يوسا يطلق صرخة فزع أمام زحف التكنولوجيات الحديثة

تهيمن على رواية «الرياح» نغمة حزينة كما لو أنها مرثية لعالم قديم

ماريو فارغاس يوسا
ماريو فارغاس يوسا
TT

يوسا يطلق صرخة فزع أمام زحف التكنولوجيات الحديثة

ماريو فارغاس يوسا
ماريو فارغاس يوسا

في بضع ساعات أتيت على رواية جديدة، صغيرة الحجم للروائي ماريو فارغاس يوسا بعنوان «الرياح». ومثل رواية «جولة» للكاتب السويسري الناطق بالألمانية روبرت فالسر، التي تتحدث عن كاتب يقوم بجولة في مدينته مُستعرضاً ذكرياته وأفكاره ومشاعره، ورواية «ظهيرة للكاتب» للنمساوي بيتر هاندكه التي هي أيضاً عبارة عن جولة طويلة يقوم بها الكاتب في ضواحي باريس، اتخذت رواية «الرياح» شكل جولة في مدريد تبدأ في الظهيرة، وتستمر حتى ساعة مُتقدمة من الليل، وهي عبارة عن مونولوج طويل لعجوز كان صحافياً، يُقيم في غرفة في سطح إحدى العمارات بمدريد، ويعيش القلق والعزلة والخوف من الموت، ومن عالم بات قاسياً وعدوانياً يُشعره في كل لحظة بأنه يتوجّب عليه أن يرحل لأنه بات زائداً عن اللزوم في كرة أرضية تختنق بكثرة عدد سكانها، وبأمراض حضارة بلغت أوجَها، وتجرّدت من القيم الإنسانية لتصبح مُضرّة ومؤذية ومتوحّشة أكثر مما هي نافعة ورحيمة وإنسانية. ومنذ البداية نلاحظ أن هناك تشابهاً بين الصحافي العجوز، والموظف الصغير في رواية دستويفسكي «الرجل الصرصار» التي هي أيضاً قصيرة ومُكثفة جداً مثل «الرياح»، إذ إن كل واحد منهما شخصية قلِقة ومُعذّبة في عالم مادي تسوده الأنانية، ويعيش التحضر الزائف القائم على التقدم العلمي والصناعي. وكان دستويفسكي قد كتب روايته المذكورة ردّاً على المثقفين الروس، من أمثال تشيرنيشفسكي صاحب رواية «ما العمل؟»، المفتونين بالإنجازات الكبيرة التي حققها الغرب في مجالات كثيرة مبشّراً بمستقل مشرق بالنسبة للإنسانية جمعاء. لكن الموظف الصغير، الذي يعيش هو أيضاً في غرفة تشبه القبو في سانت بطرسبورغ، يُعلن، منذ البداية، تبرمه من عالم يعيش أوهام التقدم المادي والعلمي، والحال أنه لا يفعل شيئاً آخر سوى الإعداد لنهايته المأساوية. وأظنُّ أن فارغاس يوسا كتب روايته الصغيرة هذه لينتقد بطريقة لاذعة وساخرة المنبهرين بما حققته التكنولوجيات الحديثة من ابتكارات مذهلة آخرها، وليس آخرها، ما أصبح يسمى «الذكاء الاصطناعي».

غلاف الوراية

تهيمن على الرواية، من البداية إلى النهاية، نغمة حزينة كما لو أنها مرثية لعالم ولّى إلى غير رجعة، وصرخة فزع أمام تحولات خطيرة مُنذرة بمتاعب وكوارث وأزمات مُفسدة ومدمّرة للإنسانية جمعاء. وخلال جولته، لم ينقطع الصحافي العجوز عن إطلاق الريح، بل هو فعلها في سرواله الداخلي، وهو يتجنب الاستفاضة في الحديث عن تفاصيل حياته، بل يقتصر على القول إنه يحتفظ بصورة باهتة لوالديه اللذين لم يكن في وفاق معهما، وهو لا يتذكر إن كان له إخوة أو أخوات، لكنه يتذكر جيداً أنه أحبّ امرأة تُدعى «كارمانسيتا» تزوّجها، ومعها عاش سنوات عدة، ثم انفصل عنها لتتزوج صديقه المفضّل روبرتو سانابريا. وعلى مدى سنوات طويلة لم يرها، ولم يسمع عنها ولو مجرد خبر. لكن لمّا بلغه أنها تُوفيت في حادث سيارة، أصبح يرفع، كل ليلة، قبل النوم، صوته راجياً منها أن تغفر له أخطاءه.

ويُخبرنا الصحافي العجوز أن له صديقاً واحداً يُدعى أوساريو، وهذا الصديق، الذي يعيش وحشة الوحدة مثله، كان مُدرّساً للفلسفة في معهد ثانوي بمدريد. ومعه يلتقي بين وقت وآخر، لكنه أقل منه تشاؤماً بشأن مصير العالم، وهو لا يبدي مثله فزعاً أمام زحف التكنولوجيات الحديثة التي بسطت نفوذها على الناس ليكونوا عبيداً لها. وما يتذكره الصحافي العجوز أيضاً من فصول حياته هو أنه نجا من سرطان الدم. ورغم أنه يعلم أن ذلك تحقّق بفضل التقدم العلمي، فإن هذا التقدم العلمي لا يعني له شيئاً ما دامت البشرية تعيش حروباً مُدمّرة، وما دامت الأديان والمعتقدات القديمة تدفع الناس إلى التقاتل والتناحر، وبينهم تقيم أسواراً من الأحقاد والضغائن، وما دام اليهود والفلسطينيون يتحاربون من دون انقطاع ليبدو السلام بينهما مستحيلاً، خصوصاً أن الدول الكبرى تجد متعة في تواصل هذا الصراع الدموي، لبيع أسلحتها، والحفاظ على مصالحها. ثم ما الفائدة من هذا التقدم العلمي إن كان يهدي الإنسانية بعض المنافع بهذه اليد، ثم يفتك بها باليد الأخرى مُغذّياً التنافس من أجل مزيد من التسلح، وزرع قنابل ذرية شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً. أما أن يكون الناس أكثر حرية من ذي قبل، فإن هذا يثير شكوك الصحافي العجوز؛ لأنه يعتقد، خلافاً لصديقه أوساريو، أن هذا العالم الجديد هو في الحقيقة عالم «عبيد خاضعين راضين عن مصيرهم».

