صلاح الدين... القائد الذي راوغ التاريخ!

بين النص الإنجليزي والترجمة العربية الجديدة قرن وربع القرن

صلاح الدين... القائد الذي راوغ التاريخ!
TT

صلاح الدين... القائد الذي راوغ التاريخ!

صلاح الدين... القائد الذي راوغ التاريخ!

لم يزل كتاب المستشرق ستانلي لين بول «صلاح الدين وسقوط مملكة بيت المقدس» المصدر الأهم في التأريخ العسكري والدبلوماسي لفترة الحروب الصليبية، ولشخصية القائد صلاح الدين الأيوبي.

بين الأصل الإنجليزي المنشور عام 1898 والترجمة التي صدرت عن «الدار المصرية اللبنانية» بالقاهرة مطلع هذا العام مدة قرن وربع القرن، وهذا في حد ذاته أمر غريب في وجود هذا العدد الضخم من مؤسسات الترجمة العربية. توجد ترجمة سابقة للكتاب بتوقيع فاروق سعد أبو جابر، وهي الأخرى حديثة نسبياً (عام 1998) على نفقة المترجم، مطبوعة في «مطابع الأهرام».

تكشف الترجمة الجديدة عن مترجم وباحث من الطبقة الأولى ولعاً وإتقاناً، هو علاء مصري النهر، الذي كانت رسالتا ماجستيره والدكتوراه عن حقبة الحروب الصليبية، وقد خرجت الترجمة في ضعف حجم الكتاب الأصلي، بما أضافه النهر من هوامش وتوضيحات وإضافات كلما كانت هناك حاجة إلى إضاءة ما ورد بالنص الإنجليزي اقتضاباً، عائداً إلى المصادر العربية الأصلية. كما اجترح علاء النهر لنصه لغة عربية كلاسيكية تضاهي كلاسيكية لغة لين، كما ضمَّن مقدمته ثبتاً بكل ما كُتب عن صلاح الدين تأريخاً أو تخييلاً روائيّاً في الإنجليزية، والفرنسية، والإيطالية، والروسية، المعرّب منها وغير المعرب.

الممثل السوري غسان مسعود في دور «صلاح الدين» بفيلم «مملكة السماء»

يقع السِفر الجديد في 672 صفحة من القطع الكبير، وتسبق مقدمة المترجم مقدمتان أخريان؛ إحداهما للدكتور أيمن فؤاد سيد، والثانية للدكتور أحمد سالم سالم الذي سبق أن قدَّم عن الدار نفسها عام 2014 الكتاب بالغ الشهرة «تاريخ مصر في العصور الوسطى» للمؤلف ذاته، ولم تزل طبعاته تتوالى، وهو من حفَّز النهر على ترجمة الكتاب الثاني «صلاح الدين» الذي «لم يُكتب فيه حرف واحد بشكل عشوائي، بل استند في تأليفه إلى خبرة ووعي كبيرين بأحداث وشخصيات ومصادر تلك الحقبة المفصلية؛ لا أقول في تاريخنا، بل في تاريخ العالم».

من المهد التكريتي إلى اللحد الدمشقي

يقسم لين كتابه إلى خمسة أجزاء، تحيط بحياة صلاح الدين وعصره: التمهيد، والديار المصرية، والإمبراطورية، والجهاد، وريتشارد وصلاح الدين. وكل جزء ينقسم إلى فصول عدة تغطي من ميلاده في تكريت حتى المواجهة مع الملك ريتشارد واسترداد القدس بعد تسعين عاماً من الاحتلال الصليبي، وانتهاءً بموته في دمشق.

تبدو صفحة صلاح الدين ونصر حطين (583هـ ـ 1187م) واحدة من الصفحات المضيئة في تاريخنا، يعرفها قطاع واسع من المثقفين، كما ساهمت السينما في المعرفة الشعبية الواسعة بالحروب الصليبية ومحرر بيت المقدس العظيم. ويمكنننا القول إن صلاح الدين خرج من الأفلام العربية والغربية ليمشي في الشارع، تماماً مثلما ترجل «سي السيد» من ثلاثية نجيب محفوظ، فأصبح نمطاً اجتماعيّاً تعرفه أغلبية لم تقرأ الرواية!

قداسة صلاح الدين العربية الإسلامية تُختبر بين الحين والحين إذا ما اقترب منه أحدهم بالذم، والغريب أن أسطورته في الغرب أضعاف حجمها عندنا. ويكفي أن كتاب ستانلي بول لين قد صدر للمرة الأولى في «سلسلة أبطال الأمم»، التي لم تصطفِ من عظماء الإسلام سوى النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ثم صلاح الدين (وفق المترجم).

يعتمد ستانلي لين بول؛ الذي كان ضليعاً في العربية، بشكل أساسي على «كتاب الروضتين في أخبار الدولتين» لأبي شامة، و«وفيات الأعيان» لابن خلّكان، و«مفرج الكروب في أخبار بني أيوب» لابن واصل، كما يشيد بالقاضي بهاء الدين أبو المحاسن صاحب «النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية» وقد ولاه صلاح الدين القضاء وكان صديقاً ملازماً له في السنوات الخمس الأخيرة من حياته، وقد كان شاهد عيان على حصار عكا من أوله إلى آخره، ويعدّه أبعد من أن ينافق مليكه؛ بل كتب ما أراد بصدق، وإن كان هناك منْ أثر لإعجاب بقائده فهناك المرجع الضد، وهو ابن الأثير الذي لديه كل سبب سياسي للانتقاص من صلاح الدين مغتصب إرث أسياده المحليين، ونقف عنده على واحد أو اثنين من الاتهامات الخطرة. هذا الذي يجمله ستانلي لين يوضحه علاء النهر في هوامشه، فقد شكك ابن الأثير في براعة صلاح الدين العسكرية بانسحابه من أمام أسوار صور، كما انتقده لأنه كره أن يقطع الخطبة للفاطميين ليكونوا احتياطاً في مواجهة نور الدين، وللسبب ذاته انسحب من أمام حصن الشوبك بعد أن حاصره وكاد يستولي عليه، حتى لا يتعاون مع نور الدين الذي كان قد توجه لدخول بلاد الفرنجة من جهة أخرى.

موضوعية ستانلي لين

المفارقة أن توخي ستانلي لين الدقة لم يضمن تفلت صلاح الدين من التاريخ، فبقيت شخصيته جانحة نحو الأسطورة، من لحظة صعود نجم آل أيوب التي جاءت مصادفة، ففي يوم الخميس؛ ثاني عشر شهر ربيع الآخر لسنة 526هـ (1132م)، وصل إلى الضفة اليسرى من نهر دجلة القائد عماد الدين زنكي مهزوماً بعد أن قصد مع السلطان السلجوقي مسعود بن محمد بن ملك شاه حصار بغداد على خلافة المسترشد بالله. وقد أقام دزدار (والي) قلعة تكريت، معبرةً عبر عليها القائد الهارب (تحتمل أن تكون مراكب) ووفر له المأوى بالقلعة مع ما تبقى من جنوده، ولم يكن هذا الدزدار سوى أيوب المُلقَّب «نجم الدين»، وعندما عاد نجم «زنكي» للصعود لم ينس الرجل الذي آواه (أيوب المعروف بنور الدين) والذي فتح الطريق لأبنائه، وبينهم «يوسف» المُلقَّب صلاح الدين.

التوازن الذي كتب به ستانلي لين بول عن صلاح الدين ومعاركه ومفاوضاته لم يشفع له لدى قطاع عريض من الدارسين الذين جاءوا بعده، إذ عدّوه منحازاً للقائد العربي. وهو ما يرفضه دارس جديد هو ديفيد نيكول في مقدمته لطبعة 2002 الإنجليزية من كتاب لين بول. وقد تواصل معه المترجم العربي وحصل على مقدمته وألحقها بالطبعة العربية. يكتب نيكول: «لا أعتقد أن احترام لين بول وتقديره صلاح الدين ـ كما هو بادٍ في كتابه ـ قد طغت عليه المثالية أو عبادة البطل. فمن منطلق أنه كاتب سيره اعترف بأن السلطان لم يكن قديساً، عدّ صلاح الدين ـ بكل وضوح ـ رجلاً جيداً جداً وعظيماً جداً. يقدم لين بول الحاكم المسلم على أنه سياسي ماهر؛ عنيف بين الفينة والأخرى».

ويرى ديفيد نيكول أن ما يُميز لين بول عن كتاب عصره الأوروبيين هو تخففه من عنصرية عصره، بفضل حياته في المشرق العربي ومعرفته العميقة به. ومع ذلك يعدّ الكتاب «التاريخ الأصلي قبل المنقح عن حياة صلاح الدين» ومن باب الإعجاب يسجل نيكول أن لين بول اعتمد على مصادر أقل من المتاح في هذه الأيام، ومع ذلك لم يتغير ميزان الأدلة.

مقاومة التاريخ

في الفصل الختامي يرصد ستانلي لين بول حضور صلاح الدين الأسطوري في الرواية الأوروبية، متتبعاً جذور الأسطورة إلى رواية ريتشارد قلب الأسد القروسطية التي يعتقد أنها أخذت شكلها الحالي في فاتحة القرن الرابع عشر. في هذه الرواية المنظومة، نرى ريتشارد طريح الفراش أمام عكا يطلب بإلحاح لحم خنزير، وخدمه في حالة يأس من الحصول على لحم الخنزير في بلد مسلم، فيلجأ فارس داهية إلى قتل مسلم فيجد فيه ريتشارد «لحم خنزير شهيّاً». وبكرم الضيافة يجرب اللحم على أسراه المسلمين، فيدعوهم إلى مائدة رسمية، حيث يزين كل طبق برأس صديق حميم!

صلاح الدين في تلك الرواية، ينازل ريتشارد فينهزم ويولي هارباً إلى القاهرة، لكنه يجرؤ على العودة ويتحدى ريتشارد في نزال فردي. وهنا ترد باختلافات القصة عن الجواد الذي بعث به صلاح الدين إلى ريتشارد لما رآه يقاتل مترجلاً بيافا. يستدعي صلاح الدين منجمه البارع في السحر فيستحضر اثنتين من الأرواح الشريرة في شكل حصانين يمنح ريتشارد أحدهما، وبهذا يضمن أن يتجه به الحصان إلى قرينته (الفرس التي يمتطيها صلاح الدين) فيقع في الشرك في اللحظة الحاسمة، لكن ريتشارد يروض هذا السحر!

جاءت الترجمة ضعف حجم الكتاب الأصلي بما أضافه المترجم من هوامش وتوضيحات وإضافات كلما كانت هناك حاجة... عائداً إلى المصادر العربية الأصلية

وفي الروايات الفرنسية مخزون وافر من الأساطير حول صلاح الدين، ففي «حكايات منشد ريميس ـ 1876» كثير من المشهيات الإيروتيكية، حيث يضرب المنشد عرض الحائط بوقائع التاريخ ويجعل لصلاح الدين مغامرات مع إليناور دوقة آكيتاين، التي أصبحت فيما بعد زوجة هنري الثاني وأم ريتشارد الأول، لكنها في وقت القصة كانت زوجة لويس الشاب ملك فرنسا، وكان صلاح الدين صبيّاً.

في روايات القرون الوسطى تعميد مسيحي لصلاح الدين وأوقاف أوقفها لدير مسيحي، ولا يستبعد ستانلي لين بول أن يكون السير والتر سكُوت؛ صاحب رواية «الطلسم ـ 1835»، قد قرأ تلك الروايات ذات الخيال المجنح على الرغم من أنه لم يترك نفسه تماماً لها، وتتسم روايته بتحريف أقل، وإن بدا أن صاحب الطلسم لم يعرف أن صلاح الدين وريتشارد لم يلتقيا مطلقاً وجهاً لوجه رغم متانة العلاقة بينهما سواء أكانت عدائية أم دبلوماسية. مع ذلك؛ فصورة صلاح الدين مرسومة ببراعة ودقة فريدة، ولتلك الرواية يدين صلاح الدين باختصار اسمه الذي صار معتمداً في الأدبيات الغربية «Saladin»؛ اسماً ذائع الصيت لا يحتاج صاحبه إلى تعريف.

ويتعجب سكُوت من أن الشرق، الذي كان مصدراً لكثير من الحكايات الجذابة، يكاد يكون قد أهمل صلاح الدين كليّاً في أدبه الروائي، على الرغم من أن «ألف ليلة وليلة» لا تستخف بالقصص الصليبية، والشاهد على ذلك «حكاية الملك عمر بن النعمان وولديه شركان وضوء المكان». وحكاية الملك عمر النعمان، التي يشير إليها ستانلي لين بول، من أطول حكايات «الليالي»؛ تحتل «الليالي» من الرابعة والأربعين حتى الليلة السابعة بعد المائة، وتتناول حروباً بين ذلك الملك وولديه مع النصارى، ما بين القسطنطينية ودمشق وبغداد، وتتسع حركة الأبطال لتشمل الحجاز والقدس. أسباب الحروب في القصة أعمال قرصنة وخطف لبنات الملوك وليست حروب عقيدة، وإن وردت العقيدة في الخلفية، ويقول الراوي في بدايتها إنها وقعت قبل زمن عبد الملك بن مروان، بينما ترد في سياق القصة حكايات عن شخصيات من زمن تالٍ مثل أحمد بن حنبل وبشر الحافي، وهذا دأب «ألف ليلة وليلة» في مراوغة التاريخ.

إلا إن اسم صلاح الدين لا يرد ولو مرة واحدة في «الليالي»، ويعد الإهمال أكثر غرابة إذا ما عرفنا أن «الليالي» أخذت صيغتها الأخيرة في القاهرة، حيث كان منشئ القلعة دائماً بطلاً محبوباً. ويعلل ذلك بأن المسلمين معجبون بانتصارات صلاح الدين، بينما كان كرم الشخصية، وليس نجاح المسيرة، هو الذي أسر الأوروبيين. ربما نستطيع أن نضيف هنا تكهناً آخر، إلى تكهن لين بول، وهو أن سيرة السلطان انسجمت مع رواية الفروسية التي كانت جنساً أدبيّاً أوروبيّاً مسيطراً في ذلك الوقت.


مقالات ذات صلة

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «جدة تقرأ» عنوان معرض الكتاب 2024 (المركز الإعلامي)

الكتاب الورقي ينتصر على الأجهزة الرقمية في معرض جدة

في ظل التطور التقني والاعتماد المتزايد على الكتب الإلكترونية، حسم زوار معرض جدة للكتاب 2024 الجدل لصالح الكتاب الورقي

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق دور النشر شهدت إقبالاً كبيراً من الزوار من مختلف الأعمار (هيئة الأدب والنشر والترجمة)

«جدة للكتاب»... مزيج غني بالمعرفة والإبداع بأحدث الإصدارات الأدبية

يعايش الزائر لـ«معرض جدة للكتاب 2024» مزيجاً غنياً من المعرفة والإبداع يستكشف عبره أحدث الإصدارات الأدبية، ويشهد العديد من الندوات وورش العمل والجلسات الحوارية.

إبراهيم القرشي (جدة)

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية
TT

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام، ولفت الانتباه؛ لأن رواية المانجا «أنستان» أو «الغريزة» لصاحبها المؤثر أنس بن عزوز، الملقب بـ«إنوكس تاغ» باعت أكثر من 82 ألف نسخة خلال 4 أيام. وهو إنجاز كبير؛ لأن القصّة الموجهة إلى جمهور من القرّاء الشباب قد خطفت المرتبة الأولى في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً من «الحوريات»، الرواية الفائزة بجائزة «الغونكور» لهذه السنة.

ولمن يستغرب هذا الرواج أو اهتمام دور النشر بالكُتاب المبتدئين من صنّاع المحتوى، فإن الظاهرة ليست بالجديدة؛ حيث إن كثيراً من المكتبات والمواقع أصبحت تخصّص رفوفاً كاملة لهذه النوعية من الكتب، كسلسلة «#فولوي مي» التابعة لدار «أشيت»، والتي تضم أعمالاً للمؤثرين تتوزع بين السّير الذاتية والقصص المصوّرة والتنمية البشرية والأسفار، وحتى الطبخ.

في فرنسا، أول تجربة من هذا القبيل كانت عام 2015، بكتاب «إنجوي ماري»، وهو السيرة الذاتية للمؤثرة ماري لوبيز المعروفة بـ«إنجوي فنيكس» (6 ملايين متابع على إنستغرام). وإن كان البعض لا يستوعب أن تكتب فتاة في سن العشرين سيرتها الذاتية، فقد يستغرب أيضاً النجاح التجاري الكبير الذي حصل عليه هذا الكتاب؛ حيث باع أكثر من 250 ألف نسخة، رغم الهجوم الشديد على الأسلوب الكتابي الرديء، حتى لقَّبتها مجلة «لي زنكوريبتبل» الثقافية متهكمة بـ«غوستاف فلوبير الجديد». شدّة النقد لم تمنع زملاءها في المهنة من خوض التجربة نفسها بنجاح؛ المؤثرة ناتو (5 ملايين متابع على يوتيوب) نشرت مع مؤسسة «روبرت لافون» العريقة رواية «أيقونة»، قدمت فيها صورة ساخرة عن عالم المجلات النسوية، وباعت أكثر من 225 ألف نسخة. وتُعدُّ دار نشر «روبرت لافون» بالذات الأكثر تعاوناً مع صناع المحتوى؛ حيث نشرت لكثير منهم.

في هذا السياق، الأكثر نجاحاً حتى اليوم كان كتاب التنمية البشرية «الأكثر دائماً+» لصاحبته لينا محفوف، الملقبة بـ«لينا ستواسيون» (5 ملايين متابع على إنستغرام) وباع أكثر من 400 ألف نسخة.

مجلة «لي زيكو» الفرنسية، تحدثت في موضوع بعنوان «صناع المحتوى؛ الدجاجة التي تبيض ذهباً لدور نشر» عن ظاهرة «عالمية» من خلال تطرقها للتجارب الناجحة لمؤثرين من أوروبا وأميركا، حملوا محتواهم إلى قطاع النشر، فكُلّلت أعمالهم بالنجاح في معظم الحالات. المجلة استشهدت بالتجربة الأولى التي فتحت الطريق في بريطانيا، وكانت بين دار نشر «بانغوين بوكس» والمؤثرة زوي سوغ (9 ملايين متابع على إنستغرام) والتي أثمرت عن روايتها الناجحة «فتاة على الإنترنت» أو «غور أون لاين»؛ حيث شهدت أقوى انطلاقة في المكتبات البريطانية بـ80 ألف نسخة في ظرف أسبوع، متفوقة على سلسلة «هاري بوتر» و«دافنشي كود».

المجلة نقلت بهذه المناسبة حكاية طريفة، مفادها أن توم ويلدون، مدير دار النشر، كان قد تعاقد مع المؤثرة بنصيحة من ابنته البالغة من العمر 12 سنة، والتي كانت متابعة وفيّة لها.

ومما لا شك فيه هو أن اهتمام دور النشر بأعمال المؤثرين يبقى مدفوعاً بالأرباح المادية المتوقعة، وهو ما أكده موضوع بمجلة «لوبوان» بعنوان «المؤثرون آلة لصنع النجاحات التجارية في قطاع النشر». كشف الموضوع عن أن تحويل المحتوى السمعي البصري لصناع المحتوى إلى الكتابي، أصبح بمثابة الورقة الرابحة للناشرين، أولاً لأنه يوفر عليهم عناء الترويج الذي تتكفل به مجتمعات المشتركين والمتابعين، وكل وسائل التواصل التابعة للمؤثرين، والتي تقوم بالعمل بدل الناشر، وهو ما قد يقلّل من خطر الفشل؛ بل قد يضمن الرواج الشعبي للعمل. ثم إنها الورقة التي قد تسمح لهم في الوقت نفسه بالوصول إلى فئات عمرية لم تكن في متناولهم من قبل: فجمهور المراهقين -كما يشرح ستيفان كارير، مدير دار نشر «آن كاريير» في مجلة «ليفر إيبدو»: «لم يكن يوماً أقرب إلى القراءة مما هو عليه اليوم. لقد نشرنا في السابق سِيَراً ذاتية لشخصيات من كل الفضاءات، الفرق هذه المرة هو أن المؤثرين صنعوا شهرتهم بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، ولهم جمهور جاهز ونشيط، وإذا كانت هذه الشخصيات سبباً في تقريب الشباب إلى القراءة، فلمَ لا نشجعهم؟».

شريبر: الكتاب بعيد كل البعد عن مستوى «الغونكور» وبأن كاتبته لم تقرأ في حياتها كتاباً باستثناء الكتاب الذي كتبته

هذه المعطيات الجديدة جعلت الأوضاع تنقلب رأس على عقب، فبينما يسعى الكتاب المبتدئون إلى طرق كل الأبواب أملاً في العثور على ناشر، تأتي دور نشر بنفسها إلى صناع المحتوى، باسطة أمامهم السّجاد الأحمر.

وإن كان اهتمام دور النشر بصنّاع المحتوى لاعتبارات مادية مفهوماً -بما أنها مؤسسات يجب أن تضمن استمراريتها في قطاع النشر- فإن مسألة المصداقية الأدبية تبقى مطروحة بشدّة.

بيار سوفران شريبر، مدير مؤسسة «ليامون» التي أصدرت مذكرات المؤثرة الفرنسية جسيكا تيفنو (6 ملايين متابع على إنستغرام) بجزأيها الأول والثاني، رفض الإفصاح عن كم مبيعات الكتاب، مكتفياً بوصفه بالكبير والكبير جداً؛ لكنه اعترف في الوقت نفسه بلهجة ساخرة بأن الكتاب بعيد كل البعد عن مستوى «الغونكور» وبأن كاتبته لم تقرأ في حياتها كتاباً باستثناء الكتاب الذي كتبته؛ لكنها لم تدَّعِ يوماً أنها تكتب بأسلوب راقٍ، وكل ما كانت تريده هو نقل تجاربها الشخصية إلى الجمهور ليأخذ منها العبَر.

الناقد الأدبي والصحافي فريديك بيغ بيدر، كان أكثر قسوة في انتقاده لكتاب المؤثرة لينا ستواسيون، في عمود بصحيفة «الفيغارو» تحت عنوان: «السيرة الذاتية لمجهولة معروفة»؛ حيث وصف العمل بـ«المقرف» و«الديماغوجية»، مضيفاً: «بين الأنا والفراغ اختارت لينا ستواسيون الخيار الثاني». كما وصف الكاتبة الشابة بـ«بالجاهلة التي تعترف بجهلها»، منهياً العمود بالعبارة التالية: «147 صفحة ليس فيها سوى الفراغ، خسرتُ 19 يورو في لا شيء».

أما الناشر بيار سوفران شريبر، فقد قال في مداخلة لصحيفة «لوبوان»: «اتهمونا بنشر ثقافة الرداءة؛ لكن هذه النوعية من الكتب هي هنا لتلتقي بقرائها. إنهما عالمان بعيدان استطعنا تقريبهما بشيء سحري اسمه الكتاب. فلا داعي للازدراء».