العالم الذي صنعته الفلسفة

أساس المساءلة النقدية منذ أفلاطون حتى العصر الرقمي

العالم الذي صنعته الفلسفة
TT

العالم الذي صنعته الفلسفة

العالم الذي صنعته الفلسفة

* قد نرى مغالاة في تخصص ثلاثي الأطراف (فلسفة وسياسة واقتصاد) لكنّ جامعة أكسفورد البريطانية تدرّسُ هذا التخصص المشتبك منذ سنوات بعيدة، ومعظم رؤساء الوزارة البريطانية درسوا هذا التخصص الثلاثي المثير.

لو جرّبنا قراءة أحد الكتب الحديثة المشهود لها بالرصانة في أي حقل معرفي فلن يكون عسيراً علينا ملاحظة النكهة الفلسفية للمادة التي يحتويها الكتاب. يمكننا القول مبدئياً: لا نستطيع عدّ أي كتاب رصيناً ما لم يحتوِ ألواناً من العرض الفلسفي على مستوى الموضوعات والمساءلة والرؤية النقدية. بغياب الروح الفلسفية سيكون الكتاب أقرب لأطروحة آيديولوجية ساكنة أو وصفة من وصفات الطبخ!

الفلسفة قرينة الفكر النقدي والمساءلة المستديمة والتغيّر المعرفي الذي لا ينقطع؛ ولأجل هذا وبسببه كانت الفلسفة العُدّة الجوهرية التي نمت منذ عصر النهضة الأوروبية وترافقت مع كلّ ثورة علمية أو تقنية. علينا أن نتوقّع تغييراً محتوماً في وسائلنا الفلسفية مع كلّ ثورة معرفية، وربما يمكننا أن نلحظ المكانة المميزة للفلسفة في تواتر التقليد العلمي باقتران شهادة الدكتوراه في أي حقل معرفي بعبارة PH.D (دكتوراه الفلسفة في ذلك الحقل)، وهي لا تعني شهادة في الفلسفة بقدر ما تعني التمكّن والإحاطة والمعرفة الرصينة بالوسائل البحثية والاستقصائية الخاصة بذلك الحقل المعرفي.

الفلسفة في العالم العربي تعاني قصوراً كبيراً على الصعيد العام والأكاديمي. لستُ هنا في سياق الحديث العام عن ركود الأنساق المعرفية في الثقافة العربية واقترابها من تخوم الآيديولوجيا أو اللاهوت وهو ما يتقاطع مع الروح الفلسفية؛ لكن سأشيرُ إلى ثلاثة موضوعات أساسية أرى أنها تسببت في قصور الذائقة الفلسفية العربية:

الأول، اهتمامنا بتاريخ الفلسفة أكثر من المساءلة الفلسفية ذاتها، حتى تاريخ الفلسفة يبدو فرعاً من علم الكلام وأقرب لرطانة لغوية منفّرة جعلت من الفلسفة ألاعيب حُواة وسَحَرَة.

الثاني، القطيعة المعرفية بين الفلسفة والأنساق الثقافية والعلمية والتقنية. بعبارة أخرى: صارت الفلسفة نشاطاً منعزلاً عن حركيات الحياة المتفجّرة والمتحرّكة.

الثالث، غياب الدرس الفلسفي المدرسي والجامعي، وحتى لو وُجِد في مناطق جغرافية محدّدة فغالباً ما يكون منفّراً وضئيلاً متّسماً بـ(فقر الدم) المعرفي. الذائقة الجمعية أيضاً لا تستهويها الفلسفة لأنها تراها انشغالات بعيدة مقترنة بأسماء شخصيات محدّدة. الشخوص باتت أهمّ من الأفكار في الفلسفة العربية.

ليست الحال مع الفلسفة في العالم العربي بهذا السوء في السنوات الأخيرة؛ فقد طرأ تغيير جوهري في نمط الدرس الفلسفي وطرائقه ووسائل إشاعته بين الجمهور العام وبخاصة في المملكة العربية السعودية، وقد سبق لي أن كتبتُ في هذا الشأن في «ثقافية الشرق الأوسط» عندما تناولتُ تأسيس «المجلة السعودية للدراسات الفلسفية» و«منصّة معنى» التي تُعنى بالفلسفة.