وفي تلك الظهيرة، غادر الصحافي العجوز غرفة السطح ليحضر حفلة جنائزية لقاعة سينما في مدريد تتأهب لغلق أبوابها، بعد أن تقلَّص عدد المقبلين على مشاهدة الأفلام الجديدة التي تَعرضها. وكثير من القاعات فعلت مثلها لأن الناس، خصوصاً الشبان منهم المفتونين بالتكنولوجيات الحديثة، أصبحوا يفضلون مشاهدة الأفلام على الشاشات الصغيرة للموبايل أو لأجهزة الكمبيوتر، كما أن كثيراً من المكتبات أغلقت أبوابها أيضاً لأن عدد القراء أصبح ضئيلاً جداً، أو أن هؤلاء القراء يفضلون القراءة بواسطة أجهزة إلكترونية استُحدثت لهذا الغرض. ومعنى هذا أن هذه الأجهزة الجديدة سوف تقضي على متعة القراءة شيئاً فشيئاً إلى أن تنتفي تماماً، إذ ما معنى أن تقرأ كتاباً من دون أن تُقلّب صفحاته، ومن دون أن تدوّن على حواشيه ملاحظاتك الخاصة، كما أن هذه الأجهزة سوف تقضي على المفهوم الحقيقي للثقافة، التي من بين أهدافها شحذ الخيال والمشاعر والأحاسيس، ومنح المتعة والجمال، وتغذية الفكر النقدي.

التقدم العلمي لا يعني لبطل الرواية شيئاً، ما دامت البشرية تعيش حروباً مُدمّرة، تقيم أسواراً من الأحقاد والضغائن، وما دام اليهود والفلسطينيون يتحاربون من دون انقطاع

أمام قاعة السينما، وجد عدداً قليلاً من الذين يَحنّون للزمن القديم، وجميعهم «أشلاء بشرية»، لذا غادر الصحافي العجوز غير آسفٍ ليَهيم على وجهه في المدينة الكبيرة مواصلاً الثرثرة مع نفسه، مُطلقاً أفكاره حول أمراض وأزمات العالم الحديث من دون أن يسمعها أحد، موقّعاً إيّاها بإطلاق الريح بين وقت وآخر. وفي حديقة صغيرة التقى مجموعات من الشبان والشابات أطلق عليهم اسم «المرتبكون»، وهؤلاء يقاومون العالم الحديث برفض أكل اللحم وكل ما يأتي من الحيوان، مبتكرين أيديولوجيا جديدة سمّوها «الأخوة السلمية العالمية». وبينما يتحدث إليهم، شعر الصحافي العجوز بأن تلك المجموعة الصغيرة تجسد تفاهة البشرية، وسطحيتها، وجبنها، وفقدانها إرادة المقاومة، ففي زمنه كان الشبان في مثل هذه السنّ يخرجون للتظاهر ضدّ الاستبداد والظلم، وضد الأنظمة الديكتاتورية المُعلَنة والخفية، وضد الحروب، مُطلقين شعارات جميلة مثل «انبذوا الحرب ومارسوا الحب»، أو «ما هو مستحيل يصبح ممكناً»، و«الجمال في الشارع»، و«الخيال في السلطة»... أمّا الآن فها هو أمام شبان وشابات تَبين العظام خلف جلودهم بسبب الصوم، بوجوه شاحبة ونظرات زائغة، يهمهمون بكلام غامض، ويطلقون أفكاراً غريبة وعجيبة تثير الامتعاض والنفور... لذا تركهم الصحافي العجوز ليواصل جولته التي طالت بسبب نسيانه عنوان الشارع الذي يُقيم فيه... ظلّ يسير ويسير إلى ساعة متقدمة من الليل. وفي النهاية اهتدى إلى العمارة التي في سطحها غرفته الكئيبة، بعد أن ثقلت قدماه، وثقل رأسه، فما عاد قادراً على الحركة إلّا بصعوبة كبيرة. وبعد أن اغتسل وارتدى ثياباً نظيفة، تمدَّد على الفراش ليشعر بأن النهاية باتت وشيكة. وتنتهي رواية «الرياح» بهذه الفقرة الحزينة: «إنها النهاية، لم أكن لا خائفاً ولا فزِعاً، كنت مُتوجّعاً وحزيناً فقط، وكنت أغرق في شيء لزج ومُلتَبس، وكان واضحاً أن الأمر لا يتعلق بحلم، وإنما بطلائع استقبال الموت».

لقد عوّدنا ماريو فارغاس يوسا على روايات ضخمة، والآن وهو يقترب من سن التسعين، أهدى قراءه هذه الرواية الصغيرة المكثفة المحمّلة بأفكار عظيمة عن عالم اليوم، لكي يثبت مرة أخرى أن الأدب يظل دائماً مضيئاً للبشرية في الأوقات المظلمة والعصيبة، ومُلقّحاً إياها ضد الأوهام والأكاذيب. ولعلّه أراد أن يؤكد أيضاً أنه سيظلّ يكتب، حتى ولو قيّدت الشيخوخة حركاته، وأفقدته كثيراً من حيويته القديمة.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم