رحلة عابرة للقارات في «أدب الشعوب الأصلية» تحت قهر الاستعمار الاستيطاني

هوغَن ورِدْكورن يسبقان غران وسكورسيزي إلى سرد معاناة «أمة أوْسيْج»

ديفيد غران
ديفيد غران
TT

رحلة عابرة للقارات في «أدب الشعوب الأصلية» تحت قهر الاستعمار الاستيطاني

ديفيد غران
ديفيد غران

من المقرر أن يكون 20 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي يوم بدء عرض فيلم المخرج مارتن سكورسيزي الجديد: «قتلة فلاور مون» في دور السينما، ثم يُعرض فيما بعد عبر منصة البث التدفقي «أبل تي في». لا أفشي سراً إن قلت إنني أنتظر عرض هذا الفيلم منذ نشر أول خبر عنه. لم يحدث، ولن يحدث، هذا الانتظار مع أي فيلم آخر، أو هكذا أظن راهناً.

تكمن أهمية هذا الخبر بالنسبة لي في أنه أعادني إلى أيام كانت فيها صحبتي المحببة تتألف من ن.سكوت مومادي، وليزلي مارمون سيلكو، وجيمس ويلتش، ولويز إردريك، وليندا هوغَن، وجانيت كامبل هيل، ولويس أوينز، وآخرين... روائيين وشعراء ونقاد من سكان أميركا الشمالية الأصليين (الهنود الأميركان). وتحت ضغط فضول لم يكن ممكناً مقاومته وإيقافه عند حده، طالت القائمة وتمددت؛ إذ قفزت عليها أسماء أدباء من سكان أستراليا الأصليين، وأسماء من أدباء جنوب أفريقيا السود.

غلاف (قتلة فلاور مون)

كانت، ببساطة، رحلة استمتاع واستكشاف، في تسعينات القرن الماضي، لملامح وتجليات التشابه الجمالي والفني والشكلي، وللتقاطعات الثيمية بين آداب الشعوب «الأصلية» الثلاثة، التي تعيش تحت ظروف الاستعمار الاستيطاني والداخلي في القارات الثلاث. كانت رحلة عابرة للقارات، وأجمل رحلة قراءة قمت بها خلال الدراسة وبعدها حتى هذه اللحظة. ثم تقلصت القائمة بعد تلك الرحلة، فعدت إلى الصحبة المحببة الأولى، التي تقلصت بدورها إلى أسماء قليلة وفق ما اقتضته متطلبات البحث.

كانت بين تلك الأسماء القليلة من «الهنود الأميركان» الشاعرة والروائية ليندا هوغَن (أمة تشيكاسو/ أوكلاهوما)، التي دشنت سيرتها الروائية بروايتها «روح خبيثة Mean Spirit) 1990)»... لم أعثر على ما يدل على أن مارتن سكورسيزي قرأ هذه الرواية قبل أو في أثناء التحضير والإعداد لكتابة سيناريو فيلمه المبني على كتاب «قتلة فلاور مون» لديفيد غران. والأخير لم يقرأها أيضاً. لكنهما؛ سكورسيزي وغران، قرآ رواية «غليون لفبراير - 2002» لتشارلز رِدْكورن (1936 - 2017)؛ «أمة أوسيْج - أوكلاهوما»؛ ففي أسفل غلاف الطبعة الجديدة للرواية (2023) عبارة تفيد بأن سكورسيزي كتب مقدمةً لهذه الطبعة، ويظهر في أعلى الغلاف تعليقٌ على الرواية لغران نفسه. وكانت قراءة غران لها قبل تأليفه «قتلة فلاور مون»؛ يُستدل على ذلك من ذكرها في ببليوغرافيا كتابه الصادر في 2017.

«روح خبيثة» و«غليون لفبراير» تسبقان كتاب غران وفيلم سكورسيزي إلى تصوير وسرد جرائم القتل والسلب والنصب والاحتيال التي تعرض لها أفراد من قبيلة «أوسيْج» في عشرينات القرن الماضي بعد اكتشاف النفط والغاز في «مقاطعة أوسيْج». إنهما روايتان تاريخيتان تسهمان، على نحو خاص، مع روايات أخرى لروائيين وروائيات من المواطنين الأصليين، في تأسيس خطاب تاريخي تخيلي، من أهدافه كشف الدمار الذي لحق بالثقافات والبنيات الاجتماعية للسكان الأصليين جراء الإدماج القسري للمواطنين في المجتمع الأميركي الأوروبي المهيمن تنفيذاً لما تعرف بـ«سياسة الإدماج (assimilation policy)» التي دشنت بقرار التخصيص عام 1887، الأساس الذي قامت عليه تلك السياسة.

غلاف (روح خبيثة)

«الإدماج» في جوهره عملية سيطرة عرقية، وهو تعبير في الأساس عن بنيتي شعور متعارضتين ومتناقضتين: الزنوفوبيا والزينوفيليا وفق أنجِليكا بامر «زينوفوبيا، زينوفيليا، ولا مكان للراحة، 45». بالنسبة إلى المصاب بـ«رهاب الغرباء (xenophobe)» يُشكل الآخر بسبب اختلافه وآخريته خطراً على الذات لا بدَّ من اجتثاثه. بينما من ناحية «مُحب الغرباء (xenophile)»، يكون الآخر مصدر جذب وفضول. الإدماج استراتيجية براغماتية فعّالة في قمع واحتضان الآخر المواطن، في الوقت نفسه، إلى ألا يبقى منه شيء كما تقول أنجِليكا بامر... امتصاص الآخر، المواطن الأصلي، وتذويبه في المجتمع الأبيض المهيمن هو هدف سياسة الإدماج.

في سياق آخر ذي صلةِ تَشَابهٍ ومحاكاةٍ لسياسة الحكومة الأميركية تجاه المواطنين الأصليين، يصف الكاتب والمواطن الأسترالي الأصلي ناروجِن مَدرورو «الإدماج» بأنه سياسة تقسيم، وتغريب لسكان أستراليا الأصليين عن مجتمعاتهم وإقحامهم في المجتمع الأوروبي، حيث يؤمل تغريب هؤلاء الأفراد تماماً عن أُسَرِهم ليصبحوا مثل الأوروبيين. كان الأطفال يُنْتَزَعُون بالقوة من أُسَرِهم ويُدْخَلُون في مؤسسات (Writing from the Fringe 13).

في 2010، قدمتُ أمسيةً شعريةً بعنوان «أصوات من الأجيال المسروقة» لعدد من الشعراء الأستراليين الأصليين في «منتدى الثلاثاء الثقافي»، ثم في نادي المنطقة الشرقية الأدبي. كان الشعراء كلهم من أولئك الأطفال الذين اخْتُطِفوا وانتُزعوا من أحضان أمهاتهم، وأصبحوا يُعْرَفُون بـ«الأجيال المسروقة». لم يكن الأسترالي الأوروبي في اختطافه أولئك الأطفال سوى مُقَلدٍ يسير على خطى الأميركي الأوروبي.

كانت سياسة الإدماج وسيلة «قتل الهندي في داخل الهندي»، أو إفقاده ذاكرته؛ كما يقول ألبير ميمي عن المُسْتعْمَر بشكل عام، بعد أن أصبح متعذراً تصفيته (الهندي) والقضاء عليه كليةً. وكان تنفيذ قرار التخصيص العام الطريق إلى تلك الغاية، إذ ينص على تقسيم «الأراضي الهندية» إلى قطع وتوزيعها عليهم، ويتاح ما يتبقى من مساحات للامتلاك من قبل البيض. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد فقط، إنما تعداه إلى توظيف التقسيم إسفيناً يُدَقُّ في بنية المجتمع «الهندي الأميركي» وذلك بالتفريق والتمييز بين السكان الأصليين وفق تقدير «كمية الدم الهندي (blood quantum)» في الشخص. فَخُصِّصت لذوي الدم «الهندي الأميركي» الخالص النقي (full bloods) أراض بمساحات صغيرة، وُضِعَتْ تحت وصاية الرجل الأبيض القانونية بحجة أن مُلاّكها لا يستطيعون استغلالها كما ينبغي لعدم كفاءتهم، مما يعني حرمانهم من حق السيطرة على أراضيهم. وعلى النقيض من ذلك، خُصصت لذوي «الدم المختلط (mixed bloods)» أراض بمساحات كبيرة وفي مواقع أفضل، إضافة إلى تمتعهم بحق السيطرة والتصرف في أراضيهم. ومُنِع التخصيص عن المولودين بعد 1907. لقد سُلِبوا أراضيهم بقرار رسمي.

روجت آلة الدعاية الرسمية سياسة الإدماج بأنها تهدف إلى «تحضير» السكان الأصليين بغرس قيم الملكية الخاصة والتنافس فيهم، بينما لم تكن في الواقع سوى تجزئة وتفتيتٍ للأراضي مُشاعةِ الملكية لغاية تسهيل وتسريع إزالة ثقافات، وتقويض بنيات المجتمعات الهندية الأميركية. سياسة الإدماج لم تكن سوى «صندوق باندورا» آخر جديد في العلاقات بين المُسْتَعْمِرِ والمُسْتَعْمَر، فُتح لتنطلق منه أنواع جديدة من الشرور.

بالنسبة إلى المصاب بـ«رهاب الغرباء» يُشكل الآخر بسبب اختلافه وآخريته خطراً على الذات لا بدَّ من اجتثاثه

تصوير هذه الشرور والتوثيق السردي التاريخي التخيلي للدمار الذي ألحقته بأمة أُوسيْج هما ما يلتقي به القارئ في روايتي هوغَن ورِدْكورن، كلُّ رواية بأسلوبها الخاص، ومن وجهة النظر التي اختارتها هوغن، أو ردكورن. ويلتقيان عند حقيقة أنهما فِعْلا تدخلٍ في التاريخ، ومحاولتان، من بين محاولات أخرى، يقوم بهما روائيون آخرون، لاسترداد صوت «الهندي الأميركي» وتأكيد فاعليته عبر طرح سرود مغايرة وبديلة لما حدث بين السكان الأصليين ومستعمريهم. إنها كتابات ثانية؛ مراجعات تسعى أيضاً إلى تقويض التمثيلات والصور السلبية لـ«الهندي الأميركي».

بعد اكتشاف النفط في الأراضي القاحلة في مقاطعة أُوسيْج، تدفق إليها سيل من رجال الأعمال والجشعين والباحثين عن الثراء. تعدد القادمون إلى «أمة أُوسيْج»، وتعددت أنواع وأشكال الجرائم التي أصبح «الأوسيجيون» هدفاً لها: القتل والاحتيال والنصب. كان القتل وسيلة لإزاحة الأثرياء البالغين لتؤول ثرواتهم إلى وَرَثَتِهم القُصَّر، الذين لا يتورع بعض المحامين البيض الأوصياء عليهم عن التورط أو التواطؤ مع من يسعى إلى سلبهم ثرواتهم. ومن لم يقتل أو يسرق وبطريقة قانونية، يخطط للحصول على نصيب من الثراء بالزواج من إحدى الأوسيجيات الثريات.

بغض النظر عن الاختلافات بين الروايتين، وأهمها الاختلاف في الخطاب السردي في كل منهما، تثير الروايتان إشكالية الفارق التقليدي بين الواقعي مجال التاريخ، والخيالي نطاق القص. يؤسس كلا الروائيين روايته على جرائم موثقة وأخرى متخيلة تحاكي الحقيقة، ويضفران في نسيج الخطاب خيوطاً من تاريخ أُسَرِهما، كما في حالة هوغَن، أو من التجربة الشخصية كما في حالة رِدْكورن بوصفه عضواً من قبيلة «أوسيْج».

* ناقد وكاتب سعودي


مقالات ذات صلة

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية
TT

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية

اشتهر كارل فون كلاوزفيتز، كبير فلاسفة الحرب في الغرب، بملاحظته أن الحرب امتداد للسياسة، كما أشار إلى نقطة ثانية، وهي أن الحرب تابعة للسياسة، ومن ثم فهي تتشكّل من خلالها، مما يجعل «تأثيرها ملموساً حتى في أصغر التفاصيل العملياتية».

نحن نرى هذا اليوم في الشرق الأوسط، حيث قد تسترشد محاولات إنقاذ الرهائن الفتاكة، والاغتيالات الكبرى، كتلك التي أودت بحياة حسن نصر الله زعيم «حزب الله»، بنقاط سياسية بقدر ما تسترشد بالرغبة في إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن. وعلى الجانب الآخر من المعادلة، يبدو أن أحدث سرب من الصواريخ الباليستية الإيرانية، التي انفجر معظمها من دون ضرر فوق إسرائيل، كان عملاً من أعمال المسرح السياسي الذي يهدف في المقام الأول إلى رفع المعنويات على الجبهة الداخلية.

من المفيد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وآية الله علي خامنئي من إيران، ناهيكم عن الرئيس الأميركي المقبل، أن يقرأوا كتاب جفري فافرو «حرب فيتنام: تاريخ عسكري» (652 صفحة، دار «بيسك بوكس» للنشر).

إنه يُلقي أفضل نظرة عامة على المغامرة الأميركية في جنوب شرقي آسيا، ومن المؤكد أنه سوف يصبح كتاباً معيارياً عن تلك الحرب، وبينما نتابع المعاناة الجارية في الشرق الأوسط، فإن هذا الكتاب يقدّم لنا أيضاً دروساً قوية بشأن المخاطر المترتبة على شن حرب مفتوحة من دون إستراتيجية حقيقية.

تركّز أغلب كتب التاريخ عن حرب فيتنام على الدبلوماسية والسياسة في الصراع، بالعودة إلى العمليات العسكرية للأحداث الرئيسية فقط، مثل هجوم «تيت» ومعركة مدينة «هوي»؛ إذ يتبع واورو، المؤرخ في جامعة نورث تكساس، نهجاً أكثر تنويراً.

ووفقاً لرأي فافرو، كان التدخل الأميركي في فيتنام بمثابة درس كبير في كيفية تجنّب شنّ الحرب، وقد أدى الاعتقاد الطائش في فاعلية القوة النارية المحضة، إلى حملات القصف الأميركية المدمِّرة التي كما يقول واورو: «أدّت إلى إحراق سُبع أراضي جنوب فيتنام» و«خلقت خمسة ملايين لاجئ داخلي»، على أمل دفع قوات «فيت كونغ» الفيتنامية إلى العراء، ورفض الخصم الشيوعي القتال بهذه الطريقة، بل كانوا يشتبكون سريعاً، ثم ينسحبون عندما يردّ الأميركيون بوابل عنيف من نيران المدفعية والغارات الجوية. في الأثناء ذاتها، كلما حاول الرئيس ليندون جونسون - الذي لم يدرس مبادئ كلاوزفيتز - فصل الحرب عن السياسة، بالكذب بشأن تكاليفها ورفض تعبئة الاحتياطي العسكري؛ صارت الحرب أكثر سياسية، وهيمنت على الخطاب الأميركي، ثم عصفت به خارج الرئاسة.

لم يكن أداء أميركا أفضل مع الهجمات المستهدفة، وكما هو الحال مع أجهزة البيجر المتفجرة التي استخدمتها إسرائيل، فإن برنامج «فينكس» من إعداد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لاغتيال أعضاء «فيت كونغ» قد «ركّز على (القبض أو القتل)»، كما كتب واورو، وأدى إلى سقوط ضحايا أبرياء، كما أنه لم يؤدِّ إلى الاقتراب من نهاية الحرب؛ لأن البرنامج بأكمله كان مبنياً على «أرقام ملفقة»، كما يوضح المؤلف، «وليس على الواقع الحقيقي»، وكان البرنامج عبارة عن طريقة أخرى لقتل الناس من دون فهم الحرب.

جعلتني قراءة التاريخ الرائع الذي كتبه فافرو أفكّر في نتيجة لازمة جديدة لنظريات كلاوزفيتز: كلما كانت الاستراتيجية أقل تماسكاً في الحرب، أصبحت أكثر تسييساً، دخلت الولايات المتحدة الحرب لأسباب سياسية ودبلوماسية غامضة (الظهور بمظهر الصرامة أمام خصوم الحرب الباردة ليس نهاية المطاف). بعد عقدين من الزمان كان الغزو القصير والفوضوي لجنوب «لاوس» من قِبل القوات البرّية الفيتنامية الجنوبية والقوة الجوية الأميركية بمثابة «مسرحية سياسية، وليس حرباً»، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية عام 1972، لم تكن هناك نهاية في الأفق، وكان الدافع وراء الهجوم هو رغبة الرئيس ريتشارد نيكسون في جعل الأمر يبدو وكأن فيتنام الجنوبية تتولّى زمام الأمور في القتال، وبدلاً من ذلك، زاد من زعزعة استقرار المنطقة، ولم يفعل شيئاً يُذكر لقطع خطوط إمداد العدو.

لحسن الحظ، خلال الحرب العالمية الثانية استخدمت الولايات المتحدة السياسة لخدمة المجهود الحربي بدلاً من العكس، وإن لم يكن الجميع يرَون الأمر على هذا النحو. في كتاب «أميركا أولاً: روزفلت ضد ليندبيرغ في ظل الحرب» (444 صفحة، دار «دوبلداي للنشر»)، يُصوّر إتش دبليو براندز، نجم الطيران الشهير تشارلز ليندبيرغ، الذي تحدث عن النزعة الانعزالية في البث الإذاعي الوطني، بوصفها أمراً ساذجاً، ولكن صادقاً، في حين يُصوّر الرئيس فرانكلين روزفلت بأنه مخادع بشكل ملحوظ في جهوده لدفع الولايات المتحدة إلى الحرب.

لكن في الواقع، كان فرانكلين روزفلت هدفاً كبيراً لهذه التهمة؛ إذ تعهد الرئيس أثناء حملته الانتخابية للفوز بولاية ثالثة غير مسبوقة، قائلاً: «لن يُرسَل أبناؤكم إلى أي حروب خارجية»، وكان جيمس، نجل روزفلت، يتساءل عن سبب اتخاذ والده هذا الموقف، فقال والده موضحاً: «جيمي، كنت أعلم أننا ذاهبون إلى الحرب، كنت متأكداً من أنه لا يوجد مخرج من ذلك، كان لزاماً أن أثقّف الناس بشأن الحتمية تدريجياً، خطوة بخطوة»، ربما يكون هذا مخادِعاً، لكن هذه السياسة ساعدت الأميركيين على المشاركة في المجهود الحربي، كان كلاوزفيتز ليفخر بذلك.

في الوقت نفسه، عندما يرفض ليندبيرغ الدعوة إلى هزيمة ألمانيا في أواخر يناير (كانون الثاني) 1941، يُعيد إلى الأذهان رفض دونالد ترمب دعم المعركة الأوكرانية ضد العدوان الروسي، ويلاحظ براندز، وهو مؤرخ في جامعة تكساس فرع أوستن، ليونةَ ليندبيرغ إزاء ألمانيا النازية، ولكن - في رسم صورة متعاطفة للرجل - يستبعد عديداً من التفاصيل التي تظهر في كتب أخرى، مثل السيرة الذاتية تأليف «إيه سكوت بيرغ»، الفائزة بجائزة بوليتزر لعام 1998.

لا يذكر براندز، على سبيل المثال، أن ليندبيرغ رفض في مايو (أيار) 1940 الحديث عن مخاطر انتصار النازية، بوصفه «ثرثرة هستيرية»، أو أنه، في العام نفسه، ألّفت زوجة الطيار آن مورو ليندبيرغ كتاب «موجة المستقبل»، وفيه جادلت بأن العهد الجديد ينتمي إلى أنظمة استبدادية، وكان ذلك الرجل يحمل مثل هذه الولاءات المُرِيبة حتى بعد بيرل هاربر، كما قال ليندبيرغ (في تصريحات أغفلها براندز أيضاً): «إن بريطانيا هي السبب الحقيقي وراء كل المتاعب في العالم اليوم».

إن مثل هذه الإغفالات تجعل كتاب براندز يبدو وكأنه مُوجَز متحيّز إلى ليندبيرغ أكثر من كونه كتاباً تاريخياً نزيهاً. كتب براندز يقول: «لقد أصاب ليندبيرغ كثيراً في حملته ضد الحداثة، لكنه أخطأ في أمر واحد كبير- فهو لم يرَ أن الأميركيين كانوا على استعداد للتدخل في الصراعات الخارجية». وأودّ أن أزعم أن ليندبيرغ كان مخطئاً أكثر من ذلك؛ فقد عبث بمعاداة السامية، وهو شيء ينتقص براندز من أهميته، وعلى نحو مفاجئ بالنسبة لطيار شهير، لم يكن يبدو أن لديه الكثير من البصيرة في دور القوة الجوية في الحرب، وحتى في القراءة الأكثر تعاطفاً، لا بد أن كلاوزفيتز كان ليحتدم غيظاً.

الجنرال البروسي العجوز هو موضوع تحليل جديد لاذع، وربما شديد التحريض من ناحية «أزار غات»، المؤرخ الفكري في جامعة تل أبيب. في كتابه «أسطورة كلاوزفيتز: أو ملابس الإمبراطور الجديدة» (228 صفحة، دار «كرونوس للنشر»)، يزعم غات أن كتاب كلاوزفيتز «عن الحرب» مؤثر بصورة رئيسية؛ لأنه مُحير للغاية. ويَخلُص إلى أن «الكثير من سمعة الكتاب تستند إلى سوء فهم دائم لما يعنيه في الواقع».

هناك في الأساس اثنان من كلاوزفيتز؛ الأول ألّف في وقت مبكر من حياته المهنية الكثير من كتب «عن الحرب»، بينما يسعى إلى فهم انتصارات نابليون السريعة والساحقة على بروسيا، والآخر كان يحاول بعد سنوات رسم مسارٍ لاستعادة بروسيا مكانتها في أوروبا، ولكن بدلاً من تأليف كتاب ثانٍ، كما يقول غات، عاد الضابط البروسي ونقّح كتاب «عن الحرب» بطرق تتناقض على نحو جَلِيّ مع بعض الأجزاء الأسبق من نفس الكتاب. بدأ كلاوزفيتز بكتابة أن النصر يعتمد على هزيمة سريعة للعدوّ في معركة كبيرة واحدة. وفي وقت لاحق أدرك أن العديد من الأطراف الفاعلة، سيما الأضعف منها، قد يكون لديها سبب لإطالة أمد القتال. وشرع في التنقيح، لكنه لم يكن لديه الوقت لعلاج هذا التضادّ قبل وفاته عام 1831.

وبينما كنت أقرأ كتاب غات، ظللتُ أفكّر في أنه لم يدرك النقطة الأكثر أهميةً؛ قد تشوب الأعمال الكلاسيكية حالة من النقص إلى حد بعيد؛ إذ تطرح أسئلة أكثر مما تقدّم من إجابات، وهو ما كان بمثابة طريق أكثر أماناً للاستمرار عبر الزمن. في الواقع، كانت واحدة من أشهر ملاحظات كلاوزفيتز تتعلّق بطرح الأسئلة، وهو يقول إنه قبل أن تتصاعد أعمال العنف يجب على القادة المفكرين أن يسألوا أنفسهم: ما نوع هذه الحرب؟ وما الذي تريد أمّتي تحقيقه؟ وهل يمكن أن تحقّق ذلك فعلاً؟

هذه اعتبارات جيدة. إن مواصلة حرب استنزاف لا نهاية لها، سواء في جنوب شرقي آسيا، أو في الشرق الأوسط، من غير المرجّح أن تؤدي إلا إلى المزيد من الفوضى والموت، وعلى نحو مماثل، لو تعامل قادة أميركا بجدّية مع نهاية المسألة قبل غزو فيتنام، ناهيكم عن العراق أو أفغانستان، ربما كانت حروبهم لتسير على نحو أفضل كثيراً، أو ربما لم تكن لتحدث على الإطلاق.

-------------------

خدمة: «نيويورك تايمز».