الغطرسة... الإسكندر الأكبر ونابليون أبرز من يمثلها عبر التاريخ

باحث فنلندي يرى أن «عبادة الذات» تغير كيمياء المخ

نابليون بونابرت
نابليون بونابرت
TT

الغطرسة... الإسكندر الأكبر ونابليون أبرز من يمثلها عبر التاريخ

نابليون بونابرت
نابليون بونابرت

«تاريخ الغطرسة - هل تعرف مع من تتحدث» عنوان كتاب يجمع بين التشويق والطرافة، للباحث الفنلندي آري تورنين، صدرت ترجمته عن دار «العربي» بالقاهرة، وترجمته عن الألمانية الدكتورة سمر منير.

يشير المؤلف إلى أن ما يسمى «الهوس النرجسي» و«عبادة الذات» هما من أبرز أشكال الغطرسة على مر التاريخ، فالحكام الذين تعتريهم نشوة السلطة، مثل نابليون بونابرت، لديهم «نقاط عمياء»؛ أي طموح جامح، وأهداف لا يمكن الوصول إليها، وهوس بالعمل والإنجاز، واحتياج إلى شعور بالتقدير يبرزونه من خلل المبالغة في تأكيد مظهرهم الخارجي. مثل هؤلاء الناس يضخّمون قيمتهم الذاتية، ويفرضون وصايتهم على الآخرين، ويجنّ جنونهم عند تعرضهم للانتقاد، ولا يستطيعون أن يعترفوا بأخطائهم أو نقاط ضعفهم.

وغالباً ما تكون المواجهات مع المرضى بالهوس النرجسي مُرهقة، فمن الضروري مجاراتهم؛ لأن الصمت قد يفسَّر على أنه انتقاد لهم. ووفقاً لرأي الفيلسوف فيلوديموس، الذي عاش في العصور القديمة، فإن الشخص المتغطرس ينشغل دائماً بمكانته وقدراته، وباستطاعته أن يتوهم أنه أكثر أهمية من الآخرين، وذلك عندما يؤدي عملاً يظن أنه عمل مهم، أو يعتقد فقط ببساطة أن قدراته تضمن له أن يحقق نجاحاً في المستقبل. ويرى فيلوديموس أن الإنسان المتغطرس ليس مستعداً للتعاون وطلب المشورة، لذلك فإنه يتحمل وحده عبء القيام بمشروعاته ومهامّه، ولا يستطيع أن يحققها إلا فيما ندر.

احتقار الفلاسفة

يذهب فيلوديموس إلى أبعد من ذلك، فيقول إن الشخص المتغطرس يبالغ في إظهار نبل أخلاقه، ولأنه يعامل الآخرين بتعالٍ من جانب واحد، فإن علاقاته الشخصية تتضرر، ويدمر بذلك نسيج مجتمعه، كما يصفه بأنه شخص لا يحافظ على التوازن في صداقاته، ونادراً ما يتصرف بطريقة متحضرة أو متوازنة، كما أنه لا يريد الاعتراف بنقاط ضعفه، أو أن يقدم أي اعتذار، ولا يستطيع أن يشكر الآخرين . وعلاوة على ذلك فإن الشخص المتغطرس يحتقر الفلاسفة؛ لاعتقاده أنهم لا يستطيعون أن يعلّموه شيئاً.

ويؤكد المؤلف أن الغطرسة، وما يصاحبها من استعلاء وغرور وجحود، لها جذور كيميائية عصبية تؤدي إلى شعور هائل بـ«نشوة الانتصار»، فعندما وصل الإسكندر الأكبر ونابليون بونابرت إلى مقاليد الحكم، تغير التركيب الكيمائي لدماغيهما، اللذين تدفق فيهما، عبر النواقل العصبية، الدوبامين والسيروتونين، كما أعيد تنشيط الآلية التنظيمية الكبيرة للدماغ، والتي تنقل شبكاتها إشارات بين عدد من المستقبلات، فانتشرت النبضات في جميع أنحاء الجهاز العصبي لكل من الإسكندر الأكبر ونابليون، واعترت النشوة رأسيهما.

