المعرفة التحليلية النفسية ودلالات الوشم

النمساوي «أوتو رانك» والفرنسي «دافيد لوبروتون» يحللان أبعادهما في كتابين

المعرفة التحليلية النفسية ودلالات الوشم
TT

المعرفة التحليلية النفسية ودلالات الوشم

المعرفة التحليلية النفسية ودلالات الوشم

كتابان مهمان في المعرفة التحليلية النفسية صدرا حديثا عن «منشورات صفحة 7 السعودية»، الأول «رضّة الولادة» تأليف المحلل النفسي والعالم النمساوي «أوتو رانك»، و«علامات هوية» للأنثروبولوجي وعالم الاجتماع الفرنسي ديفيد لوبروتون، بترجمة الباحث المغربي عبد السلام بنعبد العالي، وهو يتناول التعابير الجسديّة مثل الوشوم والثّقوب والأمارات الجسديّة التي تحولت إلى علامات لنشوء هوِيات فرديّة متنوِعة تحمل في عمقها تغييرات عديدة على مستوى فهم الجمال والحياة بصورة عامة.

في النسخة العربية لكتاب «رضة الولادة» للمترجمين السوريين «ثائر ومهيار ديب»، يفسر رانك «الرضة» بأنها الصدمة النفسية التي يصاب بها الإنسان فور ولادته وانتقاله من فضاء رحم أمه إلى الخارج، ويقسم بعد ذلك الغرائز لقسمين، الأول ينصرف للمحافظة على «الحياة»، والثاني يقوم على الاتجاه صوب «الموت»، وتؤسس كل واحدة من هاتين الغريزتين لنوعين من الخوف.

ويرفق رانك ذلك بمحاولة تحليل نفسية يحيط من خلالها بصيرورة الجنس البشري وتطوره الكامل، باعتبار «رضّة الولادة» أساساً بيولوجياً جوهرياً لما هو نفسي ونواة للاوعي، وقد حاول استقصاء جميع مظاهرها الجسدية البحتة، وما ينجم عنها ومحاولات تجاوزها من عواقب نفسية وثقافية هائلة على تطور البشرية في حالة السواء والمرض، والرمز والأسطورة، والدين والفنّ والفلسفة، فضلا عن المعرفة التحليلية النفسية وما تقدّمه من علاج عبر مسيرة حياة الإنسان منذ ولادته حتى وفاته.

لا تقتصر أهمية كتاب «رضّة الولادة» الذي نشره رانك عام (1924) على موضوعه ومادته فحسب، بل تتعدى ذلك بما تحقق له من مكانة في تاريخ حركة التحليل النفسي وعلاقة صاحبه بمؤسّسها وعالمها الأشهر سيغموند فرويد، الذي كان «رانك» من أقرب المقرّبين له بين تلاميذه حتى انفصاله عنه. وقد رحّب فرويد بالكتاب في البداية، وقَبِلَ أن يُهدى إليه، بعدها تقلّب بين تقريظه ونقده، وقد عارضه عدد من المحلّلين النفسيين الكبار منذ البداية، وقالوا إنه يتناقض مع بعض أفكار فرويد الأساسية.

ورغم كل ما تلقاه الكتاب من انتقادات فإنه ظلَّ واحداً من أبرز الكتب في تاريخ علم النفس، وذلك بما يتضمنه من تبصّرات ثاقبة مبنيّة على أسس تاريخية وفلسفية وأنثروبولوجية وفنية وأدبية صلبة، وقد وجد فيه بعض المحللين وعلماء النفس كتاباً «نِسْوِيّاً» في إدراكه أهمية العلاقات الباكرة بين الأمّ والطفل وإعلائه من شأن منظورات المرأة.

جاء «رانك» من عائلة متوسطة. وكان عالم النفس النمساوي ألفرد أدلر أول من تنبه لموهبته، وقدمه لفرويد (1906)، الذي تولى تعليمه والإنفاق عليه حتى حصوله على الدكتوراه سنة 1912. وقد استمرت علاقتهما عشرين عاما، وجعله فرويد سكرتيرا له، وعينه مساعدا لرئيس تحرير مجلة «إيماجو» للتحليل النفسي. والمجلة الدولية للتحليل النفسي، وكان مرشحا ليخلف فرويد في كل شيء، وأشرف على دار المطبوعات الدولية التابعة لحركة التحليل النفسي التي أنشأها فرويد، وأعادها للحياة بعد الحرب العالمية الأولي، ونظم شؤونها، إلا أنه فجأة نشر كتابه «رضة الميلاد» الذي كان صدمة ورآه الجميع ضد كل المفاهيم التي دعا إليها فرويد، وتقوم على الدعوة لها حركة التحليل النفسي. وعلى الرغم من أن فرويد عدّ الكتاب أهم تقدم منذ اكتشاف التحليل النفسي، فإنه بدأ يتفهم نظرية رانك، وأدرك أنه يناهضه بها، ومن ثم بدأت المباعدة بينهما، فانتقل رانك إلى باريس 1924، ثم إلى الولايات المتحدة، قاطعا علاقته تماما بالحركة وفرويد منذ ذلك التاريخ.