الكتب التي تُعنى بالفلسفة كثيرة ومتاحة للجميع سواءٌ كانت مؤلَّفة أم مترجَمة؛ لكنني لا أهوى سوى قراءة الكتب الفلسفية التي يكتبها علماء أو متخصصون في حقول معرفية شتى، أو يكتبها فلاسفة ذوو ذائقة فلسفية عابرة للتخصصات المعرفية. الكتب التي يكتبها هؤلاء ستكون طافحة بالإثارة وقادرة على إثارة مكامن الشغف العميق لدى كلّ محبّ حقيقي للفلسفة.

أحد هذه الكتب هو الكتاب المترجَم حديثاً إلى العربية بعنوان «العالم الذي صنعته الفلسفة: من أفلاطون إلى العالم الرقمي The World Philosophy Made: From Plato to the Digital Age» لمؤلفه الفيلسوف الأميركي سكوت سومز Scott Soames. نشرت دار نشر جامعة برينستون الأميركية المرموقة هذا الكتاب عام 2019، وتولّت ترجمته إلى لغة عربية أنيقة رزان يوسف سلمان، ونشرته دار «المدى» العراقية عام 2023.

سكوت سومز فيلسوف أميركي (مولود عام 1945)، ويعمل أستاذاً للفلسفة في جامعة جنوب كاليفورنيا منذ عام 2004، وقبلها عمل في جامعتي ييل وبرينستون. التخصص الفلسفي الدقيق للأستاذ سومز هو فلسفة اللغة، وتاريخ الفلسفة التحليلية. نشر سومز كتباً كثيرة في مجالات فلسفية كثيرة، ومعروف عنه مقالاته الكثيرة التي تدعو للتفكّر والإثارة الذهنية...

معروف عن الفلسفة (الكلاسيكية) ولعُها الطاغي بالأسئلة الوجودية التأصيلية الخاصة بالحياة والموت والمعنى والهوية والحب والخير والشر... إلخ، ثم حصلت انعطافة مع حلول الفلسفة الوضعية المنطقية والتحليل اللغوي (الفلسفة العلمية كما سمّاها المناطقة وفلاسفة المنهج العلمي). الفيلسوف الحاذق في عصرنا هذا هو الذي يستطيع -بفنّ ومعرفة وخبرة- مزاوجة الدرس الفلسفي الكلاسيكي مع المقاربة الفلسفية التحليلية، وهذا ما يفعله الأستاذ سومز بطريقة متميّزة.

يبدأ الكتاب بمقدمة تعريفية بمنهج المؤلف في الكتابة، ثمّ يتبعُ المقدّمة أربعة عشر فصلاً، كلّ فصلٍ منها يتناول حقلاً معرفياً محدّداً، وتتباين الاهتمامات الفلسفية للمؤلف بين موضوعات كلاسيكية كتلك التي نلمحها في عناوين الفصول التالية: «الحرية والعدالة والمجتمع الصالح، والقوانين ومؤسسات الدولة، وموضوعية الأخلاق، والفضيلة والسعادة والمعنى في مواجهة الموت، والموت النبيل لكلّ من سقراط وديفيد هيوم»، وموضوعات تختصّ بكيفية التعشيق المفاهيمي بين الفلسفة والموضوعات التخصصية، وهو ما نلحظه في الفصول المعنونة بالعناوين التالية: «المنطق الحديث وأسس الرياضيات»، و«المنطق»، و«الحوسبة وولادة العصر الرقمي»، و«علم اللغة»، و«علم الاختيار العقلاني»، و«العقل والجسد والعلوم المعرفية»، و«الفلسفة والفيزياء». لم ينسَ المؤلف التمهيد لكتابه بفصول تاريخية موجزة تضع القارئ في السياق التاريخي المطلوب لتسبيب المآلات الفلسفية اللاحقة، وهذا ما نشهده في الفصول التي جاءت بعناوين «فجر الفلسفة الغربية»، و«هدنة بين الإيمان والعقل»، و«بدايات العلم الحديث»، و«مجتمعات حرّة وأسواق حرّة وناس أحرار».

يؤكّد المؤلف الأهمية الجوهرية للفلسفة (الغربية في أقلّ تقدير)، ويناقضُ أطروحة موت الفلسفة التي شاعت في سياق التبشير بموت المفاهيم والكينونات الشخصانية (موت المؤلف - موت الرواية...) مع تصاعد موجة ما بعد الحداثة. لا يكتفي المؤلف بنقض أطروحة موت الفلسفة؛ بل ينفي أنّ الفلسفة الغربية ضلّت طريقها:

«... الفلسفة الحديثة والمعاصرة في الغرب لم تضلّ طريقها؛ بل على العكس من ذلك واصلت سجلّها الحافل بالنجاحات في وضع الأسس المفاهيمية للتقدّم في المعرفة النظرية، وفي تطوير الدراسة المنهجية للأخلاق والفلسفة السياسية ورفاهية الإنسان...».

يؤكّد المؤلف في موضع آخر من تقديمه للكتاب الطبيعة التواصلية للفيلسوف المعاصر مع العلماء والمشتغلين في حقول التقنية والإنسانيات. ما مِن فيلسوف معاصر يحيا في جزيرة (فلسفية) معزولة. هذا وهم لن يتحقق ولا فائدة منه:

«... كنت أعلمُ أنّ لدينا، نحن الفلاسفة، في الصورة العامة، الكثير من التواصل المهني المثمر مع علماء الرياضيات والفيزياء والأحياء وعلماء النفس واللغة والإدراك، وعلماء الاقتصاد والأعصاب والسياسة، وأساتذة القانون والمؤرخين وعلماء الكلاسيكيات وغيرهم. ولأنّي رئيس لقسم الفلسفة في جامعة جنوب كاليفورنيا شهدتُ الترحيب الإيجابي الذي لاقاه الفرعان الجامعيان متعددا التخصصات (الفلسفة والسياسة والقانون، والفلسفة والفيزياء)، وآمل أن يلقى الفرع الجديد (الفلسفة والسياسة والاقتصاد) الترحيب ذاته لدى طلّابنا...».

قد نرى مغالاة في تخصص ثلاثي الأطراف (فلسفة وسياسة واقتصاد)؛ لكنّ جامعة أكسفورد البريطانية تدرّسُ هذا التخصص المشتبك منذ سنوات بعيدة، والمعروف أنّ معظم رؤساء الوزارة البريطانية درسوا هذا التخصص الثلاثي المثير.ا

الفلسفة الحديثة والمعاصرة في الغرب لم تضلّ طريقها؛ بل على العكس من ذلك واصلت سجلّها الحافل بالنجاحات في وضع الأسس المفاهيمية للتقدّم في المعرفة النظرية


مقالات ذات صلة

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

كتب إيمانويل كانط

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟

لطفية الدليمي
كتب «الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري

رشا أحمد (القاهرة)
شمال افريقيا الكاتب الجزائري بوعلام صنصال يتحدث في مؤتمر صحافي خلال الدورة الثانية والستين لمهرجان برلين السينمائي الدولي 9 فبراير 2012 (أ.ب)

الجزائر تواجه دعوات متزايدة للإفراج عن الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال

دعا سياسيون وكتاب وناشطون إلى الإفراج عن الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال.

«الشرق الأوسط» (الجزائر)
كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

سردار عبد الله يحاول ملء الفراغ في سيرة الشيخ النقشبندي

سردار عبد الله يحاول ملء الفراغ في سيرة الشيخ النقشبندي
TT

سردار عبد الله يحاول ملء الفراغ في سيرة الشيخ النقشبندي

سردار عبد الله يحاول ملء الفراغ في سيرة الشيخ النقشبندي

صدر عن دار «نوفل - هاشيت أنطوان» كتاب «موجَز الرحلتَيْن في اقتفاء أثر مولانا ذي الجناحَيْن» للكاتب والسياسي العراقي الكردي سردار عبد الله. في هذا الكتاب، الذي نال تنويهاً من جائزة ابن بطّوطة لأدب الرحلات، يحاول سردار عبد الله، من خلال رحلتين قام بهما في عام 2018 إلى الهند، ملء الفراغ في سيرة الشيخ النقشبندي.

هناك، في مدينة جيهان آباد القديمة، قضى الشيخ خالد النقشبندي عاماً في منتصف القرن التاسع عشر، أسهمت تلك السنة في تعزيز دور الشيخ لإحداث تغييرات بعد عودته؛ إذ تبنى الطريقة النقشبندية التي باتت تسمى فيما بعد باسمه «النقشبندية الخالدية». تقودنا هذه الرحلة إلى أحداث تاريخية مهمة حينها مثل سقوط ولاية بغداد والطريقة الصوفية البكتاشية. فكانت طريقته الصوفية بمثابة البديل الروحي أولاً؛ ما أحدث تحولاً كبيراً في تركيبة الزعامة الكردية، التي انتقلت من طبقة الأمراء والإقطاع إلى رجال الدين المتنوّرين.

اتخذ الكاتب قراراً جازماً بألا يعود من الهند ما لم يعثر على ذلك المكان المجهول، غير أنه في رحلة بحثه تلك، يخوض في التاريخ تارة وفي العجائب والطرائف التي يصادفها في تلك البلاد تارة أخرى.

«كيف لنملةٍ أن تطارد نسراً؟»، يتساءل الكاتب، كيف لمريدٍ أن يقتفيَ آثارَ شيخٍ حملَ الشريعةَ على جناحٍ والحقيقةَ على آخر، وجابَ بهما أصقاع الدنيا مُحلِّقاً؟

في هذه الرحلة الممتعة في الزمان والمكان والروح، يُشاركُ الكاتب قرّاءَه تفاصيلَ رحلتَيْه إلى الهند عام 2018؛ بحثاً عن خانقاه الشاه عبد الله الدهلوي. هناك، في مدينة جيهان آباد القديمة، قضى الشيخ خالد النقشبندي عاماً خلال بدايات القرن التاسع عشر، عاد من بَعدِه إلى كردستان وبغداد والشام، يحملُ طريقةً أحدثتْ تحوّلاً كبيراً في المنطقة، في فترةٍ مهمّةٍ تاريخيّاً شهدتْ سقوط ولاية بغداد، وسقوطَ الإمارات الكُرديّة؛ ما خلق فراغاً رهيباً في السلطة.

في كتابه، الذي يقع في 216 صفحة، يتساءل سردار عبد الله ثانية: «لماذا يثور مَن تتلمذ على يد الشيخ النقشبندي، بدءاً بالشيخ النهري في كردستان وصولاً إلى الأمير عبد القادر في الجزائر، ضدّ المحتلّين؟»، فتأخذ الرحلة بُعداً أعمق...

ويكتشف كاتبُنا. فبعدما اتخذ قراراً جازماً بألّا يعود من الهند ما لم يعثر على المقام المنشود، سيعثر المُريد على كنوز المعرفة ودُرَرِ المشاهَدات وهو في طريقه إلى الوجهة الأساسيّة.

وسردار عبد الله - كاتبٌ وسياسيّ كرديّ ومرشَّحٌ سابق لرئاسة العراق. ترأّس هيئة تحرير مجلّاتٍ وصحفٍ كرديّةٍ عدّة، بعد سنواتٍ قضاها في جبال كردستان ضمن قوّات البيشمركة الكرديّة. له إصدارات عدّة باللغتَيْن الكرديّة والعربيّة. «موجز الرحلتَيْن في اقتفاء أثر مولانا ذي الجناحَين» هو كتابه الثاني الصادر عن «دار نوفل» بعد روايته «آتيلا آخر العشّاق» (2019).