ويستطرد المؤلف موضحاً أن مزاجنا العام يتأثر بالدوبامين والسيروتونين، إذ يستخدم أثرهما في تصنيع مضادات الاكتئاب، كما يحفز الدوبامين الشعور بالرضا عن النفس، ويشارك في ضبط المشاعر، وبالإضافة إلى ذلك فإنه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأنماط السلوكية، التي يسعى من خلالها الإنسان سعياً دؤوباً للحصول على مكافأة. ويمكن أن يؤدي نقص السيروتونين ومستقبِلاته بدوره إلى التفكير بالانتحار، بينما ترتفع معدلات السيروتونين لدى الأشخاص الذين يتم مدحهم ويلقون احتراماً لافتاً.

غلاف الكتاب

في هذا السياق، اكتشف روبرت رايت، المتخصص في مجال علم النفس التطوري، أن معدلات السيروتونين في دم زعماء قطيع الشمبانزي أكبر من معدلاته في دماء بقية حيوانات القطيع. ويمكن للدوبامين والسيروتونين معاً أن يمهدا الطريق للقيام بسلوك واثق، فعندما تكون هاتان المادتان موجودتين في الجهاز العصبي بقدر وفير، تتقلص المشاعر التي تُعرقل العلاقات الفعالة مع الآخرين، مثل مشاعر الخوف والقلق والانكسار، بينما ترتفع الثقة بالنفس، ويشعر الإنسان بأنه نشيط وسعيد وراض.

مثل من ألمانيا

ويعدّ التأثر بالسيروتونين والدوبامين قاسماً مشتركاً بين جميع من يريدون أن يكونوا في المقدمة، أو أن يؤثروا في حياة مَن حولهم، وغالباً ما يعدّ التخلي عن السلطة، بالنسبة لهم، أمراً مستحيلاً، إذ تعدّ الشخصيات القيادية ممن أدمنوا هذين الناقلين العصبيين شخصيات مدمنة للسلطة، ويصعب على كثير منهم أن يعودوا إلى الحياة اليومية، عندما تجري إحالتهم إلى التقاعد. وليس غريباً أن عدداً ليس بقليل منهم يسعى إلى أن يكون عضواً في مجلس إدارة أو لجنة مراقبة ما، أو أن يؤلف، على الأقل، رسائل في بريد القراء، وذلك عندما تنقطع بهم السبل لممارسة أي تأثير، ولا يشعرون بالسعادة حتى مع أحفادهم؛ لأن أدمغتهم ليس بها قدر كاف من هذين الإفرازين.

ويضرب المؤلف مثالاً بما حدث في جمهورية ألمانيا الشرقية السابقة، حيث استهانت قيادتها بشكل أساسي بمشاعر الإحباط التي انتابت سكانها، فعندما ظهر رئيس البلاد إيجون كرينتس أمام كاميرات التلفزيون، في السابع من مايو (أيار) عام 1989، وزعم بجِدية تامة أن «حزب الوحدة الاشتراكي»، الذي يترأسه، حصد 98.85 في المائة من الأصوات، بنسبة بمشاركة انتخابية بلغت 98.85 في المائة، كان الكيل قد طفح لدى مواطني ألمانيا الشرقية. كان هذا الادعاء بمثابة كذبة فجّة لا تَصدر إلا عن متغطرس. واحتجّ للمرة الأولى عدد من المواطنين، وطالبوا بمراجعة نتيجة الانتخابات. والتقى المتظاهرون في الكنائس، وجمعوا قوائم بالأسماء أظهرت أن ما لا يقل عن 10 في المائة من الناخبين صوَّتوا ضد الحكومة، وأن هناك 10 في المائة آخرين لم يصوّتوا على الإطلاق! ونتيجة مشاعر الضجر ظهرت حركة شعبية عارمة أدت، في نهاية المطاف، إلى سقوط سور برلين، في 9 نوفمبر 1989، وإعادة توحيد ألمانيا.


مقالات ذات صلة

تجنّب الأطعمة المعالجة يقلّل خطر السكري

صحتك الأطعمة فائقة المعالجة تشمل الوجبات الجاهزة (جامعة إمبريال كوليدج لندن)

تجنّب الأطعمة المعالجة يقلّل خطر السكري

أفادت دراسة بريطانية بأن تجنّب الأطعمة فائقة المعالجة يقلّل خطر الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
صحتك الانزلاق الغضروفي يؤثر على وظيفة العمود الفقري ويسبب ألماً شديداً (جامعة جونز هوبكينز)

«مخاط الأبقار» يوحي بعلاج للانزلاق الغضروفي

طوّر باحثون في جامعة أوبسالا في السويد جيلاً مبتكراً مستوحى من مخاط الأبقار للمساعدة في علاج مرضى الانزلاق الغضروفي الذين خضعوا للجراحة.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق الدراسة تشير إلى أن الرجال يتسببون في حوادث ومخالفات أكثر من النساء (جامعة وستمنستر)

الرجال أكثر خطورة على الطرق من النساء

أظهرت دراسة روسية، أن الرجال أكثر عرضة بثلاث مرات من النساء لارتكاب المخالفات المرورية والتورط في حوادث السير.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق استخدام التصوير الكيميائي للكشف عن بصمات الأصابع المرفوعة من مسرح الجريمة (جامعة آرهوس)

تقنية جديدة لتحليل بصمات الأصابع كيميائياً في مسرح الجريمة

أظهرت دراسة جديدة أجراها باحثون من قسم الطب الشرعي بجامعة آرهوس الدنماركية، قدرة كبيرة على تحليل بصمات الأصابع باستخدام تقنية التصوير الكيميائي.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق أعطى التراكم الهائل من «البيتا كاروتين» أوراق الخس لوناً ذهبياً مميزاً (الجامعة التقنية في فالنسيا)

الخس الذهبي ينشط المناعة ويعزز الرؤية

نجح فريق بحثي من الجامعة التقنية في فالنسيا بإسبانيا في التوصل إلى طريقة مبتكرة لتقوية أوراق وأنسجة النباتات الخضراء، مما يزيد محتواها من المواد الصحية.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )

«كلاب تنبح خارج النافذة»... انتهازيون في عباءة الثورة

«كلاب تنبح خارج النافذة»... انتهازيون في عباءة الثورة
TT

«كلاب تنبح خارج النافذة»... انتهازيون في عباءة الثورة

«كلاب تنبح خارج النافذة»... انتهازيون في عباءة الثورة

ترصد رواية «كلاب تنبح خارج النافذة»، الصادرة في القاهرة عن «دار صفصافة» للكاتب المصري صبحي موسى فكرة الانتهازيين الذي يحصدون المكاسب من وراء كل ثورة دون أن يشاركوا في أي تضحية تقتضيها الشعارات الحالمة التي يرفعها النبلاء المنادون بالعدل والحرية. وتزداد حدة هذه المعضلة الأخلاقية حين يكون الانتهازي مثقفاً يخون دوره المنتظر في محاولة تغيير الواقع وتنوير الرأي العام. ويتخذ المؤلف من تداعيات «ثورة 25 يناير» 2011 منطلقاً لهذه الفكرة من خلال قصة بطل العمل، الذي يعمل كاتباً وصحافياً، يتم تكليفه بمراقبة شخص آخر يعاني من قصور عقلي. ورغم عبثية الأمر، فإن البطل يؤدي المهمة بجدية شديدة تجعل النص ينطوي على مفارقات درامية بارزة.

تنقسم الرواية إلى جزأين هما «أنجريتا»، وهو مكان عشوائي يقطنه البطل أو الراوي العليم ويقع في منزلة وسطى بين الريف والمدينة دون هوية واضحة سوى القبح والفوضى. الجزء الثاني هو «فئران بدينة»، حيث يشير هذا العنوان، بشكل غير مباشر، إلى عدد من شخصيات الرواية التي تتحرك في بطء وتثاقل وخمول وتبدي لا مبالاة مذهلة تجاه ما يحيط بها حتى لو كان الحدث الأبرز الذي يشغل العالم هو احتجاجات حاشدة في أكبر ميادين البلاد، التي يتابعها العالم لحظة بلحظة، ولا تبعد عن هذه الشخصيات سوى مسافة قريبة للغاية.

من أجواء الرواية نقرأ:

الساعة الآن تجاوزت الثامنة مساء، أشعر أنني في حاجة للترفيه، والاحتفال بأول يوم عمل في وظيفتي الجديدة؛ لذا سأخرج من شقتي باحثاً عن مكان هو الوحيد الموجود في هذه المنطقة الواقعة في آخر العالم، المنطقة المحيطة بالبيت تكاد تكون خالية من الحياة. فقط بعض الكلاب المتصارعة على غنيمة في كومة كبيرة من الزبالة، وبعض المتسولين وجامعي كانزات المياه الغازية، هؤلاء الذين يقومون بتهشيمها في مداخل بيوتهم المظلمة، ثم وضعها في أجولة من الخيش تحملها عربات تقوم بجمعها منهم. أعبرهم في صمت كأنني لا شيء، وأمرُّ في اتجاه الكوبري الممتد أسفل الطريق الدائري، حيث نهاية خط الأتوبيسات القادم من وسط العاصمة إلى هنا، أمرُّ من بين الأتوبيسات الواقفة في محطتها صامتة، فلا أحد في المكان سوى راكبَين ينتظران أتوبيساً لم يأت بعد. وحدهما الظلام والبرد يتجليان بوضوح، الجميع أغلق أبوابه على نفسه، تاركاً إضاءة خفيفة تطل من خلف الزجاج كي تدل على وجودهم في الحياة.

كان الوقت ما زال صيفاً، وعدد الذين في الشارع أكبر من الموجودين في البيوت. سألت بعضهم عن مقهى «سامبو»، ظللت أسأل حتى وجدت رجلاً على مشارف الستين يجلس أمام مكتبة، قال إنه في الشارع القادم أسفل البيت قبل الأخير. لم أستطع أن ألمح الضوء القليل المنبعث من الزجاج المعتم. مررت مرتين بالمكان دون أن أتعرف عليه. رأيت رجلاً يخرج من باب في حالة سكر واضح. دُهشت أنني لم أر ذلك الضوء الخفيف من قبل. ورغم أنني لم أكن متأكداً من صدق توقعي، فإنني قررت المغامرة. سحبت الباب الخشبي إلى الخارج، ثم دفعت على استحياء الباب الزجاجي المعتم إلى الداخل. رأيت ثلاث مناضد موزعة في فراغ لا يزيد عن خمسة أمتار. في الخلفية يجلس رجل عجوز خلف سور لا يزيد عن نصف متر بجانب ثلاجة، وأمامه قِدر يتصاعد منه بخار. كانت إضاءته خافتة. ولم يكن به سوى أربعة زبائن، كل اثنين يجلسان معاً على منضدة، يتهامسان أحياناً، ويعلو صوتهما أحياناً أخرى، بدا أنهم قد بدأوا سهرتهم مبكراً، وبدت المنضدة الثالثة كما لو أنها كانت تنتظرني، فقد غادرها للتو الرجل الذي رأيته خارجاً. كانت زجاجته وبقاياه ما زالت موجودة عليها. جلستُ متأففاً من بؤس المكان، فالمناضد والكراسي من الخشب القديم الذي اكتسب دهانه من تراب وعرق الجالسين عليه».