وفي الكتاب الثاني «علامات هوية»، يتناول لوبروتون التعابير الجسديّة مثل الوشوم والثّقوب والأمارات الجسديّة التي تحولت إلى علامات لنشوء هوِيات فرديّة متنوِعة تحمل في عمقها تغييرات عديدة على مستوى فهم الجمال والحياة بصورة عامة.

يشير كتاب «علامات هوية»، إلى أن منظومة العلامات الجسدية صارت تتطوّر بشكل سريع ومبتكر في الغرب وهو ما يثير التساؤلات حول دوافع تغيير الجسد

ويذكر لوبروتون أن صناعة الرسوم على الجسد تشهد ازدهارا كبيرا، بعدما أصبح الجسد مرآة تبحث الأنا من خلالها عن تجسيد دلالات حضوره في العالم، والالتحام مع الذات؛ حيث صارت الوشوم من أدوات إبراز الذات واستعراضها، وليس من قبيل الهامشي أو المتواري.

ويشير لوبروتون في الكتاب إلى أن «الجسم الذي يحمل علامات» كان منذ العصور القديمة وعند العديد من المجتمعات التقليدية، تعبيرا عن مسار، ورسالة، وهوية، وقد ظل كذلك رغم المعارضة الشديدة التي واجهت بها الكنيسة هذا النوع من الممارسات، ورغم نظرة أعضاء الجهاز القضائي، ومعهم البحّارة والجنود، لها بوصفها «علامة عار».

ويدرس المؤلف الطريقة التي يظهر بها الوشم بوصفه لغة تمرّد مستمرة حتى الآن؛ حيث مثَّل «ثقب الجسد» الهوية الظاهرة على الجلد التي تعني الشباب، مستندا في ذلك إلى بحث ميداني حلَّلَ من خلاله العلامات الجسدية في المجتمعات الغربية بحثا عن ثقافة وهوية، لينتقل بها من كونها ازدراء للذات إلى عملية من عمليات إثباتها.

 

عدّ بعض المحللين وعلماء النفس «رضة الولادة» كتاباً «نِسْوِيّاً» في إدراكه أهمية العلاقات الباكرة بين الأمّ والطفل، وإعلائه من شأن المرأة

ويولي لوبروتون اهتمامه بمشاعر الاختلاف بين الألم الجسدي والألم النفسي واللذة الجنسية، مشيرا إلى أنها تظلّ مرتبطة بفعل الثّقب على الجسد ذاته، معتمدا في كل ذلك على وثائق ثرية، يستوفي من خلالها «موضة علامات» جديدة صارت تعرف ازدهارا كبيرا، ويراها المؤلف بوصفها مسألة تهمّ التاريخ، وتعني الأنثروبولوجيا والفلسفة في آن واحد.

وانطلاقا من هذا السياق يشير المؤلف إلى المفارقة التي ترى أن منظومة العلامات الجسدية، رغم أنها كانت تعاني من انتقادات شديدة في المجتمعات التقليدية أدت لمحاصرتها، فإنها صارت تتطوّر بشكل سريع ومبتكر في العالم الغربي، وهو ما يثير كثيرا من التساؤلات حول الرغبات الفردانية التي تدفع شخصا معينا إلى أن يغيّر جسده.

يذكر أن ديفيد لوبروتون أنثروبولوجي وعالم اجتماع فرنسي، يعمل بجامعة ستراسبورغ، وفي المعهد الجامعي الفرنسي، ومختبر الديناميات الأوروبي، وقد تخصص في تمثيل الجسم البشري ووضعه في الاعتبار، وقام بدراسته بشكل خاص من خلال تحليل السلوك المحفوف بالمخاطر.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية
TT

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية

فضاءات ومحاور بحث معمق، متخصصة في عوالم التعايش والتناغم المتأصلة والمؤتلِقة ضمن مجتمع دولة الإمارات العربية المتحدة، يناقشها ويقاربها كتاب «التسامح في الإمارات... سيرة جديدة وضّاءة للأخوة الإنسانية (شهادات وقصص بطلها الآخر)»، للصحافي والباحث السوري رفعت إسماعيل بوعساف، الصادر، أخيراً، عن دار «ميتافيرس برس» للنشر. ويعرض المؤلِّف أبرز شواهد تآلف وتقارب حضارات وأديان وثقافات، موضحاً أهم المقومات التي امتازت بها وعلى رأسها: تجذّر التواصل والانفتاح في المجتمع، وتمسك قادة الإمارات بالقيم الإنسانية، وسماحة أهلها واتسامهم بالوسطية والاعتدال، والمشروعات والمبادرات النوعية الكفيلة بترسيخ التسامح محلياً وعالمياً (مثل: وثيقة الأخوة الإنسانية، وبيت العائلة الإبراهيمية، ووزارة التسامح، والمعهد الدولي للتسامح، والأعمال والمبادرات الخيرية المتنوعة).

يتضمن الكتاب، الواقع في 411 صفحة، على أربعة أبواب رئيسية، وخاتمة تضم مقترحات وتوصيات. وتناقش فصوله جوانب كثيرة شاملة يُجمل فيها بوعساف، وعبر سير مشاهداته ومعايشاته في الإمارات طوال أكثر من 20 عاماً، وكذا في ضوء خلاصات أبحاثه الخاصة بالدراسة، مصادر وينابيع جدارة وتميز مجتمع الإمارات في مدارات التّسامح، مبيناً في مستهلّ إضاءاته الأبعاد والجذور التاريخية لحكاية التسامح في هذه الأرض، في المحطات والأزمان كافّة، طبقاً لأسانيد وتدوينات تاريخية جليّة، فأهلها لطالما تميزوا بكونهم يحتفون بالآخر المختلف عنهم ويرحبون به ولا يرفضونه أو يعزلون أنفسهم عنه، وهكذا ضمّوا وحضنوا بين ظهرانيهم أفراداً من أعراق ومذاهب شتّى بقوا يبادلونهم الحب ويتأثرون ويؤثّرون بهم، ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً. ويستعرض المؤلف عقبها، حقائق فاعلية وإثمار مساعي وبرامج دولة الإمارات العربية المتحدة، الرامية إلى تعزيز التقارب بين الأديان وأطياف الإنسانية... وكذا إطفاء ألهبة أزمات الهُويات، واستئصال أسباب الصراعات المذهبية وقطع دابر التعصب. ثم يدرس ويحلل ماهيات أعمدة وتجليات التسامح والتعايش في ميادين الحياة بالإمارات: المجتمعية والصحية والتعليمية والثقافية والاقتصادية والقانونية والإعلامية. ويقدم، أيضاً، جملة شهادات وإشادات لأبرز السياسيين ورجالات الدين والبحاثة والكتّاب الأجانب حول ثراء الإمارات بقيم الانفتاح والتعايش والتواصل، ومنهم: الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومسؤولون أمريكيون، ونجم الكرة الأرجنتيني الراحل دييغو مارادونا، والروائي البرازيلي باولو كويلو، ونجم بوليوود شاروخان، وعالم النفس والباحث الكندي البروفسور إدوارد دينر. كما يُفرد الكتاب محطات موسَّعة لشرح طبيعة وقيمة حصاد جهود الدولة ومبادراتها ورؤى قادتها، الضامنة تمكين وتقوية هياكل ومرتكزات التسامح والتآخي الإنساني في مجتمع الإمارات والعالم أجمع، التي تكللها أعمال ومشروعات عمل خيري وإنساني ترصد لها الإمارات ميزانيات ضخمة، تطول أصقاع الأرض قاطبةً ولا تميز فيها بين دين أو إثنية أو طائفة.

ويحفل الباب الرابع في الكتاب، الموسوم «حوارات وسيمفونية»، بحوارات وأحاديث مع رجال دين ومسؤولين ومثقفين وأطباء وإعلاميين ومهندسين ومبدعين، بعضهم يقيم في الدولة منذ أكثر من 60 عاماً، يروون فيها حقائق ومواقف كثيرة، بشأن التسامح وواقع انفتاح المجتمع وقبوله الآخر المختلف ورسوخ التعايش والمحبة فيه. وتضم قائمة هؤلاء المحاورين: أحمد الحَدَّاد، مفتي دبي وعضو «مجلس الإمارات للإفتاء»، وبول هيندر، أسقف الكنيسة الكاثوليكية في جنوب شبه الجزيرة العربية (2004-2022م)، وراجو شروف، رئيس معبد «سندي غورو دربار» الهندوسي، وحمّود الحناوي، شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في سوريا، وسوريندر سينغ كاندهاري، رئيس معبد «غورو ناناك دربار السيخي»، وعشيش بروا، مسؤول «المركز الاجتماعي البوذي» في الشارقة، وإيان فيرسرفيس، الشريك المؤسس ورئيس تحرير «موتيڤيت ميديا غروب»، وزليخة داود، أول طبيبة نسائية في الإمارات (1964م)، وبيتر هارادين، الرئيس السابق لـ«مجلس العمل السويسري»، وراميش شوكلا، أحد أقدم المصورين في الإمارات.