مدير دار نشر «آن كاريير» في مجلة «ليفر إيبدو»: «لم يكن يوماً أقرب إلى القراءة مما هو عليه اليوم. لقد نشرنا في السابق سِيَراً ذاتية لشخصيات من كل الفضاءات، الفرق هذه المرة هو أن المؤثرين صنعوا شهرتهم بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، ولهم جمهور جاهز ونشيط، وإذا كانت هذه الشخصيات سبباً في تقريب الشباب إلى القراءة، فلمَ لا نشجعهم؟».

شريبر: الكتاب بعيد كل البعد عن مستوى «الغونكور» وبأن كاتبته لم تقرأ في حياتها كتاباً باستثناء الكتاب الذي كتبته

هذه المعطيات الجديدة جعلت الأوضاع تنقلب رأس على عقب، فبينما يسعى الكتاب المبتدئون إلى طرق كل الأبواب أملاً في العثور على ناشر، تأتي دور نشر بنفسها إلى صناع المحتوى، باسطة أمامهم السّجاد الأحمر.

وإن كان اهتمام دور النشر بصنّاع المحتوى لاعتبارات مادية مفهوماً -بما أنها مؤسسات يجب أن تضمن استمراريتها في قطاع النشر- فإن مسألة المصداقية الأدبية تبقى مطروحة بشدّة.

بيار سوفران شريبر، مدير مؤسسة «ليامون» التي أصدرت مذكرات المؤثرة الفرنسية جسيكا تيفنو (6 ملايين متابع على إنستغرام) بجزأيها الأول والثاني، رفض الإفصاح عن كم مبيعات الكتاب، مكتفياً بوصفه بالكبير والكبير جداً؛ لكنه اعترف في الوقت نفسه بلهجة ساخرة بأن الكتاب بعيد كل البعد عن مستوى «الغونكور» وبأن كاتبته لم تقرأ في حياتها كتاباً باستثناء الكتاب الذي كتبته؛ لكنها لم تدَّعِ يوماً أنها تكتب بأسلوب راقٍ، وكل ما كانت تريده هو نقل تجاربها الشخصية إلى الجمهور ليأخذ منها العبَر.

الناقد الأدبي والصحافي فريديك بيغ بيدر، كان أكثر قسوة في انتقاده لكتاب المؤثرة لينا ستواسيون، في عمود بصحيفة «الفيغارو» تحت عنوان: «السيرة الذاتية لمجهولة معروفة»؛ حيث وصف العمل بـ«المقرف» و«الديماغوجية»، مضيفاً: «بين الأنا والفراغ اختارت لينا ستواسيون الخيار الثاني». كما وصف الكاتبة الشابة بـ«بالجاهلة التي تعترف بجهلها»، منهياً العمود بالعبارة التالية: «147 صفحة ليس فيها سوى الفراغ، خسرتُ 19 يورو في لا شيء».

أما الناشر بيار سوفران شريبر، فقد قال في مداخلة لصحيفة «لوبوان»: «اتهمونا بنشر ثقافة الرداءة؛ لكن هذه النوعية من الكتب هي هنا لتلتقي بقرائها. إنهما عالمان بعيدان استطعنا تقريبهما بشيء سحري اسمه الكتاب. فلا داعي للازدراء».