«خلف ستائر القرار»... ووراء كواليس صناعته

العلياوي يوثق تفاصيل عمل حكومة حيدر العبادي (2014 - 2018)

«خلف ستائر القرار»... ووراء كواليس صناعته
TT

«خلف ستائر القرار»... ووراء كواليس صناعته

«خلف ستائر القرار»... ووراء كواليس صناعته

أن تكون مؤرخاً أكاديمياً ومستشاراً سياسياً لرئيس جمهورية بحجم جمهورية العراق، لا بد أن يتنازع في داخلك حس الأكاديمي الذي يتوق إلى تسجيل وتدوين الأحداث التي تكون أنت جزءاً منها أو على الأقل مطلعاً عن قريب عليها، مع حس السياسي الذي يحاول قدر الإمكان أن يبقي كثيراً من الحقائق الحساسة تحت الستار حفاظاً على الأمن القومي والتعايش السلمي في بلد تلعب فيه الطائفية والتنافس القومي والصراعات السياسية دوراً سلبياً ليس من الحكمة معه إبراز تلك الحقائق والكشف عنها على الملأ.

الدكتور عبد الله محمد العلياوي انخرط في النضال السياسي بانضمامه إلى الاتحاد الوطني الكردستاني منذ أيام شبابه، وبقي في المجال الأكاديمي باحثاً ومؤرخاً ومحاضراً في جامعة صلاح الدين، متأثراً بعبارة علقت في ذهنه أيام الدراسة الجامعية –كما يذكر في مقدمة الكتاب– ألا وهي أن «الأحداث اليومية هي السياسة الآن لكنها التاريخ غداً»، ومن ثم نائباً للبرلمان العراقي في دورته الأولى (2006 – 2010)، إلى أن كلفه الرئيس العراقي الأسبق الدكتور فؤاد معصوم عام 2014 العمل معه مستشاراً سياسياً في القصر الجمهوري بالعاصمة العراقية بغداد.

من هنا حاول الدكتور العلياوي أن يكون أميناً قدر الإمكان لمهنته الأصلية (الأكاديمي) فاستأذن من الرئيس أن يمثله في جلسات الحكومة العراقية حتى يدوّن تدويناً تفاصيل وأحداث تلك الجلسات لكي تتجاوز روايتها القال والقيل وتُقيّد للأجيال القادمة بالكتابة والتسجيل.

يذكر المؤلف في مقدمة الكتاب أسباب تأليفه، والظروف التي عاصرت تكليفه مهمة العمل مستشاراً للرئيس ونبذة قصيرة عن طبيعة انعقاد الجلسات الحكومية وبعض تفاصيلها؛ من مثل التأخر الدائم لرئيس الحكومة حيدر العبادي عن مواعيد الجلسات نحو ساعة من الزمان، وأيضاً استمرار الجلسات لفترات طويلة دائماً وأحياناً إلى ست ساعات، خلافاً لسابقيه الدكتور إياد علاوي والدكتور إبراهيم الجعفري والسيد نوري المالكي ولاحقاً الدكتور عادل عبد المهدي الذين كانوا ملتزمين بمواعيد الجلسات بدقة والذين كانت الجلسات تتسم أيام حكمهم بعدم الإطالة.

لكن من ناحية أخرى، يذكر المؤلف للدكتور العبادي احترامه آراء الوزراء وإفساح المجال لهم لمناقشة كل شيء، رغم تجاوز بعض الوزراء اختصاص وزارته والتدخل في شؤون وزارات أخرى وذلك لقلة خبرتهم. الأمر الذي كان يؤدي برئيس الوزراء إلى أن يكون حازماً في حالات عدة درءاً لحدوث خلافات ومنافسات داخل الحكومة. ويشيد المؤلف أيضاً بذكاء العبادي وإتقانه الجيد للإدارة ربما لتمكنه من اختصاصه الأول، علم الرياضيات، كما يقول، لدرجة يرى أنه «لولا هذا الذكاء وإتقان العبادي للإدارة لانهارت الحكومة العراقية مالياً» مع وجود الأزمة الاقتصادية وعدم تمكن الحكومة من تسديد رواتب الموظفين وصعوبات سياسية وأمنية كثيرة، مثل بروز تنظيم «داعش» واحتلاله كثيراً من المدن وتهديده مدناً أخرى، وأزمات أخرى كثيرة ورثها العبادي عن سابقيه.

وبعد المقدمة، يكتب المؤلف تفاصيل عن «كيف أصبح العبادي رئيساً للوزراء؟» كون هذا المنصب عادةً من أهم المناصب التنفيذية في العراق. ويلاحَظ في هذا الفصل تأكيد من الكاتب على ممانعة كل الأطراف العراقية بدءاً من الأحزاب المختلفة ومروراً بالمرجعية وانتهاء بأميركا وإيران، طبعاً كل جهة لها أسبابها، لإعادة ترشيح المالكي لولاية ثالثة رغم حصول قائمته «دولة القانون» على 90 مقعداً، وهو أكبر عدد من المقاعد في الانتخابات التشريعية. ويبدو أن الكاتب كان له رأي آخر في مصداقية وأحقية هذا الانطباع السيئ عن نوري المالكي وسمعته، فيرى أنه لم يكن يستحق كل هذا الجفاء والاستبعاد والخوف اللامبرر من ردود فعله في حال رُشح للمنصب شخص آخر وتمت الموافقة عليه.

على أي حال، بعد تداول 7 أسماء، في الإعلام وفي اللقاءات السياسية، لترشيحها لمنصب رئيس الوزراء، استقر الرأي أخيراً على الدكتور حيدر العبادي الذي كان من الأعضاء البارزين في حزب «الدعوة»، وشغل منصب وزير الاتصالات من قبل، والذي كان قد طلب بنفسه من إبراهيم الجعفري تقديم اسمه للمنصب الشاغر.

يذكر المؤلف احترام رئيس وزراء العراق الأسبق لآراء الوزراء وإفساح المجال لهم لمناقشة كل شيء

ولم يواجه حيدر العبادي صعوبة تُذكر في تشكيل الحكومة ما عدا خلاف مع الكرد على عدد وزاراتهم، فتوصل معهم إلى حل بمنحهم بعض المناصب والوزارات الإضافية.

ومن بعد هذه المقدمات للكتاب، يسرد المؤلف وقائع جلسات حكومة العبادي وهي 207 جلسات على امتداد 4 سنوات حاول ألا يغيب عنها منذ الجلسة الخامسة عشرة في 23-12-2014 بعد أن تم تكليفه بحضور الجلسات ممثلاً عن رئيس الجمهورية إلى آخر جلسة في 23-10-2018.

يعدّ كتاب الدكتور عبد الله العلياوي، الذي يشغل حالياً منصب مستشار أقدم للرئيس العراقي الحالي، إضافة للمكتبة العربية خصوصاً للباحثين والمؤرخين العراقيين، ومن الممكن تصنيفه في خانة الكتب التوثيقية على غرار كتاب «تاريخ الوزارات العراقية» للمؤرخ العراقي الراحل عبد الرزاق الحسني.

وهذا الكتاب ليس الأول من نوعه للمؤلف، فقد سجل من قبل يوميات تحرير مدينة أربيل، مسقط رأسه، في انتفاضة الشعب العراقي ضد نظام صدام حسين في مارس (آذار) 1991 ونشر اليوميات في كتاب باللغة الكردية. وسجل أيضاً يومياته وما كان يدور من نقاشات بين الكتل السياسية في مجلس النواب عندما كان نائباً في البرلمان في دورته الأولى، ومن المؤمل أن تصدر في كتاب قريباً.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم