أمين معلوف... «مشرقية» لم الشمل الإنساني!

ألبرت حوراني أول من صاغها في مفهوم

أمين معلوف
أمين معلوف
TT

أمين معلوف... «مشرقية» لم الشمل الإنساني!

أمين معلوف
أمين معلوف

منذ الاحتكاك بالحداثة الغربية وحتى هزيمة يونيو 1967، لم يظهر التوصيف المناسب لحالة «الأبوريا» أو التناقض الداخلي المستحكم الذي يحياه الإنسان العربي، بين عدم الانتماء للمجتمع الأبوي التقليدي من جهة، والعجز عن اللحاق بعصر الحداثة وما بعدها من جهة أخرى.

فقط استطاع «ألبرت حوراني» (1915 - 1993) أن يقبض بكلتا يديه على هذا التناقض وصياغته في مفهوم «التشرقية»، ويعني (انعدام الأصالة).

الفرد التشرقي - على حد تعبيره - هو الذي يعيش في الوقت نفسه، في عالمين أو أكثر دون أن ينتمي إلى أي منهما. «وهو الذي يتمكن من تلبس الأشكال الخارجية المشيرة إلى تملك جنسية معينة أو دين أو ثقافة، دون أن يملكها بالفعل. وهو الفرد الذي لم تعدله قيمه الخاصة، ولم يعد قادراً على الخلق بل على المحاكاة فحسب. وحتى المحاكاة لا يقوم بها بشكل دقيق، لأنها هي أيضا تقتضي نوعاً من الأصالة. إنه إنسان لا ينتمي إلى أي مجتمع ولا يملك أي شيء خاص به».

انتشر مفهوم التشرقية مثل النار في الهشيم في الربع الأخير من القرن العشرين، وتبناه معظم أصحاب المشاريع النهضوية في العالم العربي، باستثناء قلة استطاعت الإفلات من قبضة حوراني، منهم الأديب والمفكر «أمين معلوف» الذي طرح مفهوماً مغايراً للتشرقية، أنهى قرناً كاملاً من الجهود الفكرية الجادة، ودشّن في الوقت نفسه منعطفاً جديداً في عصر العولمة، هو مفهوم «المشرقية».

ألبرت حوراني

لم ينكر معلوف خطورة «التشرقية» أو يتهرب من تداعياتها السلبية، فقد عالجها ببراعة في روايته «التائهون» عام 2012 (شخص لا ينتمي إلى أي من المكانين ولا يملك أي أصالة)، ولكنه كان يسابق الزمن في بلورة «البديل الممكن» - منذ وقت أبكر - القادر على إخراجنا من هذه الحالة المأساوية، نبني عليه ونطوره بالتعاون مع شعوب العالم والحضارات الأخرى، أملاً في مستقبل أفضل.

و«المشرقية» وفق معلوف هي: «الأصالة» بألف ولام التعريف، والتعايش والتسامح والاعتراف بالآخر في اختلافه، والتضامن الإنساني والاحترام المتبادل والمواطنة العالمية. وهذا النموذج الفريد وإن كان قد ظهر في «المشرق» تحديداً، فإن أبعاده الحضارية والإنسانية والعالمية تتجاوز الجغرافيا والتاريخ معاً.

ويمكن العثور على هذه المعاني بدرجات متفاوتة في معظم أقواله وكتاباته الإبداعية: من «صخرة طانيوس» و«الحب عن بعد»، إلى «اختلال العالم» و«الهويات القاتلة» و«ليون الأفريقي»، وحتى أحدث إصداراته، كما أنها موثقة في الحيثيات التي حصد بها معظم جوائزه؛ مثل «غونكور الفرنسية» و«أمير أستورياس للآداب» في إسبانيا وغير ذلك من الجوائز العالمية.

الجديد في مفهوم «المشرقية» عند مفكرنا أنها: «حالة ذهنية»، وبنية عقلية في المقام الأول، يمكن أن تتكرر في أي مكان وزمان ما دام تحققت شروطها، بل يذهب معلوف إلى ما هو أبعد من ذلك، حين يقرر أن خلاص العالم اليوم يكمن في تعلم «المشرقية»، ذلك أن «اختلال العالم» يشير إلى غياب بوصلة المشرقية! ورغم أننا نمتلك إمكانيات مادية وتكنولوجية هائلة في القرن الحادي والعشرين، فإن ما ينقصنا هو أننا لا نعرف بعد: كيف نعيش مع بعضنا بعضا!

ومنذ روايته «ليون الأفريقي» عام 1986 سعى معلوف للتنبيه إلى الحاجة الملحة للتفكير بعمق فيما ينقص عالمنا بشدة، وهو بكلمة واحدة: «لم الشمل الإنساني»، كما كانت الحال بين الشعوب والحضارات العربية الإسلامية والإسبانية الأوروبية المسيحية والحضارة اليهودية كذلك، الذين التقوا جميعا في إسبانيا (الأندلس)، لإيمانه العميق بأن البشرية بدأت حضارة واحدة وستنتهي حضارة واحدة. وهو لا يكف عن الإشارة إلى هذه الشذرة الذهبية للشاعر العربي:

«إذا كنت من تراب فكلها بلادي وكل الأنام أقاربي».

على أن عودة معلوف إلى التاريخ بوصفها نقطة انطلاق واستحضار «المشرقية» في عصر العولمة، ليست حنيناً إلى الماضي «نوستالجيا»، أو نوعاً من أنواع «اليوتوبيا» في المستقبل، بل هي حاجة وجودية شديدة الواقعية، لا سيما وأن لدينا رصيدا إنسانيا غنيا ومخزونا من المواطنة العالمية، يثبت أن التعايش ممكن من خلال التعلم المستمر الذي يمارسه الإنسان ويتدرب عليه طوال حياته.

وتصبح مسؤولية المفكر الحقيقي الكشف عن المراحل والمناطق المضيئة والآليات العقلية، التي تدعم هذه الفكرة المحورية، سواء في إسبانيا (الأندلس) أو الإسكندرية الهيلينية أو غير ذلك. وفي الوقت نفسه، إبراز المعوقات والحواجز التي تحول دون تحقيقها اليوم، وهي في العمق إشكاليات «ثقافية» بالمعنى الواسع، مثل: التعصب، ورفض الاختلاف، وعدم الاعتراف بالخطأ، وامتلاك الحق، والتعالي الإنساني، والصراعات والحروب.

لذا يرفض معلوف، على سبيل المثال، الآيديولوجيات التي تدعو إلى صراع الحضارات كما صاغها «صمويل هنتنجتون» حديثاً، بل ويشدد على ضرورة مقاومتها، لأن العالم لا يمكن أن يستمر إلا إذا تخطينا هذا الصراع إلى نوع من التعايش ليس فقط بين الحضارات، وإنما بين الناس.

عودة معلوف إلى التاريخ بوصفه نقطة انطلاق واستحضار «المشرقية» ليست حنيناً إلى الماضي «نوستالجيا»، أو نوعاً من أنواع «اليوتوبيا» في المستقبل، بل هي حاجة وجودية شديدة الواقعية

فما يتميز معلوف عن بعض المفكرين والمنظرين المعاصرين في الغرب، أمثال فوكوياما وهنتنجتون وغيرهما، يمكن تلخيصه في النقاط التالية:

أولاً: دعوته إلى المشرقية ليست نوعاً من التعالي الثقافي أو «الانتصار الثقافي» الذي يمارسه البعض بحجة تفوق الغرب مثلا على سائر ما عداه، سواء في صيغة النهايات (نهاية التاريخ) أو آيديولوجيا (صدام الحضارات)، بل يؤكد معلوف على أن «الدرس الأكبر الذي علمنا إياه القرن العشرون: أنه لا توجد عقيدة تحريرية بذاتها، فكلها يمكن أن تنحرف، وكلها يمكن أن تشذ، وكل أياديها ملطخة بالدماء، الشيوعية والليبرالية والقومية وكل الديانات الكبرى وحتى العلمانية. لا أحد يحتكر التعصب، وبالعكس لا أحد يحتكر ما هو إنساني».

ثانياً: إذا كان معلوف يشارك معظم المفكرين الكبار اليوم أمثال بيتر سلوترديك وأغامبين وآلان باديو وهابرماس ودريدا وغيرهم في أن عالمنا قد تغير كلياً على الصعيدين المادي والتكنولوجي، بينما لم يتغير بشكل كاف على صعيد العقول والأفكار، بمعنى أننا لم ندرك بعد النتائج المعنوية للتكنولوجيا على مجتمعاتنا، فإن معلوف لم يكتف بالتشخيص والتأويل والنقد والتفكيك لهذا الواقع المأزوم، وإنما تجاوز ذلك إلى طرح البدائل الممكنة التي يمكن أن تجابه التحديات القادمة وتحقق التعايش المنشود.

ثالثاً: نجح معلوف في «تضفير» ملامح من سيرته الذاتية وانتماءاته المتعددة ودراساته المتعمقة وقلقه الوجودي، في نموذج قادم من المستقبل بأثر رجعي! فكونه يحمل انتماءات متعددة ويتفاعل مع كل هذه الانتماءات في الوقت نفسه، جعله مدفوعاً برغبة قوية: بأن تعود (المشرقية) أو قل الشرق الأوسط الحضاري (الحاضن لكل الثقافات والأديان والطوائف والإثنيات) إلى سابق عهده في (لم الشمل الإنساني)، مخلِّفاً أزمنة الحروب الدينية والهويات القاتلة، من أجل بناء عالم إنساني واحد له مصير مشترك، وبدلاً من أن يكون «تعدد الهويات» جريمة، يصبح «صداقة» تصالح الجميع فيما بينهم.

رابعاً: استخدام معلوف «الرواية» بصفتها وسيطاً إبداعياً إلى جانب دراساته الأكاديمية، في مخاطبة العالم بلغاته التي يفهمها، مكّنه من توصيل أفكاره بسهولة إلى القارئ العادي، خاصة وأن الحوار في الرواية يقوم على تعدد الأصوات. والحوار لغة هو كلمة يونانية (ذيالوغوس) تعني «اللقاء» من خلال الكلمة والفكر والثقافة، وهو ينشئ ثقافة قبول الآخر في اختلافه؛ وذلك هو جوهر ثراء التجربة الإنسانية «المشرقية»!


مقالات ذات صلة

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية
TT

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية

اشتهر كارل فون كلاوزفيتز، كبير فلاسفة الحرب في الغرب، بملاحظته أن الحرب امتداد للسياسة، كما أشار إلى نقطة ثانية، وهي أن الحرب تابعة للسياسة، ومن ثم فهي تتشكّل من خلالها، مما يجعل «تأثيرها ملموساً حتى في أصغر التفاصيل العملياتية».

نحن نرى هذا اليوم في الشرق الأوسط، حيث قد تسترشد محاولات إنقاذ الرهائن الفتاكة، والاغتيالات الكبرى، كتلك التي أودت بحياة حسن نصر الله زعيم «حزب الله»، بنقاط سياسية بقدر ما تسترشد بالرغبة في إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن. وعلى الجانب الآخر من المعادلة، يبدو أن أحدث سرب من الصواريخ الباليستية الإيرانية، التي انفجر معظمها من دون ضرر فوق إسرائيل، كان عملاً من أعمال المسرح السياسي الذي يهدف في المقام الأول إلى رفع المعنويات على الجبهة الداخلية.

من المفيد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وآية الله علي خامنئي من إيران، ناهيكم عن الرئيس الأميركي المقبل، أن يقرأوا كتاب جفري فافرو «حرب فيتنام: تاريخ عسكري» (652 صفحة، دار «بيسك بوكس» للنشر).

إنه يُلقي أفضل نظرة عامة على المغامرة الأميركية في جنوب شرقي آسيا، ومن المؤكد أنه سوف يصبح كتاباً معيارياً عن تلك الحرب، وبينما نتابع المعاناة الجارية في الشرق الأوسط، فإن هذا الكتاب يقدّم لنا أيضاً دروساً قوية بشأن المخاطر المترتبة على شن حرب مفتوحة من دون إستراتيجية حقيقية.

تركّز أغلب كتب التاريخ عن حرب فيتنام على الدبلوماسية والسياسة في الصراع، بالعودة إلى العمليات العسكرية للأحداث الرئيسية فقط، مثل هجوم «تيت» ومعركة مدينة «هوي»؛ إذ يتبع واورو، المؤرخ في جامعة نورث تكساس، نهجاً أكثر تنويراً.

ووفقاً لرأي فافرو، كان التدخل الأميركي في فيتنام بمثابة درس كبير في كيفية تجنّب شنّ الحرب، وقد أدى الاعتقاد الطائش في فاعلية القوة النارية المحضة، إلى حملات القصف الأميركية المدمِّرة التي كما يقول واورو: «أدّت إلى إحراق سُبع أراضي جنوب فيتنام» و«خلقت خمسة ملايين لاجئ داخلي»، على أمل دفع قوات «فيت كونغ» الفيتنامية إلى العراء، ورفض الخصم الشيوعي القتال بهذه الطريقة، بل كانوا يشتبكون سريعاً، ثم ينسحبون عندما يردّ الأميركيون بوابل عنيف من نيران المدفعية والغارات الجوية. في الأثناء ذاتها، كلما حاول الرئيس ليندون جونسون - الذي لم يدرس مبادئ كلاوزفيتز - فصل الحرب عن السياسة، بالكذب بشأن تكاليفها ورفض تعبئة الاحتياطي العسكري؛ صارت الحرب أكثر سياسية، وهيمنت على الخطاب الأميركي، ثم عصفت به خارج الرئاسة.

لم يكن أداء أميركا أفضل مع الهجمات المستهدفة، وكما هو الحال مع أجهزة البيجر المتفجرة التي استخدمتها إسرائيل، فإن برنامج «فينكس» من إعداد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لاغتيال أعضاء «فيت كونغ» قد «ركّز على (القبض أو القتل)»، كما كتب واورو، وأدى إلى سقوط ضحايا أبرياء، كما أنه لم يؤدِّ إلى الاقتراب من نهاية الحرب؛ لأن البرنامج بأكمله كان مبنياً على «أرقام ملفقة»، كما يوضح المؤلف، «وليس على الواقع الحقيقي»، وكان البرنامج عبارة عن طريقة أخرى لقتل الناس من دون فهم الحرب.

جعلتني قراءة التاريخ الرائع الذي كتبه فافرو أفكّر في نتيجة لازمة جديدة لنظريات كلاوزفيتز: كلما كانت الاستراتيجية أقل تماسكاً في الحرب، أصبحت أكثر تسييساً، دخلت الولايات المتحدة الحرب لأسباب سياسية ودبلوماسية غامضة (الظهور بمظهر الصرامة أمام خصوم الحرب الباردة ليس نهاية المطاف). بعد عقدين من الزمان كان الغزو القصير والفوضوي لجنوب «لاوس» من قِبل القوات البرّية الفيتنامية الجنوبية والقوة الجوية الأميركية بمثابة «مسرحية سياسية، وليس حرباً»، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية عام 1972، لم تكن هناك نهاية في الأفق، وكان الدافع وراء الهجوم هو رغبة الرئيس ريتشارد نيكسون في جعل الأمر يبدو وكأن فيتنام الجنوبية تتولّى زمام الأمور في القتال، وبدلاً من ذلك، زاد من زعزعة استقرار المنطقة، ولم يفعل شيئاً يُذكر لقطع خطوط إمداد العدو.

لحسن الحظ، خلال الحرب العالمية الثانية استخدمت الولايات المتحدة السياسة لخدمة المجهود الحربي بدلاً من العكس، وإن لم يكن الجميع يرَون الأمر على هذا النحو. في كتاب «أميركا أولاً: روزفلت ضد ليندبيرغ في ظل الحرب» (444 صفحة، دار «دوبلداي للنشر»)، يُصوّر إتش دبليو براندز، نجم الطيران الشهير تشارلز ليندبيرغ، الذي تحدث عن النزعة الانعزالية في البث الإذاعي الوطني، بوصفها أمراً ساذجاً، ولكن صادقاً، في حين يُصوّر الرئيس فرانكلين روزفلت بأنه مخادع بشكل ملحوظ في جهوده لدفع الولايات المتحدة إلى الحرب.

لكن في الواقع، كان فرانكلين روزفلت هدفاً كبيراً لهذه التهمة؛ إذ تعهد الرئيس أثناء حملته الانتخابية للفوز بولاية ثالثة غير مسبوقة، قائلاً: «لن يُرسَل أبناؤكم إلى أي حروب خارجية»، وكان جيمس، نجل روزفلت، يتساءل عن سبب اتخاذ والده هذا الموقف، فقال والده موضحاً: «جيمي، كنت أعلم أننا ذاهبون إلى الحرب، كنت متأكداً من أنه لا يوجد مخرج من ذلك، كان لزاماً أن أثقّف الناس بشأن الحتمية تدريجياً، خطوة بخطوة»، ربما يكون هذا مخادِعاً، لكن هذه السياسة ساعدت الأميركيين على المشاركة في المجهود الحربي، كان كلاوزفيتز ليفخر بذلك.

في الوقت نفسه، عندما يرفض ليندبيرغ الدعوة إلى هزيمة ألمانيا في أواخر يناير (كانون الثاني) 1941، يُعيد إلى الأذهان رفض دونالد ترمب دعم المعركة الأوكرانية ضد العدوان الروسي، ويلاحظ براندز، وهو مؤرخ في جامعة تكساس فرع أوستن، ليونةَ ليندبيرغ إزاء ألمانيا النازية، ولكن - في رسم صورة متعاطفة للرجل - يستبعد عديداً من التفاصيل التي تظهر في كتب أخرى، مثل السيرة الذاتية تأليف «إيه سكوت بيرغ»، الفائزة بجائزة بوليتزر لعام 1998.

لا يذكر براندز، على سبيل المثال، أن ليندبيرغ رفض في مايو (أيار) 1940 الحديث عن مخاطر انتصار النازية، بوصفه «ثرثرة هستيرية»، أو أنه، في العام نفسه، ألّفت زوجة الطيار آن مورو ليندبيرغ كتاب «موجة المستقبل»، وفيه جادلت بأن العهد الجديد ينتمي إلى أنظمة استبدادية، وكان ذلك الرجل يحمل مثل هذه الولاءات المُرِيبة حتى بعد بيرل هاربر، كما قال ليندبيرغ (في تصريحات أغفلها براندز أيضاً): «إن بريطانيا هي السبب الحقيقي وراء كل المتاعب في العالم اليوم».

إن مثل هذه الإغفالات تجعل كتاب براندز يبدو وكأنه مُوجَز متحيّز إلى ليندبيرغ أكثر من كونه كتاباً تاريخياً نزيهاً. كتب براندز يقول: «لقد أصاب ليندبيرغ كثيراً في حملته ضد الحداثة، لكنه أخطأ في أمر واحد كبير- فهو لم يرَ أن الأميركيين كانوا على استعداد للتدخل في الصراعات الخارجية». وأودّ أن أزعم أن ليندبيرغ كان مخطئاً أكثر من ذلك؛ فقد عبث بمعاداة السامية، وهو شيء ينتقص براندز من أهميته، وعلى نحو مفاجئ بالنسبة لطيار شهير، لم يكن يبدو أن لديه الكثير من البصيرة في دور القوة الجوية في الحرب، وحتى في القراءة الأكثر تعاطفاً، لا بد أن كلاوزفيتز كان ليحتدم غيظاً.

الجنرال البروسي العجوز هو موضوع تحليل جديد لاذع، وربما شديد التحريض من ناحية «أزار غات»، المؤرخ الفكري في جامعة تل أبيب. في كتابه «أسطورة كلاوزفيتز: أو ملابس الإمبراطور الجديدة» (228 صفحة، دار «كرونوس للنشر»)، يزعم غات أن كتاب كلاوزفيتز «عن الحرب» مؤثر بصورة رئيسية؛ لأنه مُحير للغاية. ويَخلُص إلى أن «الكثير من سمعة الكتاب تستند إلى سوء فهم دائم لما يعنيه في الواقع».

هناك في الأساس اثنان من كلاوزفيتز؛ الأول ألّف في وقت مبكر من حياته المهنية الكثير من كتب «عن الحرب»، بينما يسعى إلى فهم انتصارات نابليون السريعة والساحقة على بروسيا، والآخر كان يحاول بعد سنوات رسم مسارٍ لاستعادة بروسيا مكانتها في أوروبا، ولكن بدلاً من تأليف كتاب ثانٍ، كما يقول غات، عاد الضابط البروسي ونقّح كتاب «عن الحرب» بطرق تتناقض على نحو جَلِيّ مع بعض الأجزاء الأسبق من نفس الكتاب. بدأ كلاوزفيتز بكتابة أن النصر يعتمد على هزيمة سريعة للعدوّ في معركة كبيرة واحدة. وفي وقت لاحق أدرك أن العديد من الأطراف الفاعلة، سيما الأضعف منها، قد يكون لديها سبب لإطالة أمد القتال. وشرع في التنقيح، لكنه لم يكن لديه الوقت لعلاج هذا التضادّ قبل وفاته عام 1831.

وبينما كنت أقرأ كتاب غات، ظللتُ أفكّر في أنه لم يدرك النقطة الأكثر أهميةً؛ قد تشوب الأعمال الكلاسيكية حالة من النقص إلى حد بعيد؛ إذ تطرح أسئلة أكثر مما تقدّم من إجابات، وهو ما كان بمثابة طريق أكثر أماناً للاستمرار عبر الزمن. في الواقع، كانت واحدة من أشهر ملاحظات كلاوزفيتز تتعلّق بطرح الأسئلة، وهو يقول إنه قبل أن تتصاعد أعمال العنف يجب على القادة المفكرين أن يسألوا أنفسهم: ما نوع هذه الحرب؟ وما الذي تريد أمّتي تحقيقه؟ وهل يمكن أن تحقّق ذلك فعلاً؟

هذه اعتبارات جيدة. إن مواصلة حرب استنزاف لا نهاية لها، سواء في جنوب شرقي آسيا، أو في الشرق الأوسط، من غير المرجّح أن تؤدي إلا إلى المزيد من الفوضى والموت، وعلى نحو مماثل، لو تعامل قادة أميركا بجدّية مع نهاية المسألة قبل غزو فيتنام، ناهيكم عن العراق أو أفغانستان، ربما كانت حروبهم لتسير على نحو أفضل كثيراً، أو ربما لم تكن لتحدث على الإطلاق.

-------------------

خدمة: «نيويورك تايمز».