الذكاء الاصطناعي بحاجة إلى الفلاسفة

يحذرون من الإشكاليات الأخلاقية وتفويض القرار للآلة

دانيال أندلر
دانيال أندلر
TT

الذكاء الاصطناعي بحاجة إلى الفلاسفة

دانيال أندلر
دانيال أندلر

لمن يتساءل عن علاقة الفلسفة بالذكاء الاصطناعي، فلا بأس من التذكير بأن الذكاء هو أول المواضيع التي اهتم بها الفلاسفة، بدءاً بأرسطو وأفلاطون ومروراً ببرغسون، دون أن يتفقوا على تعريفه، ثم جاءت التكنولوجيا وأصبحت منذ قرن على الأقل ذات اهتمام واسع، ولذا فإن الجمع بين الاثنين هو محل نقاش فلسفي مزدوج أكثر من أي وقت مضى، ويتمحور الأمر أساساً حول «الأخلاقيات».

ما أفضل الطرق لاستخدام التكنولوجيا؟ للإجابة عن هذه الإشكاليات فإن جهود الفلاسفة ارتكزت على بُعدين مهمين أولهما البُعد الأبستمولوجي أو المعرفي: مثل التساؤل عن ماهية الذكاء الاصطناعي، وهل هو واع أو قادر فعلاً على محاكاة الفكر البشري؟ في هذا المجال يُعد عمل الفيلسوف الأمريكي هوبرت دروفيس من أهم المراجع. وعلى الرغم من أنه ناقش هذه القضية في أواخر السبعينات في كتاب: «ما لا تزال أجهزة الكومبيوتر غير قادرة على فعله» فإن نظرياته لا تزال صالحة في الوقت الراهن. الفيلسوف الأميركي وصل إلى خلاصة مفادها أن الذكاء الاصطناعي لا يستطيع محاكاة الفكر البشري؛ لأن الآلة لن تكون قادرة على القيام بالوظائف العليا التي يقوم بها البشر على نحو كامل، ما دام أن العنصر البشري هو من يقرر.

في نهاية المطاف، تركيزاً على دور «الجسد» في عملية التفكير، وبعيداً عن أفلام الخيال، حاول فلاسفة آخرون فك لغز «الوعي» عند الآلات الذكية. ديفيد تشالمرز أحد الفلاسفة الأكثر تأثيراً في الحقل البحثي الخاص بطبيعة الوعي، وبتفسيره الخاص لمفهوم الوعي، فاجأ الجميع حين أقر بأن نسبة احتمال ظهور ذكاء اصطناعي «واع» قد تصل إلى 20 في المائة في العشر سنوات المقبلة.

وفي كتاب «الذكاء الاصطناعي، الذكاء البشري، اللغز المزدوج» (دار نشر غاليمار)، الذي صدر في مايو (أيار)، اعترف الفيلسوف وباحث الرياضيات الفرنسي دانيال أندلر، وهو أحد أقطاب البحث في هذا المجال، بأنه كان أول المُرحبين بالذكاء الاصطناعي قبل أن يغير رأيه وبالأخص بسبب الإشكالية «الأخلاقية» وعدم التحكم التّام في «الوحش» الذي صنعناه كما يقول: «بخصوص (وعي الذكاء الاصطناعي) أي دليل نستطيع تقديمه لنبرهن على وجود (وعي) عند الآلة الذكية؟ ليس لدينا مفهوم واضح ومحدد للوعي». ثم يواصل «إذا كانت هناك حكمة من قصّة بلاك لوموان مهندس (غوغل) الذي طُرد من عمله بعد أن أقر بأن روبوت الدردشة (لمدا) يتمتع بوعي وإحساس، فهي أن الآلة الذكية تغير تصورنا للعلاقة بين الإنسان والآلة، وهي من اليوم فصاعداً قادرة على التلاعب بنا، ولذا فإن السؤال الأهم هو كيف نحمي أنفسنا من نفوذها ونفوذ المجموعات التجارية التي تقف وراءها...؟». وفي سياق آخر يهتم الفلاسفة بمناقشة التحديات الاجتماعية والإنسانية والحضارية التي تواجه مجتمعاتنا في المستقبل القريب، وهل يحل الذكاء الاصطناعي بديلاً عن العمل البشري أو يتكامل معه؟

ديفيد تشالمرز

في كتابه «وعظ الروبوتات» (دار نشر فلاماريون) يكتب الفيلسوف من جامعة مونتريال مارتان جيلبر أن دخول الذكاء الاصطناعي أصبح وشيكاً في حياتنا اليومية: من السيارات ذات القيادة الذاتية إلى الروبوتات العسكرية والمساعدين الافتراضيين للأطفال والمسنين كلها مدعوة لاتخاذ قرارات متعلقة بسلامتنا. ولذا فهو يوصي ببساطة بمرافقة التدريب العميق الذي يسمح للخوارزميات بتلقي عدد هائل من المعلومات إلى تدريب «آخر» انطلاقاً من أخلاق وتصرفات بشر «فاضلين» للحصول على «روبوتات متخلّقة». ويستشهد بـ«تاي»، وهي شخصية افتراضية لمراهقة أميركية أطلقتها «مايكروسوفت» عام 2016 لتعليمها تلقائيا حوارات تجريها مع الشباب والمراهقين على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن سرعان ما بدأت بنشر تغريدات عنصرية مؤيدة للنازيين بسبب ما تعلمته من مستخدمي «تويتر» حتى اضطرت «مايكروسوفت» إلى توقيفها. ومع ذلك يعترف الفيلسوف والباحث في جامعة مونتريال بأن «الذكاء الاصطناعي» يبقى علبة سوداء لا نتحكم دائماً في أسرارها ولا نفهم دائماً ردود أفعالها، مستشهداً بحادثة الطائرة التي يقودها الذكاء الاصطناعي والتي تمرّدت على مُشغلها إثر اختبار فقتلته. مثل هذه التصرفات لم يتم تدريب الآلة عليها، وهو الجانب الغامض المعروف باسم «هلوسات الذكاء الاصطناعي»، والتي تتضمن أيضاً الأخبار الزائفة والمعلومات الخاطئة. أما ألكسندر لاكروا مدير تحرير مجلة «فيلوسوفي» الفرنسية فقد وضع نقاط استفهام كثيرة حول «حرية الاختيار والقرار». وفي مقال بعنوان: «هل ستعرف السيارات القيادة بشكل جيد؟» نشر لاكروا مقالا في العدد الخاص بالذكاء الاصطناعي الذي أصدرته المجلة الفلسفية تحدث فيه عن «معضلة عربة الترام»، وهي واحدة من أكثر الإشكاليات مناقشة في الفلسفة الأخلاقية المعاصرة، وقد أعاد طرحها ليناقش مشاريع السيارات الذاتية القيادة التي يريد «غوغل» إطلاقها بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي. كتب لاكروا «إذا كنت سائقاً وعلى وشك الاصطدام لأنك فقدت التحكم في الفرامل وكان عليك أن تختار بين دهس فريق من 5 أشخاص أو شخص واحد فمن تختار؟ الغالبية الساحقة ستجيب الشخص الواحد طبعاً ولكن ماذا لو كان هذا الشخص طفلا؟ أو ابنك؟ أو شخصية محبوبة ككلياني مبابي أو من النساء الحوامل؟ والآن تخيل أن خوارزميات الذكاء الاصطناعي هي من ستتخذ القرار...» في النهاية خلص الفيلسوف الفرنسي إلى استنتاج أن الإنسان يلعب بالنار حين يفوض «حقه في الاختيار» إلى الآلة، فنحن نقرر تحت تأثير اعتبارات ثقافية، وإنسانية، ودينية تختلف من مجتمع لآخر بينما تخضع الآلة لتدريب مجموعات تجارية تحتكر هذه التكنولوجيا، ولا تمثل سوى مصالح ثقافة معينة في وقت معين.

السؤال الأهم هو كيف نحمي أنفسنا من نفوذ الآلة ونفوذ المجموعات التجارية التي تقف وراءها؟

دانيال أندلر

وإن بدت الهوة عميقة بين السباق المجنون الذي دخلته المجموعات التي تحتكر تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لأغراض ربحية ونقاش الفلاسفة الذي يتطلب التأمل والبحث، إلا أن عمالقة التكنولوجيا قد أدركوا بسرعة أهمية هذا الدور. «غوغل» مثلاً يستعين منذ فترة طويلة بالفلاسفة لتطوير أنظمته الذكية، جيمس مانيكا وهو نائب رئيس التكنولوجيا والمجتمع عند «غوغل» شرح في ندوة نظمت في مايو الماضي أن المجموعة تستعين بالفلاسفة «لتتأكد أن يبقى الذكاء الاصطناعي أخلاقياً ويتطور ليصبح جريئاً ومسؤولاً في الوقت نفسه». كما نقلت صحيفة «لي زيكو» الفرنسية خبراً عن المدير العام لـ«مايكروسوفت فرنسا»، الذي أعلن أن أكثر الوظائف المفتوحة في مجموعته في العشر السنوات المقبلة هي لحاملي شهادات في الفلسفة والرياضيات، الفلاسفة بصفة خاصة لأنهم، كما يقول الخبر، «خير من يدعو إلى طرح الأسئلة في بيئة لا تبحث إلا عن أجوبة جاهزة...». لكن الأمور لا تسير بسرعة حسب البعض لأن الذكاء الاصطناعي يتطور كل يوم بخطوات عملاقة. ليتيسيا بوليكونك مديرة مختبر الأفكار «أنبياس أيتيك» حثّت الشركات على تكثيف تعاونها مع الباحثين والفلاسفة، مؤكدة أنه إن لم نرافق تعميم الذكاء الاصطناعي بالتفكير في طبيعة الإنسان فإن المجتمع الإنساني سيغرق في انجرافات خطرة. وتقول بوليكون في حوار نشرته صحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «أمام مجيء الذكاء الاصطناعي ينقصنا الفلاسفة»: «في تقرير (دلفو) الذي قُدم للجنة الأوروبية في 2017 تمّ اقتراح قوانين مثالية وآيديولوجية مثل حماية حقوق الروبوتات أو تحديد شخصية قانونية لهم... كيف يعقل ذلك ولم نحدد بعد معنى الروبوت أو الآلة الذكية؟ هل يمكن عدّ الجوال أو جهاز التحكم مثلاً آلات ذكية؟ ومن المسؤول عن القرارات التي تتخذ؟ هل هي الشركة، المخترع، أم الآلة نفسها؟ مثل هذه النصوص ترتكز على تصور للإنسان والآلة بعيد كل البعد عن واقع، الأخطر من ذلك أن 90 في المائة من الخبراء الذين شاركوا في (دليل أخلاقيات المفوضية الأوروبية حول الذكاء الاصطناعي) هم من عالم التكنولوجيا والأعمال، المعالجة إذن لم تكن إنسانية، بل تجارية بحتة. من الضروري وضع الفلسفة وكذا علم النفس والاجتماع والتربية والسياسة والقانون في قلب النقاش حول الذكاء الاصطناعي».


مقالات ذات صلة

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

كتب دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

يضم الكتاب مجموعة من البحوث والدراسات الأكاديمية وموضوعات وقراءات تتعلق بالجانب الاجتماعي - الاقتصادي

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
كتب بعض واجهات المكتبات

موجة ازدهار في الروايات الرومانسية بأميركا

الصيف الماضي، عندما روادت ماي تنغستروم فكرة فتح مكتبة لبيع الروايات الرومانسية بمنطقة فنتورا بكاليفورنيا

ألكسندرا ألتر
كتب الرواية الخليجية... بدأت خجولة في الثلاثينات ونضجت مع الألفية

الرواية الخليجية... بدأت خجولة في الثلاثينات ونضجت مع الألفية

يتناول الناقد والباحث اليمني د. فارس البيل نشأة وجذور السرد الإبداعي في منطقة الخليج وعلاقة النص بالتطورات الاجتماعية والاقتصادية المتلاحقة

رشا أحمد (القاهرة)

المشاعر التي يمكن أن تترافق مع تعلّم الرياضيات

المشاعر التي يمكن أن تترافق مع تعلّم الرياضيات
TT

المشاعر التي يمكن أن تترافق مع تعلّم الرياضيات

المشاعر التي يمكن أن تترافق مع تعلّم الرياضيات

نقرأ في بعض تفاصيل سيرة ويلارد غبس (Willard Gibbs)، الفيزيائي الأميركي الذي حقّق منجزات كبرى في حقل الفيزياء الإحصائية، وإليه يُعزى مفهوم «الإنتروبيا» (Entropy) ذائع الشهرة، أنّه سُئل - عندما كان أستاذاً للفيزياء في جامعة ييل الأميركية بدايات القرن العشرين - عن رأيه في تخفيض عدد دروس الرياضيات لصالح زيادة دروس اللغة؛ فأجاب غِبس باقتضاب مفرط: «الرياضيات لغة».

لا يكاد رأي غبس يختلف عن رأي كثيرين من المختصين بالفيزياء والرياضيات بشأن طبيعة الرياضيات؛ فهم يرونها لغة مثل باقي اللغات مع خصوصيتها المميزة في كينونتها الغارقة في الرمزية والقواعد المنطقية الصارمة؛ هذا أولاً، وثانياً تمثل الرياضيات لغة عالمية لم تبلغها أي لغة متداولة، وربما في هذا الشأن تتماثل الرياضيات مع الموسيقى، وثمة من يراها «موسيقى كونية مكثفة». حتى الفوضى (Chaos) محكومة بقانون رياضياتي!!

الرياضيات في جوهرها أحد المنجزات الحضارية الرائعة للإنسان، وهي إحدى الخصائص اللصيقة بكلّ مجتمع متقدّم تقنياً في وقتنا الحاضر. كلّ مجتمع متقدّم من هذه المجتمعات لا بدّ أن تكون له «مدرسته الخاصة في التفكير الرياضياتي»، تماماً مثل حقول الأدب والموسيقى والتقنية والعمارة. يبدو هذا الأمر أقرب لقانون حتمي؛ لذا كانت دراسة الرياضيات من كلّ أوجهها (التعليمية والفلسفية والتطبيقية) ضرورة لازمة.

حتى نفهم أهمية الرياضيات بعيداً عن الأمثلة التقليدية السائدة سأقدّمُ شاهدة واحدة نعيشها ونختبرها كل آن. لو دققنا في طبيعة التقنيات عبر العصور لرأينا زيادة نسبة العنصر الرمزي في هذه التقنيات مع الزمن. يمكن القول إنّ مركز الاهتمام والتطوير التقني صار يبتعد عن المشخصات المادية الصلبة ويقترب من التشكيلات الرمزية المعقّدة. الهندسة (Engineering) مثلاً: كانت الهندسة المدنية بكلّ تفريعاتها (الهندسة الإنشائية وهندسة السدود والطرق والهندسة الجيوتقنية وهندسة الموارد المائية) هي اللون الطاغي على الهندسة في القرن التاسع عشر، ثم انحرف الاهتمام الأكبر نحو الهندسة الكهربائية في النصف الأول من القرن العشرين. أما مع بدايات الألفية الثالثة وما بعدها، فقد صار الذكاء الاصطناعي والبيانات الكبيرة والروبوتات وتعلّم الآلة هي العناوين الكبيرة للهندسات السائدة؛ تعليماً جامعياً، وتطبيقات صناعية، واستثمارات مليارية تنفق عليها الدول الكبرى بسخاء، وترى فيها بعض مفاتيح تفوقها الجيوستراتيجي. وليس خافياً أنّ هذه الهندسات تتأسس على أنماط خاصة من الرياضيات جوهرها البرمجيات والخوارزميات. هذه بعض الأسباب التي تدفع اليوم حكومات العالم المتقدّم لمراجعة خططها التعليمية، فيما يخص الرياضيات على كل المستويات (ما قبل الجامعية والجامعية والدراسات العليا وحتى مرحلة ما بعد الدكتوراه)؛ لأنّ أي نكوص أو تخلف ستترتب عليهما أثمانٌ باهظة التكاليف.

يتطلب الاهتمام بالرياضيات ترغيباً بدراستها من قبل الحكومات، ومن بعض جوانب هذا الترغيب نشرُ كتب تعريفية بالرياضيات، بعيداً عن الطريقة البيداغوجية (التلقينية) المدرسية الرتيبة التي دفعت كثيرين من الطلبة إلى تطوير رؤية غير محببة تجاه الرياضيات، واعتبارها مادة صارمة لا تقبل سوى الإجابات اليقينية الصارمة (صح أم خطأ) بعيداً عن روح المغامرة والاستكشاف. أحد هذه الكتب التي تخدم هذا الغرض بكيفية ممتازة هو الكتاب الذي ألّفته إيوجينيا تشينغ (Eugenia Cheng) ونشرته أواخر عام 2023، الكتاب بعنوان: «هل الرياضيات واقعية؟ كيف تقودُنا أسئلة طفولية بسيطة للكشف عن الحقائق الأعمق للرياضيات» (Is Maths Real? How Simple Questions Lead Us to Mathematics’ Deepest Truths).

الأستاذة إيوجينيا تشينغ بروفيسورة رياضيات بريطانية مولودة في هونغ كونغ عام 1976، معروفٌ عنها اهتمامها بالسياسات التعليمية، فضلاً عن كونها عازفة بيانو في الحفلات الموسيقية، وهي تقود جهوداً عالميةً لمكافحة الخوف من الرياضيات، كما تكرّس جزءاً كبيراً من جهودها لتعليم الرياضيات لغير المختصين بها. لها كتب عديدة حول طبيعة الرياضيات وتعليمها وفلسفتها.

تؤكّد المؤلفة في مقدمتها للكتاب أنّ كتابها هذا ليس كتاباً عن تقنية رياضياتية أو تاريخ الرياضيات؛ بل هو عن المشاعر التي يمكن أن تترافق مع تعلّم الرياضيات. تمضي في توضيح مشاعرها الشخصية فتكتب أنها حزينةٌ حقاً، لأنّ الرياضيات موضوعٌ صار مبعث هذا القدر العظيم من الاستقطاب المتنافر: البعضُ يرى الموضوع قريباً منه إلى حدّ أن يسمّي أعضاء هذا البعض أنفسهم «شعب الرياضيات» (Math People)، وفي المقابل ثمّة بعضٌ آخر مسكون بقناعة يقينية ثابتة بأنّ أعضاءه سيئون في الرياضيات. يجب علينا في هذا الموضع ألا نتناسى حقيقة جوهرية: القليلُ - والقليل للغاية فحسب - من خصائص السلوك البشري يمكن توصيفها بتوصيفات قاطعة على شاكلة أبيض أو أسود. قدراتنا البشرية غالباً ما تقعُ في نطاق طيف مستمر (Continuum)، لكنّ الشيء الأكثر أهمية فيما يخصُّ قدراتنا البشرية هو أنّ كل قدرة من هذه القدرات يمكن أن تصبح أفضل لو تلقّى المرء تدريباً جاداً بطريقة صحيحة. ليس من الضروري أن يدع المرء منّا ندوبَ ذاكرته الناجمة عن تجاربه المدرسية المؤلمة هي ما يشكّلُ رؤيته المستقبلية تجاه أي حقل معرفي وليس الرياضيات فحسب. تكتب المؤلفة في هذا الشأن:

«من جانبي أعلمُ من خبرتي التعليمية المتواترة أنني عندما مارستُ تجربة تعليم الرياضيات لأطفال بعمر الخامسة أو السادسة، فإنّهم أغلب الأحيان كانوا يتقافزون بهجة وفرحاً وإثارة، ولم يعرفوا تجربة الخوف من الرياضيات إلا في سنوات لاحقة. المعضلة الأساسية، كما أحسبُ، تكمنُ في تعجّلنا لنقل المحتوى التقني للرياضيات إلى الدارسين. نحن في العادة لا نمنحُ مشاعر الدارسين كفايتها من الاهتمام بمثل ما نفعلُ مع المحتوى التقني. المناهج التعليمية للرياضيات تفشلُ في تحبيب الأطفال بالرياضيات وزرع حبها فيهم. ليست هذه المثلبة مخصوصة على معلّمي الرياضيات فحسب؛ إذ لا يمكن تبرئة المنظومة التعليمية منها».

المنظومة التعليمية تقيسُ مقدرة الدارسين على أساس الإنجاز التقني وليس بهجة التعلّم؛ لكن في كلّ الأحوال فإنّنا لو اتخذنا مبدأ التركيز على المحتوى التقني على حساب المشاعر فليس من المحتمل أن تفوز مشاعر البهجة في سباق الأفضلية التعليمية على أساس قياس النتائج المتحققة من الفاعلية التعليمية كلها. الأسوأ من فقدان بهجة التعلّم هو أن تنتج لنا العملية التعليمية أناساً يخافون الرياضيات ويُشكّكون بقيمتها الفاعلة إلى حدّ يجعلهم غير قادرين على تطبيق تقنيات القواعد المنطقية والكمّية في العالم الواقعي.

إنّ فكرة كون أحدٍ ما سيئاً في الرياضيات - وكأن الطبيعة أرادته أن يكون سيئاً بطريقة قصدية مسبقة - هي فكرة بائسة إلى حدود بعيدة ولأسباب كثيرة؛ فهي توكلُ أمر التفوق الرياضياتي إلى الطبيعة بصورة كسولة، وتنكرُ في الوقت ذاته حجم الجهد الذي يتطلبه التفوق في الرياضيات. تعلّم الرياضيات يتطلب زمناً وجَلَداً ومطاولة بالتأكيد؛ لكنّ ذلك الجهد لا يتوجّب بالضرورة أن يكون حفلة تعذيب شاقة، وليس من مسوّغ مقبول ليكون كذلك؛ بل على العكس يمكن أن يكون تحدياً مقروناً بحس المغامرة، ومن ثمّ المكافأة اللذيذة بدلاً من حس الخذلان وفقدان رغبة الاستمرارية وبهجة التعلّم. المقاربة التعليمية المفتقدة لحس البهجة والمغامرة في تعلّم الرياضيات ستكون سبباً كافياً لدفع كثرةٍ من الدارسين للتوقف عن دراسة الرياضيات، وفي المقابل سيكون من اليسير على المنظومة التعليمية اعتبارُ هؤلاء غير مناسبين أو ممتلكين للوسائل المناسبة الكافية لدراسة الرياضيات. بعد كلّ هذا فإنّ الوسائل الرتيبة المُنفّرة في تعليم الرياضيات ستوفّرُ للمعلّمين وصانعي السياسات عذراً يجعلونه سبباً لعدم مراجعة سياساتهم التعليمية والارتقاء بها عبر جعلها أكثر مرونةً وإبداعاً، وكذلك لتصميم مقاربات تعليمية من شأنها إيقافُ هذا الهدر البشري الذي قد يجعل كثرة من الموهوبين كارهين للرياضيات بسبب سياسات التعليم المنفّرة.

بعد مقدمتها المسهبة للكتاب التي تحكي فيها المؤلفة عن جوانب من سيرتها الذاتية مع الرياضيات (حبها ونفورها ثم عودة حبها للرياضيات خلال أطوار مختلفة من مسيرتها التعليمية، مساعدة أمها لها في جعل الرياضيات موضوعاً محبباً، جوانب من دراستها الدكتوراه، كيف ساعدتها الرياضيات في عشق الموسيقى والفن بعامة) تمضي المؤلفة في متون كتابها الذي وضعته في ثمانية فصول: الفصول الأربعة جعلتها تنقيبات مفاهيمية وفلسفية في أسئلة قد تبدو ساذجة لكنها ذات طبيعة وجودية تأصيلية عميقة: من أين تأتي الرياضيات؟ لماذا تنجح الرياضيات في عملها؟ لماذا نمارس الرياضيات؟ ما الذي يجعل الرياضيات ممارسة مفيدة؟ بعد هذه الفصول التأسيسية للفلسفة الرياضياتية تقدّم المؤلفة أربعة فصول إضافية تتناول تفاصيل إضافية منها على سبيل المثال فصل تقدّمُ فيه حكايات رياضياتية، وهو فصل أجده عظيم الأهمية في تعشيق الحقول المعرفية بالممارسة السردية التي تُعدُّ خصيصةً جوهريةً للإنسان كيفما كان ولعه المعرفي واشتغاله المهني.

تؤكّد المؤلفة كخلاصة جوهرية لكتابها:

«إنّه لأمرٌ يوجع قلبي حقاً عندما أرى النظام التعليمي الحالي وهو يجعلُ من بهجة غامرة لأطفال بأعمار الخامسة، وهم يتعلّمون الرياضيات لأوّل مرة في حياتهم، تستحيلُ خوفاً ونفوراً من الرياضيات عندما يبلغون الثامنة عشرة. حقيقةٌ واحدةٌ أراها بكل الوضوح ولن أجادل أبداً بشأن مصداقيتها: لو كنتَ ترى نفسك تنتمي لجماعة (أنا سيئ في الرياضيات) فاعلم أنّ قناعتك هذه ليست لأنّك عجزت عن فهم الرياضيات، بل لأنّ تعليم الرياضيات لم ينجح في جعلك تتحسس جمال الرياضيات وعظمتها، وقبل هذا أهميتها العملية في عالمنا المعاصر».

هل الرياضيات واقعية؟ كيف تقودُنا أسئلة طفولية بسيطة للكشف عن الحقائق الأعمق للرياضيات

Is Maths Real? How Simple Questions Lead Us to Mathematics’ Deepest Truths

المؤلفة: إيوجينيا تشينغ

Eugenia Cheng

الناشر: Basic Books

عدد الصفحات: 336

تاريخ النشر: 2023