صيدٌ ثمين من الكتب الفرنسية الجديدة

جولة في معرض الكتاب بالرباط

صيدٌ ثمين من الكتب الفرنسية الجديدة
TT

صيدٌ ثمين من الكتب الفرنسية الجديدة

صيدٌ ثمين من الكتب الفرنسية الجديدة

منذ ثلاث سنوات لم أخرج من بيتي، أكاد أقول من جُحري، إلا مرتين: المرة الأولى في شهر مارس (آذار) الماضي عندما حضرت معرض الكتاب الرائع في مدينة أربيل الحضارية العريقة. وهذه المرة عندما حضرت معرض الكتاب في العاصمة المغربية: الرباط. وفي كلتا الحالتين تشعر بالسعادة الغامرة لأنك محاط بكل هذه الكتب والأجنحة والأروقة. في كلتا الحالتين تشعر أنك في عرس، وأي عرس؟ إنه عرس الكتاب! إنه عرس المتنبي يا جماعة: وخير جليس في الزمان كتاب.

عمَّ كنت أبحث في معرض الكتاب هذا؟ عن مجموعة كتب كانت قد صدرت مؤخراً ولم يُتَح لي التعرف عليها بعد. الكتاب الأول هو التالي: «الفلسفة والمسيحية للمبتدئين»، تأليف واحد من أهم فلاسفة فرنسا المعاصرين: لوك فيري. لا تغشنَّكم كلمة «للمبتدئين» فتعتقدوا أنها موجَّهة إلى الأطفال الصغار. لا، أبداً. إنها موجهة إلى الكبار، وكبار الكبار. هذه سلسلة مشهورة في الساحة الباريسية وقد اتخذت هذا الاسم على سبيل الدعابة والمزاح. إنها جدية أكثر مما نتصور. هذا الكتاب يخترع نظرية كاملة متكاملة عن العلاقة بين الفلسفة والدين. هذا الكتاب يدرس الدين من وجهة نظر فلسفية عميقة. من هنا أهميته. صحيح أنه يركز على المسيحية ولكنّ ما يقوله ينطبق أيضاً على الإسلام وبقية الأديان الكبرى. السؤال المطروح هو التالي: لماذا لم نعد قادرين على الاعتقاد والإيمان كما كان يفعل آباؤنا وأجدادنا؟ لماذا لم تعد الفلسفة خادمة مطيعة وذليلة لعلم اللاهوت الديني كما كان عليه الحال طيلة العصور الوسطى في الغرب وكما لا تزال عليه الحال في الشرق حتى اللحظة؟ ما معنى الفرق بين الفهم الظلامي للدين/ والفهم الأنواري المضيء المستضيء بنور العقل ووهج الفلسفة؟ مَن هم كبار الفلاسفة الذين جددوا فهم الدين في أوروبا تجديداً جذرياً راديكالياً؟ كيف استطاعوا القضاء على الظلامية الدينية ومحاكم التفتيش؟ هذه الأسئلة وكثير غيرها يطرحها كتاب لوك فيري الكبير هذا.

أنتقل الآن إلى كتاب آخر كنت أترقب صدوره بفارغ الصبر. وهو لفيلسوف آخر منافس للسيد لوك فيري في الساحة الباريسية: عنيتُ ريمي براغ، وعنوانه بكل بساطة: «عن الإسلام». منشورات غاليمار في أربعمائة صفحة من القطع الكبير الأنيق. هذا الكتاب قد يثير عاصفة شديدة من طرفنا نحن العرب والمسلمين. قد يؤلمنا وربما يجرحنا ولكن لا نستطيع تجاهل التساؤلات الصعبة، أكاد أقول الحارقة، التي طرحها علينا وعلى تراثنا الديني الكبير. إنه يصدمنا، يزعزعنا، يزلزلنا. إنه يريد أن يدفّعنا ثمن «داعش» عداً ونقداً. هل هو مخطئ؟ ولكنه يقسو علينا أكثر مما يجب. رفقاً بنا يا مسيو ريمي براغ! أوضاعنا صعبة بل أكثر من صعبة. دارت علينا الدوائر يا سيدي. عصور الانحطاط والظلام ترفض أن تلفظ أنفاسها الأخيرة عندنا، بل إنها الآن تشهد أحلك لحظات دياجيرها.

غلاف كتاب ريمي براغ «عن الإسلام»

إنها أقوى من أي وقت مضى. الشارع العربي لها وكذلك الشارع التركي والإيراني والباكستاني، إلخ. لا يمكن تجاهل مثل هذا الكتاب على الرغم من قسوته. لماذا؟ أولاً لأن صاحبه واحد من أهم الفلاسفة الفرنسيين في وقتنا الراهن. إنه عالم أكاديمي كبير متبحر في العلم إلى أقصى حد ممكن. إنه لا يلقي الكلام على عواهنه. وثانياً لأنه فيلسوف متدين. مَن يصدق ذلك؟ هذا شيء أصبح عملة نادرة في الساحة الفرنسية. الجميع يفتخرون بأنهم ملاحدة ليلاً نهاراً فقط. هذا ليس موقف ريمي براغ. إنه فيلسوف مسيحي كاثوليكي ويعلن ذلك على رؤوس الأشهاد. ولذلك يهمني جداً أن أعرف رأيه في الإسلام وإن كنت غير متفق معه، أو قُلْ إني متفق ومختلف، لكي أكون أكثر دقة. وذلك لأن صاحبه أهم فيلسوف مسيحي في وقتنا الراهن ليس فقط في فرنسا وإنما في أوروبا كلها. ثم إنه ليس ظالماً لنا على طول الخط؛ فهو يعترف بالغنى الكبير للتراث الفلسفي والعلمي في اللغة العربية، ويعترف بمديونية أوروبا له في القرون الوسطى. فلولاه لما كانت نهضتها. وبالتالي فالرجل موضوعي: يأخذ ويعطي. وإذا كان يوبّخنا حالياً فمن شدة حرصه علينا. إنه يريد لنا أن ننهض من كبوتنا، أن نتجاوز «داعشيتنا»، أن نلحق بركاب آبائنا وأجدادنا عندما كانوا منارات للأمم والشعوب.

إنه يريدنا أن نستحق ماضينا المجيد عندما كانت الحضارة العربية الإسلامية أرقى حضارة في العالم. مَن منّا لا يحلم بعصر ذهبي ثانٍ بعد عصر الرشيد والمأمون وعبد الرحمن الثالث في قرطبة؟ ينبغي العلم أن ريمي براغ مختص كبير في الفلسفة العربية واليهودية، وبالطبع المسيحية إبان القرون الوسطى. وقد علَم ذلك لسنوات طويلة ليس فقط في جامعة «السوربون»، وإنما أيضاً في جامعة «لويس وماكسميليان» في ميونيخ بألمانيا. بمعنى آخر فإنه يعرف فكر الفارابي وابن سينا وابن رشد وابن ميمون أكثر منّي ومنك. وبالتالي فهو ليس فقط عالماً بالمسيحية، دينه الأصلي، وإنما عالم أيضاً باليهودية والإسلام وبالتفاصيل الدقيقة. إنه مطلع تماماً على الأديان التوحيدية أو الإبراهيمية الثلاثة، نسبةً إلى إبراهيم الخليل. وهي الأديان التي شيَّدت لها الإمارات العربية المتحدة مركزاً روحياً كبيراً باسم: «بيت العائلة الإبراهيمية». وهو الذي يقع على أرض جزيرة السعديات في أبوظبي. وأثبتت بذلك أن العرب ليسوا كلهم ظلاميين تكفيريين، على عكس ما يشاع عنهم في الغرب والشرق. أثبتت أن هناك طريقة أخرى لفهم الإسلام الحنيف غير طريقة الإخوان المسلمين، وكل ما نتج عنهم من حركات تطرف وعنف وإرهاب. وكانت الإمارات بذلك مخلصةً لروح القرآن الكريم وجوهره العظيم.

أخيراً دعوني أتحدث عن كتاب ثالث. إنه للكاتب الفرنسي ريشار مالكا. وقد فوجئت بمدى دقة تشخيصه للمرض العضال الذي نعاني منه حالياً. ولم أكن قد سمعت باسمه من قبل قط ولا باسم كتابه الذي يحمل العنوان التالي: «رسالة في التعصب». وهو بذلك يعارض اسم كتاب فولتير الشهير: «رسالة في التسامح». وهو الكتاب الذي قدمت عنه هنرييت عبودي ترجمة عربية ممتازة بطلب من الدكتور محمد عبد المطلب الهوني، أحد رعاة التنوير العربي في هذا العصر.

غلاف كتاب ريشار مالكا «رسالة في التسامح»

قلت يعارضه ولكن للفت الأنظار فقط، وذلك لأنه فولتيري وتنويري محض. كيف يشخّص هذا الباحث المقتدر مشكلتنا؟ إنه يقول ما معناه: هناك إسلام الأنوار/ وهناك إسلام الظلمات. وإسلام الأنوار هو العدو الرئيسي لإسلام الظلمات. الإسلام ليس كتلة واحدة صماء، بكماء، عمياء. متى سيفهم الغرب ذلك؟ الإسلام دين عالمي كبير مؤلَّف من شخصيات عظمى وتيارات. إنه من أغنى التراثات الدينية والثقافية والحضارية للبشرية. من يتذكر ذخائر العرب أو ذخائر التراث؟ هناك إسلام الفلاسفة/ وهناك إسلام الدعاة الواعظين. هناك إسلام التجديد والابتكار/ وهناك إسلام التقليد والاجترار. وفي وقتنا الراهن هناك إسلام الحداثيين التنويريين/ وإسلام المتزمتين الظلاميين. والمعركة مفتوحة.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم