دانييل دينيت... التفكير مهنة حياتي

يرى الفلسفة وسيلة للكشف عن التماثلات بين كل الحقول المعرفية

دانييل دينيت... التفكير مهنة حياتي
TT

دانييل دينيت... التفكير مهنة حياتي

دانييل دينيت... التفكير مهنة حياتي

ليست معرفتي بالفيلسوف دانييل دينيت Daniel Dennett بعيدة؛ إذ لا أحسبها تزيد على 10 سنوات، والغريب أنّ هذه المعرفة لم تأتِ من بوّابة القراءات الفلسفية التقليدية، بل عبر بوابة البحث في الخلفيات الفلسفية لموضوعة الوعي Consciousness ومتفرّعاته الكثيرة التي يشكّل الذكاء الاصطناعي أهمّ مَعْلَمٍ معرفي وعملي لها. أستطيعُ القول إنّ معرفتي بالفيلسوف دينيت وثلّة من رفقاء مماثلين له في نمط التفكير الفلسفي (من أمثال تشارلس تايلور وديفيد دويتش...) هي التي جعلتني أعتقد برسوخ أنّ الفلسفة في عصرنا الحالي لا يمكن وُلوجها بطريقة عملية منتجة إلّا من بوّابة العلم (الذكاء الاصطناعي والفيزياء والعلوم العصبية وعلم النفس الإدراكي خاصة)، وبغير هذا سنبقى ندور في أفلاك التقليد غير المنتج.

أحب عادة عند التفكّر في أيّ موضوع حيوي ذي أهمية راهنة (مثل الذكاء الاصطناعي) التفكير في 3 أركان له؛ سياقه التاريخي، وخلفيته الفلسفية، والسير الذاتية لآبائه المؤسسين. فيما يخصُّ دانييل دينيت قرأت قبل بضع سنوات مادة مطوّلة لسيرة ذاتية مختصرة له، نشرها في 3 أجزاء من المجلة المرموقة «Philosophy Now»، وفيها ذكر جوانب عن ولادته وعمل أبيه في بيروت خلال الحرب العالمية الثانية. لم تكن قراءة هذه السيرة الذاتية المختصرة عملاً يسيراً، لأنّ دينيت يميل للمداخلة بين الشخصي والعام، وبين المثابات الفكرية العالية والمعيش اليومي؛ لكنّي أيقنتُ أنّ الرجل لا بدّ أن ينشر سيرة ذاتية مطوّلة له في يوم ما (هو يحبّ المطوّلات في كلّ أعماله ولا يكتفي بنتف موجزة)، وقد فعل الرجل ونُشِرَت هذه السيرة مؤخراً (يوم 3 أكتوبر - تشرين الأوّل) تحت عنوان «حياةٌ عشتها في التفكير I've Been Thinking». السيرة هذه ضخمة (464 صفحة)، ونشرتها دار نشر نورتون العالمية.

***

دانييل دينيت فيلسوف وكاتب وعالِم إدراكي أميركي ولِد عام 1942 في مدينة بوسطن بولاية ماساتشوستس الأميركية، وتركّز أبحاثه على فلسفة العقل وفلسفة العلم والفلسفة البيولوجية بقدر ما ترتبط هذه المباحث المعرفية بالبيولوجيا التطورية والعلوم الإدراكية. يوصَفُ دينيت في العادة بأنه واحد من جماعة «الأحصنة الأربعة» التي تضمه مع كل من؛ ريتشارد دوكنز، سام هاريس، كريستوفر هيتشنز.

قضى دينيت شطراً من طفولته في بيروت - لبنان، خلال الحرب العالمية الثانية، حيث كان أبوه يعمل عميلاً للاستخبارات المضادة في مكتب الخدمات الاستراتيجية، تحت غطاء الملحق الثقافي في السفارة الأميركية بلبنان، وعندما بلغ دينيت الخامسة من عمره رجعت به أمه عائدة إلى الولايات المتحدة بعد أن قضى أبوه في حادثة تحطم طائرة مجهول الأسباب، وقد كتب لاحقاً أنّ المرة الأولى التي تعرّف فيها على مفهوم الفلسفة حصل عندما انضم إلى معسكر صيفي وهو بعمر الحادية عشرة؛ إذ قال له المسؤول الأعلى عن المعسكر: «أتعلم ما أنت، دانييل؟ أنت فيلسوف!!».

حصل دينيت على شهادة البكالوريوس في الفلسفة من جامعة هارفارد عام 1963 حيث درّسه هناك دبليو. في. كواين W. V. Quine، ثم حصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة أكسفورد تحت إشراف غلبرت رايل Gilbert Ryle. يصف دينيت نفسه بأنه شخص يميل للتعلم الذاتي autodidact، أو بشكل أكثر دقة يرى في نفسه المستفيد الأعظم من مئات الساعات التي قضاها في الحوارات والدراسات غير الشكلية التي انكبّ عليها في مختلف الفروع المعرفية، على يد أمهر العلماء وألمعهم، الأمر الذي راق له كثيراً وأفعم روحه بالبهجة والمتعة معاً.

حصل دينيت على كثير من الجوائز، كما ألف كثيراً من الكتب، أذكر منها...

«العواصف العقلية... مقالات فلسفية في العقل والسيكولوجيا» 1981، و«فكرة داروين الخطيرة... التطوّر ومعاني الحياة» 1996، و«أحلام لذيذة... معضلات فلسفية أمام علمٍ للوعي» 2005، و«من البكتيريا إلى باخ والعودة ثانية... تطور العقول» 2017.

أظنُّ أنّ أعمال دينيت متطلبة عسيرة على القراءة، وهي نخبوية بامتياز ولا يمكن أن تكون قراءة سياحية عابرة، وربما هذا ما يفسّرُ سبب قلّة ترجماته إلى العربية.

***

اختار دينيت أن يكتب سيرته في 4 أجزاء. يبدأ دينيت كتابه بمقدّمة تمهيدية ذات عنوان مثير «دان المحظوظ»، ثمّ ينطلق في الجزء الأول للحديث عن طفولته، وتأثير الموسيقى في نشأته، وانضمامه لجماعة ويسليان ومن ثمّ هارفارد بين عامي 1959 – 1963، ثمّ دخوله أكسفورد بين عامي 1963 – 1965، ثمّ اكتشافه طريقته الخاصة لكي يصير المرء فيلسوفاً. في الجزء الثاني من الكتاب يفردُ فصولاً مستقلة لكلّ من عمله في جامعة كاليفورنيا (1965 – 1971)، وسنة قضاها في هارفارد عرف خلالها الفيلسوف جيري فودور، ثمّ يتحدث عن السياسة في أجواء جامعة تافتس Tufts، ثمّ انخراطه في الدراسات السلوكية وعلوم الدماغ. الجزء الثالث من الكتاب أفرده دينيت للحديث عن الخلفيات التاريخية والفكرية التي دفعته لنشر كتبه الكثيرة. الكتب الرصينة ليست منتجات تأتي عفو الخاطر، بل بعد مساءلات وتفكّر، وخاصة في الموضوعات الكبرى (مثل طبيعة الوعي وتفكير الآلة وثنائية العقل – الجسد)، وسيكون من المثير دوماً أن نستمع إلى الكاتب – الفيلسوف وهو يشرح لنا تضاريس الخريطة الفكرية التي دفعته إلى كتابة كتبه. أما الجزء الرابع من السيرة الذاتية فقد خصّصها دينيت للحديث عن المعارك الأكاديمية التي خاضها، وفي مقدّمتها مساجلته الشهيرة مع الفيلسوف ريتشارد رورتي بشأن تاريخ الفلسفة.

أعمال دينيت متطلبة عسيرة على القراءة، وهي نخبوية بامتياز ولا يمكن أن تكون قراءة سياحية عابرة، وربما هذا ما يفسّرُ سبب قلّة ترجماته إلى العربية

كما قلت، دينيت فيلسوف متطلّب وقراءته ليست يسيرة حتى لو كانت سيرة ذاتية، لكنّ كلّ من له ذائقة فلسفية وبعض المعرفة الأولية بمباحث الذكاء الاصطناعي ونظرية المعرفة وعلم النفس الإدراكي سيجد لذّة كبرى في قراءة هذه السيرة، وسيخرج منها بحقيقتين شاخصتين...

الأولى؛ يرى دينيت في الفلسفة وسيلة للكشف عن حقيقة التماثلات بين كل الحقول المعرفية. تلك التماثلات التي قد تستعصي رؤيتها بوضوح كافٍ على المشتغلين في كل حقل معرفي على حدة. ذلك واحد فحسب من بين أدوارها الكثيرة. الحياة قصيرة ومعقدة للغاية، وليس بإمكان الناس فعل كل ما يشتهون، وأحدُ أهم الأشياء التي يعانون في الوفاء بها هو رؤية الكيفية التي يتناغم فيها حقل اختصاصهم مع الصورة المعرفية الشاملة. ثمة دوماً إشكاليات في السطح البيني بين الاختصاص الضيق والصورة الشاملة. إن واحداً من أنبل أهداف الفلاسفة هو إنجاز هذا الأمر بطريقة أكفأ وأفضل مما يفعله الآخرون، وهذا ليس بالدور الأوحد للفلاسفة، غير أنه الدور الذي يتعامل معه دينيت بأكبر قدر ممكن من الجدية والتكريس الواجب.

الثانية؛ يعتقد دينيت أن نطاق الفلسفة ينبغي أن يعمل على الأسئلة الأساسية الجوهرية للغاية التي لم تنضم بعد إلى حقل معرفي محدد؛ إذ إنك في اللحظة التي تمتلك فيها رؤية واضحة بشأن تلك الأسئلة الجوهرية، وقيمة ما قد يرقى ليكون جواباً مناسباً لها، تكون حينئذ غادرتَ عالم التفكّر الفلسفي وولجتَ مملكة العلم العتيدة.

ويوجز دينيت رؤيته الفلسفية بهذه العبارات المثيرة التي تصلح خاتمة مناسبة لسيرته الذاتية (الفكرية):

«إن الشيء الوحيد الذي أراه مستوجباً للنظر والتفكير بشأن طريقتي الخاصة في تناول الموضوعات الفلسفية هو رغبتي في إظهار كم هي عزيزة وثمينة تلك الكينونات التي تقع في الجانب المقابل لِطَيْفِ المادية الخشنة (وأعني بتلك الكينونات أشياء مثل؛ العقول، الذوات، الرغبات... إلخ)، وكم أنّ مكانة تلك الكينونات لم تخفت في العالم المادي.

إن ما أفعله في مشاكساتي الفلسفية ليس سوى القول؛ حسناً، دعونا نتخذ سبيل التفكير الفلسفي الجاد، وحينها فإننا بدلاً من بلوغ تخوم المملكة الديكارتية التي تضمّ العقول إلى جانب الأرواح في مملكتها السرمدية فإننا يمكن أن نعيد وضع العقل في مكانته الخليقة به في العالم الذي نعيشه، وإن مسعاي هذا ليس سوى طريقة محددة في النظر إلى كينونات مادية محددة، وأظن أن طريقة النظر هذه تمتلك فعلاً مُوحّداً عظيم الشأن».


مقالات ذات صلة

قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

ثقافة وفنون قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

عن دار «طيوف» بالقاهرة صدر كتاب «مرايا الفضاء السردي» للناقدة المصرية دكتورة ناهد الطحان، ويتضمن دراسات ومقالات نقدية تبحث في تجليات السرد العربي المعاصر

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق الكاتب السعودي فيصل عباس مع السفير البريطاني نيل كرومبتون خلال الأمسية الثقافية

أمسية ثقافية بمنزل السفير البريطاني في الرياض للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني»

أقام السفير البريطاني في الرياض أمسية ثقافية في منزله بالحي الدبلوماسي للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني» للكاتب السعودي ورئيس تحرير صحيفة «عرب نيوز».

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون بيدرو ألمودوفار (إ.ب.أ)

بيدرو ألمودوفار سيد الأفلام الغامضة يؤلف كتاباً لا يستطيع تصنيفه

يجري النظر إلى بيدرو ألمودوفار، على نطاق واسع، باعتباره أعظم مخرج سينمائي إسباني على قيد الحياة. أما هو فيرى نفسه كاتباً في المقام الأول - «كاتب حكايات»،

نيكولاس كيسي
يوميات الشرق الصور الثابتة في أي كتاب مدرسي تتحوَّل نماذج تفاعلية ثلاثية البُعد (فرجينيا تك)

الذكاء الاصطناعي يضخّ الحياة بالكتب المدرسية الجامدة

طوّر فريق من الباحثين في جامعة «كولورادو بولدر» الأميركية نوعاً جديداً من الكتب المدرسية التفاعلية التي تتيح تحويل الصور الساكنة نماذجَ محاكاة ثلاثية البُعد.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «شيء مثير للاهتمام جداً» (رويترز)

نسخة نادرة من مخطوطة «الأمير الصغير» للبيع

ستُطرح نسخة نادرة من المخطوطة الأصلية لرواية «الأمير الصغير» للكاتب أنطوان دو سانت أكزوبيري، للبيع؛ وهي التي تحتوي على تصحيحات وتعليقات مكتوبة بخطّ المؤلّف.

«الشرق الأوسط» (لندن)

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية
TT

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية

اشتهر كارل فون كلاوزفيتز، كبير فلاسفة الحرب في الغرب، بملاحظته أن الحرب امتداد للسياسة، كما أشار إلى نقطة ثانية، وهي أن الحرب تابعة للسياسة، ومن ثم فهي تتشكّل من خلالها، مما يجعل «تأثيرها ملموساً حتى في أصغر التفاصيل العملياتية».

نحن نرى هذا اليوم في الشرق الأوسط، حيث قد تسترشد محاولات إنقاذ الرهائن الفتاكة، والاغتيالات الكبرى، كتلك التي أودت بحياة حسن نصر الله زعيم «حزب الله»، بنقاط سياسية بقدر ما تسترشد بالرغبة في إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن. وعلى الجانب الآخر من المعادلة، يبدو أن أحدث سرب من الصواريخ الباليستية الإيرانية، التي انفجر معظمها من دون ضرر فوق إسرائيل، كان عملاً من أعمال المسرح السياسي الذي يهدف في المقام الأول إلى رفع المعنويات على الجبهة الداخلية.

من المفيد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وآية الله علي خامنئي من إيران، ناهيكم عن الرئيس الأميركي المقبل، أن يقرأوا كتاب جفري فافرو «حرب فيتنام: تاريخ عسكري» (652 صفحة، دار «بيسك بوكس» للنشر).

إنه يُلقي أفضل نظرة عامة على المغامرة الأميركية في جنوب شرقي آسيا، ومن المؤكد أنه سوف يصبح كتاباً معيارياً عن تلك الحرب، وبينما نتابع المعاناة الجارية في الشرق الأوسط، فإن هذا الكتاب يقدّم لنا أيضاً دروساً قوية بشأن المخاطر المترتبة على شن حرب مفتوحة من دون إستراتيجية حقيقية.

تركّز أغلب كتب التاريخ عن حرب فيتنام على الدبلوماسية والسياسة في الصراع، بالعودة إلى العمليات العسكرية للأحداث الرئيسية فقط، مثل هجوم «تيت» ومعركة مدينة «هوي»؛ إذ يتبع واورو، المؤرخ في جامعة نورث تكساس، نهجاً أكثر تنويراً.

ووفقاً لرأي فافرو، كان التدخل الأميركي في فيتنام بمثابة درس كبير في كيفية تجنّب شنّ الحرب، وقد أدى الاعتقاد الطائش في فاعلية القوة النارية المحضة، إلى حملات القصف الأميركية المدمِّرة التي كما يقول واورو: «أدّت إلى إحراق سُبع أراضي جنوب فيتنام» و«خلقت خمسة ملايين لاجئ داخلي»، على أمل دفع قوات «فيت كونغ» الفيتنامية إلى العراء، ورفض الخصم الشيوعي القتال بهذه الطريقة، بل كانوا يشتبكون سريعاً، ثم ينسحبون عندما يردّ الأميركيون بوابل عنيف من نيران المدفعية والغارات الجوية. في الأثناء ذاتها، كلما حاول الرئيس ليندون جونسون - الذي لم يدرس مبادئ كلاوزفيتز - فصل الحرب عن السياسة، بالكذب بشأن تكاليفها ورفض تعبئة الاحتياطي العسكري؛ صارت الحرب أكثر سياسية، وهيمنت على الخطاب الأميركي، ثم عصفت به خارج الرئاسة.

لم يكن أداء أميركا أفضل مع الهجمات المستهدفة، وكما هو الحال مع أجهزة البيجر المتفجرة التي استخدمتها إسرائيل، فإن برنامج «فينكس» من إعداد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لاغتيال أعضاء «فيت كونغ» قد «ركّز على (القبض أو القتل)»، كما كتب واورو، وأدى إلى سقوط ضحايا أبرياء، كما أنه لم يؤدِّ إلى الاقتراب من نهاية الحرب؛ لأن البرنامج بأكمله كان مبنياً على «أرقام ملفقة»، كما يوضح المؤلف، «وليس على الواقع الحقيقي»، وكان البرنامج عبارة عن طريقة أخرى لقتل الناس من دون فهم الحرب.

جعلتني قراءة التاريخ الرائع الذي كتبه فافرو أفكّر في نتيجة لازمة جديدة لنظريات كلاوزفيتز: كلما كانت الاستراتيجية أقل تماسكاً في الحرب، أصبحت أكثر تسييساً، دخلت الولايات المتحدة الحرب لأسباب سياسية ودبلوماسية غامضة (الظهور بمظهر الصرامة أمام خصوم الحرب الباردة ليس نهاية المطاف). بعد عقدين من الزمان كان الغزو القصير والفوضوي لجنوب «لاوس» من قِبل القوات البرّية الفيتنامية الجنوبية والقوة الجوية الأميركية بمثابة «مسرحية سياسية، وليس حرباً»، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية عام 1972، لم تكن هناك نهاية في الأفق، وكان الدافع وراء الهجوم هو رغبة الرئيس ريتشارد نيكسون في جعل الأمر يبدو وكأن فيتنام الجنوبية تتولّى زمام الأمور في القتال، وبدلاً من ذلك، زاد من زعزعة استقرار المنطقة، ولم يفعل شيئاً يُذكر لقطع خطوط إمداد العدو.

لحسن الحظ، خلال الحرب العالمية الثانية استخدمت الولايات المتحدة السياسة لخدمة المجهود الحربي بدلاً من العكس، وإن لم يكن الجميع يرَون الأمر على هذا النحو. في كتاب «أميركا أولاً: روزفلت ضد ليندبيرغ في ظل الحرب» (444 صفحة، دار «دوبلداي للنشر»)، يُصوّر إتش دبليو براندز، نجم الطيران الشهير تشارلز ليندبيرغ، الذي تحدث عن النزعة الانعزالية في البث الإذاعي الوطني، بوصفها أمراً ساذجاً، ولكن صادقاً، في حين يُصوّر الرئيس فرانكلين روزفلت بأنه مخادع بشكل ملحوظ في جهوده لدفع الولايات المتحدة إلى الحرب.

لكن في الواقع، كان فرانكلين روزفلت هدفاً كبيراً لهذه التهمة؛ إذ تعهد الرئيس أثناء حملته الانتخابية للفوز بولاية ثالثة غير مسبوقة، قائلاً: «لن يُرسَل أبناؤكم إلى أي حروب خارجية»، وكان جيمس، نجل روزفلت، يتساءل عن سبب اتخاذ والده هذا الموقف، فقال والده موضحاً: «جيمي، كنت أعلم أننا ذاهبون إلى الحرب، كنت متأكداً من أنه لا يوجد مخرج من ذلك، كان لزاماً أن أثقّف الناس بشأن الحتمية تدريجياً، خطوة بخطوة»، ربما يكون هذا مخادِعاً، لكن هذه السياسة ساعدت الأميركيين على المشاركة في المجهود الحربي، كان كلاوزفيتز ليفخر بذلك.

في الوقت نفسه، عندما يرفض ليندبيرغ الدعوة إلى هزيمة ألمانيا في أواخر يناير (كانون الثاني) 1941، يُعيد إلى الأذهان رفض دونالد ترمب دعم المعركة الأوكرانية ضد العدوان الروسي، ويلاحظ براندز، وهو مؤرخ في جامعة تكساس فرع أوستن، ليونةَ ليندبيرغ إزاء ألمانيا النازية، ولكن - في رسم صورة متعاطفة للرجل - يستبعد عديداً من التفاصيل التي تظهر في كتب أخرى، مثل السيرة الذاتية تأليف «إيه سكوت بيرغ»، الفائزة بجائزة بوليتزر لعام 1998.

لا يذكر براندز، على سبيل المثال، أن ليندبيرغ رفض في مايو (أيار) 1940 الحديث عن مخاطر انتصار النازية، بوصفه «ثرثرة هستيرية»، أو أنه، في العام نفسه، ألّفت زوجة الطيار آن مورو ليندبيرغ كتاب «موجة المستقبل»، وفيه جادلت بأن العهد الجديد ينتمي إلى أنظمة استبدادية، وكان ذلك الرجل يحمل مثل هذه الولاءات المُرِيبة حتى بعد بيرل هاربر، كما قال ليندبيرغ (في تصريحات أغفلها براندز أيضاً): «إن بريطانيا هي السبب الحقيقي وراء كل المتاعب في العالم اليوم».

إن مثل هذه الإغفالات تجعل كتاب براندز يبدو وكأنه مُوجَز متحيّز إلى ليندبيرغ أكثر من كونه كتاباً تاريخياً نزيهاً. كتب براندز يقول: «لقد أصاب ليندبيرغ كثيراً في حملته ضد الحداثة، لكنه أخطأ في أمر واحد كبير- فهو لم يرَ أن الأميركيين كانوا على استعداد للتدخل في الصراعات الخارجية». وأودّ أن أزعم أن ليندبيرغ كان مخطئاً أكثر من ذلك؛ فقد عبث بمعاداة السامية، وهو شيء ينتقص براندز من أهميته، وعلى نحو مفاجئ بالنسبة لطيار شهير، لم يكن يبدو أن لديه الكثير من البصيرة في دور القوة الجوية في الحرب، وحتى في القراءة الأكثر تعاطفاً، لا بد أن كلاوزفيتز كان ليحتدم غيظاً.

الجنرال البروسي العجوز هو موضوع تحليل جديد لاذع، وربما شديد التحريض من ناحية «أزار غات»، المؤرخ الفكري في جامعة تل أبيب. في كتابه «أسطورة كلاوزفيتز: أو ملابس الإمبراطور الجديدة» (228 صفحة، دار «كرونوس للنشر»)، يزعم غات أن كتاب كلاوزفيتز «عن الحرب» مؤثر بصورة رئيسية؛ لأنه مُحير للغاية. ويَخلُص إلى أن «الكثير من سمعة الكتاب تستند إلى سوء فهم دائم لما يعنيه في الواقع».

هناك في الأساس اثنان من كلاوزفيتز؛ الأول ألّف في وقت مبكر من حياته المهنية الكثير من كتب «عن الحرب»، بينما يسعى إلى فهم انتصارات نابليون السريعة والساحقة على بروسيا، والآخر كان يحاول بعد سنوات رسم مسارٍ لاستعادة بروسيا مكانتها في أوروبا، ولكن بدلاً من تأليف كتاب ثانٍ، كما يقول غات، عاد الضابط البروسي ونقّح كتاب «عن الحرب» بطرق تتناقض على نحو جَلِيّ مع بعض الأجزاء الأسبق من نفس الكتاب. بدأ كلاوزفيتز بكتابة أن النصر يعتمد على هزيمة سريعة للعدوّ في معركة كبيرة واحدة. وفي وقت لاحق أدرك أن العديد من الأطراف الفاعلة، سيما الأضعف منها، قد يكون لديها سبب لإطالة أمد القتال. وشرع في التنقيح، لكنه لم يكن لديه الوقت لعلاج هذا التضادّ قبل وفاته عام 1831.

وبينما كنت أقرأ كتاب غات، ظللتُ أفكّر في أنه لم يدرك النقطة الأكثر أهميةً؛ قد تشوب الأعمال الكلاسيكية حالة من النقص إلى حد بعيد؛ إذ تطرح أسئلة أكثر مما تقدّم من إجابات، وهو ما كان بمثابة طريق أكثر أماناً للاستمرار عبر الزمن. في الواقع، كانت واحدة من أشهر ملاحظات كلاوزفيتز تتعلّق بطرح الأسئلة، وهو يقول إنه قبل أن تتصاعد أعمال العنف يجب على القادة المفكرين أن يسألوا أنفسهم: ما نوع هذه الحرب؟ وما الذي تريد أمّتي تحقيقه؟ وهل يمكن أن تحقّق ذلك فعلاً؟

هذه اعتبارات جيدة. إن مواصلة حرب استنزاف لا نهاية لها، سواء في جنوب شرقي آسيا، أو في الشرق الأوسط، من غير المرجّح أن تؤدي إلا إلى المزيد من الفوضى والموت، وعلى نحو مماثل، لو تعامل قادة أميركا بجدّية مع نهاية المسألة قبل غزو فيتنام، ناهيكم عن العراق أو أفغانستان، ربما كانت حروبهم لتسير على نحو أفضل كثيراً، أو ربما لم تكن لتحدث على الإطلاق.

-------------------

خدمة: «نيويورك تايمز».